كتاب الموقع

بانتظار من يقلب الصفحة.. الحريري متردد والبلد على حاله

محمود بري | كاتب وباحث سياسي لبناني

منذ مدة غير قصيرة بات واضحاً أن سعد الحريري لم يعد المرشح “الطبيعي” المقبول لرئاسة الحكومة. وهذا ما لا بد أن “أنتينات” الثنائي الشيعي التقطته مبكراً، وإن كانت مضت قُدماً في تسويق الرجل وإظهار التأييد التام له، مُعتمدة في حراكها السياسي قوانين لُعبة البلياردو التي تقتضي ضرب طابة هنا لتحريك طابة هناك.

ومن غرائب المصادفات أن يكون الرجل القوي في المملكة السعودية، محمد بن سلمان، صاحب اليد الطولى، ولو من حيث لا يريد، في رفع أسهم الحريري لدى الثنائي. فموقفه المتشدد من مواطنه السعودي-اللبناني، ورفع اليد عنه، أغرت الثنائي بمساندته وتأييده أكثر (حتى لبن العصفور)، مع التأكيد بمناسبة وبغير مناسبة، أن الحريري هو الزعيم الأوحد للسنة في لبنان، وأن لا منافس له ولا بديل عنه في البلد الطوائفي، هذا فضلاً عن الاستثمار المتواصل بنتيجة الاستشارات النيابية التي كانت خرجت بتسميته.

صحيح أن الثنائي أوسع إدراكاً من أن “يقبض” مقدرته الذاتية على إعادة الحريري إلى السراي رغم أنف السعودية، إلا أنه وجد في تأييده له والإصرار عليه نافذة يُلوِّح منها بمعارضته سياسة المملكة لبنانياً من جهة، مستفيداً من ذلك، من جهة أخرى، بالتنغّيص على رئيس الجمهورية (وعهده) الذي يزداد تساقطاً وعجزاً بفعل الأزمة المتفاقمة.

ومن هنا يمكن قراءة النداء شبه اليائس الذي أطلقه المهندس جبران باسيل للأمين العام لـ”حزب الله”، والذي جاءت نتيجته الحقيقية دون ما كان يأمل منها الذي أطلقها…

هذا في الداخل، فماذا عن الخارج؟

الواضح أن الغرب عموماً، والفرنسي تحديداً (وخلفه أوروبا)، يرسم لمدّ اليد على لبنان، ليس بما يماثل الدور الفرنسي المكشوف في أفريقيا (مالي)، بل بالسعي إلى تكريس دور عملي فاعل ومؤثر لفرنسا داخل البلد، ترميماً لدورها التاريخي في لبنان بعدما أظهرته زيارات كبار الرسميين الفرنسيين من تهافت تأثير باريس في البلد وتداعيه.

ويمكن توقع سعي فرنسي عاجل لترميم هيبة الإيليزيه التي جرّحها استخفاف الطبقة السياسية اللبنانية بها وعدم تلبية متطلّباتها. كذلك يمكن الإشارة إلى الرغبة الفرنسية في تلبية نوع من “الحنين” المكتوم إلى شكل مُعدّل من أشكال وضع اليد على البلد، ليس بالإنتداب والسيطرة المباشرة مما ولّت أيامه، بل بالإشراف عن بُعد على عملية تعويم البلد من خلال إعادة صياغة النظام وتطعيمه بمكوّنات جديدة من “لبنانيين مُتفرنسين” يعملون على إدارة مرافق ومؤسسات حيوية فيه، ويُساهمون بفعالية في تعديل الشخصية السياسة للبنان و”تصويب” توجهاته المستجدة.

وهذا يتلاقى مع ما يسعى الكرسي الرسولي في الفاتيكان إلى تحقيقه تحت عنوان التدويل، وإن كان يعتمد لغة مختلفة، كما أنه، وهنا الأهم، يُلبّي التوجهات الأميركية المناهضة لتحالف المقاومة الوثيق مع كلٍ من دمشق وطهران، وتناغم هذا  الحلف الثلاثي المتين مع الساعدين الروسي والصيني المفتوحة شهية كلٍ منهما على منازعة واشنطن في المنطقة.

وعلى كل حال فهذا ما لا يخفيه مفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي “جوزيف بوريل”، الذي عبّر خلال زيارته الأخيرة لبيروت عن قلقه البالغ من تدهور الأوضاع فيه، وعن خيبته من فقدان النور في نهاية نفق الأزمة.

وإذا أضفنا إلى ذلك تلك الوشوشات المتطايرة من هنا وهناك عن كون لبنان أصبح “دولة فاشلة”، تصبح الرغبة الفرنسية بإقامة نوع من المساهمة الإنقاذية للبلد المحتضر، صنيعاً جميلاً يتوجب شكر “الأم الحنون” على القيام به.

على الجبهة المحلية لا تبدو الأمور أقل اضطراباً. فعلى عكس ما توقعه الأمين العام لـ”حزب الله”، لا يبدو الحريري (في زيارته الحالية) مهتماً بتشكيل حكومة بقدر اهتمامه بإحراج الرئيس ميشال عون. وهو السلوك الذي جرّبه بنجاعة طيلة الأشهر الثمانية الأخيرة. والمعنى أن أسلوب “دقّي واعصري” المتواصل منذ زمن غير قصير، مرشح للاستمرار… ما لم يحدث ما هو غير مُتوقّع.

وطالما يواصل أقوياء الساحة الداخلية عمليات التسويف والمماطلة في موضوعي الـ “كابيتال كونترول” و”التدقيق الجنائي”، فلن تعمل أي جهة خارجية على تقديم دعم مفيد للبلد، اللهم إلا ما يساهم في تماسك القوى العسكرية الوطنية التي سيكون عليها منع انزلاق الوضع إلى الفوضى المفتوحة.

ووسط هذه الخطوط المتشابكة-المتداخلة-المعقّدة إلى ما لا نهاية، يتبرّع الحريري بوضع رقبته تحت مقصلة التنافس غير الودّي بين الرياض وأبو ظبي. وهذا ما لن يدفع ثمنه لا محمد بن سلمان ولا محمد بن زايد.

وبينما لم يصدر عن بعبدا والمصادر القريبة منها ما يفيد بمعطيات جديدة إيجابية بعد لقاء الحريري مع رئيس مجلس النوّاب، يهتم المتابعون بمراقبة كيفية انعكاس أزمة الحريري وإخراجه، إن أُخرج، على مُشغّله المحلّي، الأمر الذي سيؤثر على موازين القوى المعروفة في بلد يحكمه أكثر من “لويس سادس عشر” واحد.

يعتقد البعض أن الأمر قد حُسم، بانتظار من يمد يده ويقلب الصفحة.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى