مقالات مختارة

لبنان وسط حرب الغاز .. نعمة أم نقمة ؟

احمد ياسين | كاتب سياسي .

يستعر الصراع شرق المتوسط مع دخول عناصر قوى مستجدة لم تكن بمثابة القوى المقرِرة في المنطقة في العهد السابق. ولعل تبدل موازين القوى والنفوذ انعكس على المشهد العام، مشهد تكون الطاقة محركه الاساسي ومعيار التقارب والخصومة بين الدول.

كان لافتاً مع دخول العام 2021 لغة التقارب التركية – المصرية بعد عقد من الصراع والاختلاف الاستراتيجي في مقاربة الملفات الاساسية في المنطقة.

فتحول الصراع على ثروات النفط والغاز شرق المتوسط إلى أم الصراعات، ليس الصراع المائي والنفطي بين لبنان و”إسرائيل” أولها، إلى الصراع المنفجر حديثاً بين تركيا من جانب، وكل من اليونان وقبرص من الجانب الآخر. وهذا ما يفسر تمدد تركيا – أردوغان الى الشواطئ الليبية ودخولها الصراع من بابه الواسع. لذا كان دخول تركيا على خط المواجهة في الإقليم من البوابة الليبية سببا مباشرا في تأجيج الصراع، قبل إنشاء ما يسمى “منتدى غاز المتوسط” بالقاهرة، والذي يستثني تركيا ويضم كلّا من مصر، الكيان الإسرائيلي، اليونان، قبرص، إيطاليا، الأردن وفلسطين.

تركيا الدولة المحورية في شبكة الغاز الاقليمية، تعتبر ممراً الزامياً لأغلب خطوط الإمداد من روسيا ومصر ولبنان والكيان الاسرائيلي وصولاً الى اوروبا. لكنها في الوقت عينه تفتقد الاحتياطات النفطية وهي بحاجة إلى زيادة وارداتها السنوية نظراً لتطورها الصناعي الكبير وازدياد عدد السكان المطرد.
لذا تغازل تركيا مصر مؤخراً في سبيل ايجاد نقاط التقاء تضمن مصالح الأولى في البقاء ممراً استراتيجياً للغاز انطلاقاً من مصر، التي وقعت خلال شهر شباط / فبراير الماضي على اتفاقية مع “اسرائيل” لمد خط أنابيب لربط حقل “لوثيان” للغاز الطبيعي بمحطات الإسالة لضمان تصدير الغاز إلى أوروبا.

كما أن تركيا حاولت تهديد قبرص خلال عمليات التنقيب عن الغاز ما اثار استنكار مصر حينها (لحماية الاتفاق الحدودي المصري-القبرصي). حاولت تركيا كذلك فرض معادلة جديدة بترسيم الحدود البحرية بينها وبين ليبيا، والذي أدى الى استنكار يوناني كون الحدود التركية تمر بمحاذاة (او داخل) المياه الاقليمية اليونانية.

من جانب آخر وفي نفس السياق يتموضع لبنان البلد المشبع بالأزمات الداخلية في قلب صراع الغاز شرق المتوسط. ولبنان كان قد وقع سابقاً اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع قبرص تمنع بموجبها أي من الطرفين الاتفاق مع طرف ثالث دون الرجوع الى الطرف الثاني في الاتفاق. لكن قبرص عقدت اتفاقية مع الجانب الإسرائيلي تمنح بموجبه كيان العدو مساحات كبيرة ومهمة واعدة نفطياً في أقصى المياه الجنوبية اللبنانية. الأمر الذي حاولت الولايات المتحدة اللعب عليه وفرض ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وفلسطين المحتلة وفق خط “هوف” الذي يعطي للأخيرة جزءا من البلوك رقم 9 الذي يطفو على كميات ضخمة جداً من الغاز، وهو ما لم يتم لغاية الآن.

تعمل الولايات المتحدة على الضغط على لبنان بشتى السبل لإيصاله الى نقطة اللاعودة للقبول بشروط واشنطن ترسيم الحدود، حيث ان المشكلة تمنع الشركات الموكلة بالتنقيب في المياه الاقليمية من متابعة عملها (توتال الفرنسية – نوفاتك الروسية – إيني الايطالية) وتعرقل عبور الغاز الاسرائيلي ضمن الانبوب الذي يفترض أن يمر على الشاطئ اللبناني.

ولعل الدخول الروسي الى لبنان سياسياً يندرج في نفس السياق لضمان حصة روسيا من التنقيب. علماً ان لروسيا دورا أساسيا بدأ بالظهور والتبلور منذ دخولها الحرب في سوريا بشكل مباشر وعملها من خلال مؤتمر “أستانه” وغيره مع اللاعبين الأساسيين على الساحة السورية لانضاج حل سياسي للازمة.

لروسيا خطا غاز أساسيان، يمر الاول (نورد ستريم 2) عبر بحر البلطيق وصولاً الى المانيا وعدد من الدول الاوروبية ويضخ ما يقدر بـ 55 مليار متر مكعب، الخط الثاني (ترك ستريم) والذي يمتد عبر تركيا ليصل الى اليونان وبلغاريا ومقدونيا، حيث تعتبر تركيا ايضاً حاجة بالنسبة لروسيا لضمان تصدير الغاز الى اوروبا.

كما ان روسيا اليوم حاضرة في المياة الدافئة، وبفعل الصراع في سوريا تتواجد في قواعد عسكرية في الساحل السوري الذي يحتوي على اكثر من 700 مليار متر مكعب من الغاز وفق التقديرات، ويبقى زمام المبادرة بيد روسيا من هذه الناحية، ما يعيد لها جانباً مهماً من دورها الاقليمي. وهو ما يشير بشكل واضح الى خلفيات الدور التركي لا سيما بالتطورات الاخيرة في المنطقة.

عليه فإن الميدان الملتهب في المنطقة لا يمكن فصله عن صراع الغاز والرسائل المتبادلة بين اللاعبين الاساسيين، وذلك للأهمية الاستراتيجة لمنطقة الشرق الاوسط وغرب آسيا في لعبة السيطرة والادارة. وإن تبدل خارطة النفوذ والقوى وظهور الثروات النفطية وغيرها يجعلان منطقة شرق المتوسط تستجلب المزيد من الصراعات وحرب النفوذ ذات الخلفيات الاقتصادية.

بالمحصلة فإن منطقة شرق المتوسط وما بها من صراعات متشابكة ومصالح مشتركة، تتمثل في أطراف المعادلة بشكل مباشر وهي مصر وقبرص و”إسرائيل” واليونان، ثم الاطراف الاقليمية والدولية التي تتمظهر بالدور التركي والروسي. هذه الصراعات لا تختصر فقط بالحروب على مصادر الطاقة بل لها جذورها التاريخية والعرقية وهو صراع طويل في المنطقة. كما أن الصراع العربي-الاسرائيلي يدخل في قلب هذا المشهد، حيث تسعى “اسرائيل” للاستفادة من تطبيع علاقاتها مع بعض الدول العربية لتجييره في ربط المنطقة وتشبيكها اقتصادياً لتكون “اسرائيل” قلب المنطقة وسوقها النفطي الجديد.

أما عن مستقبل الصراع بين دول شرق المتوسط، فإن الاشتباك الاقليمي والدولي القائم حالياً يعطي مؤشرات حول ما ستؤول اليه الأمور في المستقبل القريب. فلعبة الامم بنسختها الحالية تشهد مخاضاً جديداً ترسم معالمه اليوم في الميادين المشتعلة.

لبنانياً فإن مشروع تشكيل الحكومة ليس بالسهولة مقاربته بمعزل عن توازن القوى والنفوذ. فرنسا على سبيل المثال سعت للدخول الى الساحة اللبنانية الداخلية من خلال حادثة تفجير المرفأ في الرابع من آب 2020، مستفيدة من الانكفاءة الاميركية الجزئية في لبنان والمنطقة، وطبعاً بضوء اخضر اميركي لمحاولة لعب دور الوسيط وتوليف حل سياسي يضمن مصالح واشنطن بصيغة أقل عدائية ومقبولة من قبل المكونات السياسية جميعها. طبعاً لم تنجح فرنسا لغاية الآن بلعب هذا الدور بشكل فعال وذلك لعدة أسباب كان ابرزها الدور السعودي السلبي الرافض لحل يعطي خصومها في لبنان حيزا من المشهد السياسي وبالتالي القرار والمبادرة. في حين ان السعودية على سبيل المثال تفضل العمل مع فرنسا كشريك على الساحة اللبنانية بشرط عدم السماح لتركيا الراغبة بالتوسع والنفوذ في سوريا ولبنان، وذلك على خلفية الصراع التاريخي بين الوهابية السياسية وحركة الاخوان المسلمين على تزعم العالم الاسلامي. لكن ذلك ليس على حساب خطوطها الحمراء والتي تعتبر أن إعطاء حزب الله والتيار الوطني الحر مساحة وازنة بالحكم يؤثر على مصالحها ونفوذها السياسي.

“اسرائيل” هنا تجد من الواقع فرصة كبيرة لتغذية الانقسام السياسي في لبنان ومحاولة زعزعة الامن والاستقرار لتمرير اهدافها بأقل ضرر ممكن على الداخل الاسرائيلي، وذلك في سياق اضعاف حزب الله داخلياً ومحاولة تأليب البيئة الحاضنة – لم تنجح لغاية الآن – لتشكيل رأي عام جامع على ضرورة التخلص من سلاح المقاومة من أجل الحصول على مساعدات او برامج تنموية تعيد الحياة الى ما تبقى من واقع اقتصادي ومالي في لبنان.

كما أن العمل الامني من دون بصمات أو ربما المباشر لم يغب عن العقلية الاسرائيلية اليوم ولا بالأمس، وتبقى احتمالات لجوء “اسرائيل” الى عمل عسكري أو أمني للتخلص من تهديد حزب الله الاستراتيجي أمرا واردا ومحتملا بحسب التطورات السياسية والأمنية.

بالمحصلة فإن الولايات المتحدة وكقطب أوحد باتت مقتنعه أن عملية الاستفراد بالقرار والسيطرة تقلصت، وهي تبحث عن شركاء دوليين قادرين على لعب الدور الاميركي – وان جزئياً – بلسان ولباس مختلف، وهذا ما يفسره الدور الفرنسي القديم الجديد في لبنان، والتنسيق الاميركي-الروسي-التركي وان غير المعلن لمحاولة صوغ حل سياسي يضمن مصالح اللاعبين الاساسيين في سوريا مع الحفاظ على الجغرافيا السورية والتي هي مطلب للدولة السورية فضلا عن رغبة تركيا، ايران وروسيا بعدم التقسيم نظراً للخطر الديموغرافي الذي قد يتهدد المنطقة بفعل وجود نوايا انفصالية في الدولة المذكورة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى