استراتيجياتحليلات و ابحاث

كتب د . احمد عز الدين | اختلال في التوازن الإستراتيجي ..!

الدكتور احمد عز الدين | باحث مصري في الشؤون الإستراتيجية

لقد كتبت قبل ذلك أن سد النهضة لا يخرج عن كونه حلقة أساسية في إستراتيجية أمريكية كاملة ، لإعادة صياغة البيئة الإستراتيجية في الإقليم ، سواء على مستوى الجغرافيا الإستراتيجية ، أو المواقع الحاكمة ، أو موازين القوى، في صورة إنقلاب إستراتيجي كامل ، يمتد من المحيط الهندي إلى منابع النيل ، مرورا بالخليج واليمن والقرن الإفريقي والضفة الشمالية للبحر الأحمر وتخومها بما في ذلك شبه جزيرة سيناء ، وقناة السويس ، وهو بالتالي واحد من العناصر الرئيسية التي تم توظيفها ، لإحداث اختلال في التوازن الإستراتيجي لمصر .
لذلك فإن كافة القوى التي ساهمت في إخراج هذا السد إلى حيز الوجود ، تمويلا أو دفاعا عن بنائه ثم وجوده وبقائه ، سياسيا أو ماليا ، أو عسكريا ، كانت أدوارها متلازمة تماما ، مع هدف إحداث هذا الاختلال ، وكانت أدوارها متطابقة مع ما أريد منها ولم يكن اندفاعها في هذا الاتجاه ، وليد منافسة أو مصالح ذاتية ، بقدر ما كان تعبيرا عن دور الوكيل الأمني التابع .
لقد لعبت خمس دول إقليمية أدوارا مشهودة ، في بناء السد والدفاع عنه ، وتمرير مشروعه ، بالسلاح تارة ، وبالمال غالبا ، وبالخديعة في كل الأحوال ، وهذه الدول هي الإمارات وإسرائيل وارتريا بالدرجة الأولى ، والسعودية وتركيا بالدرجة الثانية ، ومن خلفهم جميعا الولايات المتحدة الأمريكية ، لكن أكثر الأدوار من بينها وضوحا وتأثيرا كان دور الإمارات دون تحفظ ، فقد ارتدت قناع عصفورة التوافق والاتفاق والسلام ، بينما كانت تحفر عميقا طوال الوقت لصالح دفع السد إلى الوجود الفعلي .
لقد وقعت تركيا في مايو 2013 مع اثيوبيا اتفاق دفاع مشترك ، وافق عليه البرلمان الاثيوبي في مارس 2015 وبحسب البيان الختامي فقد تعهدت تركيا بنقل خبرتها في بناء السدود إلى اثيوبيا وفي الدفاع عن سد النهضة ضد أي تهديد ، وتعهدت بتأمينه بواسطة رادارات تركية للإنذار المبكر ، وبنظام دفاع صاروخي تركي إسرائيلي مشترك ، ووقعت الإمارات بعد ذلك بأربع سنوات في نوفمبر 2019 ، اتفاقية تعاون عسكري مع أثيوبيا ، عندما كاد البنك المركزي الاثيوبي أن يكون مفلسا ، إلا من ثلاث مليارات دولار أودعتهم الإمارات .
بعدها بقليل دفعت السعودية والإمارات معا 2 مليار دولار ، لإنجاز مصالحة بين اثيوبيا وارتريا ، ليس للحفاظ على قاعدتيهما الجويتين ، والبحريتين في ارتريا ، أو على استثمارتهما في سد النهضة ، أو في مشاريع زراعية اثيوبية ، وإنما إضافة إلى ذلك من أجل تهيئة لمواجهة الصراع العرقي في اثيوبيا ، والذي يحتاج حصاره ثم إخماده ، إذا توقدت ناره إلى قوات أقرب ما تكون من موقعه وقواته ، وعندما دخلت ارتريا بنفسها إلى حلبة الصراع استبقتها الإمارات بالتدخل ، واستخدمت قاعدتها في ارتريا وطائراتها المسيرة ، لقصف جبهة التجراي ، بل وامتد تأثيرها حتى السودان ، لخلق اضطراب كبير في شرقه ، بمشاركة وتحالف مكين مع ارتريا ، وفي الوقت الذي كان هناك توجها مستجدا من الإمارات تجاه تركيا مع حقيبة بمبلغ 20 مليار دولار ، صنعت الإمارات 85 رحلة جوية بطائرات إماراتية إلى قاعدة هيرارميدا الجوية الاثيوبية ، على متنها معدات عسكرية وذخائر ودرونز ، إضافة إلى 17 رحلة أخرى لنقل 50 عربة مجهزة ، لتحميلها بالمدفعيات والرشاشات إلى جانب عشرات الرحلات الأخرى ، بطائرات مدنية مستأجرة لنقل الذخائر والمعدات وكأن الدفاع عن حاكم لاثيوبيا هو ابي أحمد ، في صراع عرقي داخل اثيوبيا هو دفاع إستراتيجي عن وجود الإمارات نفسها ، لا عن وجود السد فحسب ، مع ملاحظة أن أمريكا لم تتدخل إلا بعد انتهاء المعارك الأساسية ، والتدخل الإماراتي ، والمذابح التي قامت بها الوحدات الاريترية ، في تجراي ، وكان تدخلها مع ابي أحمد لحثه فقط بعد أن انهت هذه الوحدات مهمتها على الانسحاب .
إن هناك سؤالا معلقا عن هذه القوة التي تمنح الإمارات بعدد مواطنيها ، الذين لا يتجاوزون مليون ومائتي ألف مواطن ، حتى بإضافة خمسة آلاف إسرائيلي منحتهم جنسيتها قبل عام تقريبا ، أن تكون عنصرا مشتركا في كل التحولات الهدامة ، ذات الطبيعة الإستراتيجية فوق خريطة المنطقة ، بل أن يتم دفع دورها إلى المحيط الهندي نفسه ، في صورة مبادرة أي تو يو تو ( إسرائيل – الهند – الولايات المتحدة – الإمارات ) لتعزيز البنية التحتية الإستراتيجية لأمريكا وإسرائيل ودفع التكامل الإقليمي للثانية ، كما ورد في إعلان القدس الذي صدر في 14 يوليو الماضي أثناء زيارة بايدن .
ربما تكون بعضا من الإجابة في ذلك العرض ، الذي قدمته الإمارات لرئيس وزراء لبنان لإدارة مرفأ بيروت قبل تفجيره ، وفي تعليق أحد المسئولين الإمارتيين الذي أعقب عملية التفجير ، فلم يكن العرض هو تأجير المرفأ فقط ، فقد وضع في صلبه مشروع لربط الميناء بميناء دبي بسكك حديد تمر عبر أربع دول عربية ، على أنه سيختصر زمن نقل السلع بين البحر الأحمر والأبيض إلى 36 ساعة ، كمحور بديل لقناة السويس .
أما تعليق المسئول الإماراتي على تفجير المرفأ بعد حدوث التفجير فقد كان نصه : ( لو أنهم وافقوا على تأجير المرفأ لدولة الإمارات ، ما حدث التفجير ).
الأمر إذا ليس مكايدة مع مصر ، لكنه أيضا ليس منافسة ، كما كتب أحد الذين أقدّرهم ، فقصد إحداث اختلال في التوازن الإستراتيجي للعاصمة الإستراتيجية للإقليم ، لا يدخل في باب المنافسة وإنما في باب العدوان .
الجزء الثامن .. يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى