كتبت ليندا حمورة | بين نُسغ الذاكرة وأنياب الحداثة

ليندا حمورة | كاتبة وباحثة لبنانية*
ما بين الأمس واليوم، مرّ زمنٌ لا يُقاس بالثواني والدقائق، بل يُقاس بما اندثر من ملامحنا، وما اغتيل من دفء عيشنا، وما اختنق من عبق الذكريات تحت ركام الإسمنت الإلكتروني. لقد انطلق قطار العصر كنيزكٍ لا يُرى إلا لمامًا، فطمس على عجلٍ بصمات حكاياتٍ كانت تسكن جدران البيوت، وتحيا في عيون الجدّات، وتُروى عند مواقد السمر.
في الأمس، كان الزمن يسير على مهل، كأنه يتوكأ على عصا من خشب الزيزفون، يتوقف بين الفينة والأخرى ليشمّ وردة في حديقة، أو ينصت لطفلٍ يخطو خطوته الأولى على بلاط البيت الطيني. كنّا نرتدي أثوابًا من قماش القلوب، نذهب بها إلى استوديو التصوير كأننا نحجّ إلى مقام الذكرى، نلتقط صورةً واحدة، لكنها تحمل في إطارها أرواحنا، نبضاتنا، وتاريخنا الشخصيّ الصغير. واليوم، أضحينا نحمل آلاف الصور في جيب بنطالنا، لكنها صور بلا ظلّ، بلا رائحة، بلا حكاية.
لم نرفض التطوّر يومًا، ولسنا أعداءً للحداثة، ولكننا نرفض أن يُؤكل الجَمال الواقعي بلقمةٍ سائغة على مائدة الجمال المصنّع، نرفض أن تُسحق العادات تحت عجلات السرعة، وأن تُكنَس التقاليد كما تُكنس أوراق الخريف اليابسة. إنّ ما نحياه اليوم ليس تقدمًا فحسب، بل هو ـ في كثيرٍ من وجوهه ـ جلاءٌ ثاني للروح، ونفيٌ للمحسوس، واستبدالٌ للدفء بالبريق.
أين ذهب دفء الرسائل الورقية التي كانت تهاجر عبر صناديق البريد كما الطيور المهاجرة، تحمل الشوق في أجنحتها؟ أين تلك المجالس التي كانت تُضاء بكلمة رجل حكيم، لا بشاشة هاتف؟ لقد تغيّر وجه العالم، وصارت الذاكرة خزانة رقمية، لا يعلو فيها صوت الحنين، بل تنطفئ فيها المشاعر بنفاد البطارية.
قال المتنبي:
“لكلِّ امرئٍ من دهره ما تعوّدا
وعادةُ سيفِ الدولةِ الطعنُ في العدا”
وكأن الزمن اليوم قد غيّر عاداته، فصار يطعننا نحن، لا أعداءنا. سيفه لم يعد سيفًا، بل شاشة زرقاء تُسطّر عليها أخبار الأمس بأيدٍ لا تعرف وقعَ الحنين ولا طعمَ الزمن الجميل.
نحن أبناء زمنٍ كانت الأشياء فيه أبطأ، نعم، لكنها أصدق. كانت الحياة تشبه نهرًا رقراقًا يروي أطراف القلب، أما اليوم فهي عاصفة بيانات تقتلع الجذور وتذرّ الذكرى قاعًا صفصفًا.
أيها العصر المتسارع، تمهّل قليلاً، فلعل في بطئك خلاصًا، ولعل في الالتفات إلى الوراء حياةً للروح، ووصلاً لما انقطع منّا.
*نائب رئيس تحرير موقع المراقب