مقالات مختارة

نحو وطن قابل للحياة .

غسان جواد | كاتب ومحلل سياسي .

“وكنا مستغرقين في أفكار متّجهة إلى الوطن”

فيكتور هوغو

منذ تأسيسه قبل مائة عام ونيّف، انعقدت على عنق لبنان – الدولة والكيان – أزمات مقيمة هي جزء من تكوينه الطائفي والسياسي، و”أزمات وافدة” بفعل التأثير الدولي الإقليمي القائم والحاسم، حيث لا موضع للأوهام في هذا المجال.

تشكّل الوطن وأصبح أمراً واقعاً بعد حرب عالمية أولى ماتت في نتيجتها أوطان وكيانات، وقامت أوطان وكيانات جديدة، ونال استقلاله الأول على وقع حرب عالمية ثانية، وسرعان ما بدأ يدفع أثمان الخرائط الجديدة والنظام العالمي الوليد يومذاك. قيام “إسرائيل” وضياع فلسطين واحتلالها وتهجير شعبها كان كله أول استحقاق وأول تجربة، وما تزال التجارب تتوالى، وكذلك الخيبات والمآسي.

أراده الغرب منفصلاً عن محيطه، وأرغمته الجغرافيا مراراً على دفع ثمن هذا الانسلاخ الموجع، وظلّ عصياً على التحقق، ناقصاً بفراغ هائل، سرعان ما كانت، وما تزال، تملأه دول طامحة في لعبة الجغرافيا السياسية والنفوذ والمصالح والهيمنة والسيطرة على الثروات.

خلال مائة عام، دفع ثمناً كبيراً من أمنه واستقراره واقتصاده وتقدمه، بفعل التدخلات الأجنبية وجمهورها في الداخل، وبفعل صراع التوازن الطائفي وحقوق الطوائف والملل.

الأزمة التي يواجهها لبنان حالياً هي الأخطر والأسوأ منذ تأسيسه. تتداخل فيها العوامل الداخلية والخارجية، وتبقى الحلول المطروحة ظرفية، ولا تحيد عمّا درجت عليه “الحلول” بمعناها اللبناني أو ما يصطلح على تسميته بـ”التسوية”.

التسوية في القاموس اللبناني تعني ليّ عنق الحقائق، وتأجيل المشكلة، وتأجيل قيام الدولة، وتأجيل بناء وطن قابل للحياة، لمصلحة تفاهمات هي في الغالب انعكاس محلي لواقع إقليمي دولي متغيّر، تبقي البلد معلقاً على حبال الوقت، في انتظار اختلال جديد في موازين القوى، وانفجار جديد يعيده إلى الواقع من دون تجميل وتزويق وتزييف.

حان الوقت لطرح أسئلة الأوطان العادية، بدلاً من ملء هذا النقص الوطني الهائل بالكثير من الشعر والقصائد والأمنيات الكاذبة.

الخراب الذي يعيشه لبنان والأزمات المتزامنة المتداخلة التي يعانيها، بوسعها أن تتحوّل إلى فرصة بديلة من انتظار المعادلات الدولية – الإقليمية وانعكاساتها عليه. في وسع اللبنانيين حسم خياراتهم والبناء على عوامل قوّتهم للتحول النهائي من المزرعة إلى الدولة، ومن الوطن المضطرب المؤقت إلى وطن ناجز يشبه الأوطان العادية. إنه موضوع إرادة وقرار.

الظروف القائمة مثالية لمخاطبة اللبنانيين وخلق كتلة وطنية صلبة عابرة للطوائف والمناطق والحواجز المصطنعة والغيتوات الضيقة، تتّحد على فكرة واحدة نبيلة وجوهرية: كيف يمكن أن يتحوّل لبنان إلى وطن قابل للحياة؟

دور لبنان في المنطقة يفقده ويُسرق منه بالتدريج. تتشكَّل أمامه تحالفات إقليمية عربية – إسرائيلية تستفيد من تناقضاته وأزماته وفساد نظامه وفشل دولته، وتنتزع منه الصدارة في النظام المصرفي، والنظام التعليمي، والصحف والإعلام، والنظام الصحي، ومنظومة الخدمات التي نقدمها في البر والبحر والجو. تحالفات تبنى على أنقاضه، وكيانات تجترح لنفسها أدواراً على حسابه بعد تدمير سوريا والعراق إلى جانب فلسطين المحتلة.

بعض اللبنانيين مخدوع بأنه مدعو إلى هذه التحالفات، ومغشوش بفكرة “السلام والتطبيع” وعائداته الاقتصادية. هذه أوهام زائفة تعرّيها الوقائع. من دمّر سوريا والعراق، واحتل فلسطين، وما زال يتربص بالأردن ومصر، لا يرى لبنان خارج منظومته الإقليمية، إنما حلقة في “دول الطوق” التي يجري العمل دوماً لأجل إفقارها وتفتيتها وتقسيمها.

ثمة معادلات قديمة – جديدة تتحكَّم بالسياسات الدولية في المنطقة، ويقع أمن “إسرائيل” والصراع على البحر المتوسط في صلبها. خيارات لبنان باتت محدودة، وموقفه أصبح صعباً للغاية، ولا يخدمه منطق “التسويات المؤقتة”، بل العمل من أجل التحوّل النهائي نحو فكرة الوطن الناجز.

تطوير النظام السياسي وتحريره من الطائفية، والدفع نحو قيام دولة مواطنة متحررة من الوصايات، وإعادة بناء النظام الاقتصادي بالارتكاز على مفهوم الإنتاج، والتفاعل الطبيعي مع المدى الإقليمي الحيوي… خطوات أولية وبديهية في سياق التعامل مع ما هو قادم، والقادم خطير جداً، وسيكون على جميع اللبنانيين التعامل مع نتائجه المدمرة.

لدينا أوراق قوّة لا ينبغي التفريط فيها. تكامل المقاومة مع الجيش ومؤسّسات الدولة إحدى أوراق القوة والاستقرار. في منطقة مستهدفة بمشاريع الهيمنة والاحتلال والإرهاب، يكون الحفاظ على لبنان بالحفاظ على أوراق قوته التي اختبرها وأثبتت نجاعتها. لا اقتصاد من دون استقرار، ولا استقرار بغير القوة.

أخطر ما واجهه البلد في هذا المضمار هو نزوع بعض أبنائه إلى التفريط في عوامل قوته، واصطفافهم في مشاريع خطيرة تستهدف المقاومة، وهو ما يعني حرفياً الاستسلام للانهيار وفقدان الشخصية الوطنية والفقر وانتهاء الدور.

إذا كان ثمة أفق باقٍ أمام لبنان، فإنه مرتبط بعوامل قوته، وبقدرة أبنائه على حسن تدبير اللحظة القائمة بالاستناد إلى عوامل القوة هذه، لعلّنا نعبر نحو فكرة الوطن الذي استغرقنا وقتاً طويلاً ونحن ننشده.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى