تحليلات و ابحاث

بايدن رئيساً.. إنتصرت الدولة العميقة

الياس فرحات – عميد ركن باحث لبناني في الشؤون العسكرية والإستراتيجية .

وصل دونالد ترامب إلى البيت الابيض من خارج المؤسسة الحاكمة في الولايات المتحدة. إنضم إلى الحزب الجمهوري عام ٢٠١٢، أي قبل إنتخابه باربع سنوات فقط وهي مدة لا تسمح له بالتمرس بالعمل السياسي في الحياة السياسية المعهودة إذ أنه لم يتسلم أي منصب بالإنتخاب.

دخل ترامب في عراك مع أقطاب الحزب الجمهوري: جون ماكين، لسلي غراهام، ماركو روبيو، تيد كروز بالإضافة إلى جيب بوش نجل جورج بوش الأب وشقيق جورج بوش الإبن. إستخدم ترامب الشعبوية وإتخذ شعار “لنجعل أميركا قوية مرة أخرى”، وجذب الجمهور المحافظ بكاريزماتية، وتمكن من تهشيم صور أخصامه كالقول إن ماكين “ليس بطلا فهو كان أسيراً” أو القول “إني لا أُشغل عندي غراهام إذا خرج من الكونغرس”.

اثناء حملته الانتخابية، أعلن ترامب اهدافه السياسية وأهمها:

– توثيق العلاقة مع روسيا، مبدياً إعجابه برئيسها فلاديمير بوتين.

– التحذير من بلوغ الصين المرتبة الاولى في الاقتصاد العالمي.

– الدعوة إلى الإستحواذ على مال الخليج صراحة، إذ صرّح مراراً أن دول الخليج إذا فقدت دعم الولايات المتحدة فهي لن تبقى أسابيع ولذلك يجب أن تدفع مقابل حمايتنا لها.

– حملة على الهجرة غير الشرعية وبرز قوله حين هبطت طائرته في أحد مطارات أريزونا، مشيرا إلى حدودها مع المكسيك: “من هنا تأتي المخدرات التي تعبث بأولادنا ومن هنا تأتي الجريمة المنظمة”، وهو يقصد الهجرة غير الشرعية عبر الحدود مع المكسيك.

– مراجعة اتفاقات الولايات المتحدة مع باقي الدول وخصوصاً مساهمتها في موازنة حلف الاطلسي وإعادة النظر بالتعريفات الجمركية مع الدول الاوروبية والصين وتصحيح الميزان التجاري لمصلحة بلاده.

– اعادة القوات الأميركية من افغانستان والعراق وسوريا.

– الغاء الاتفاق النووي الايراني.

– الغاء خطة الرعاية الصحية المعروفة بـ”اوباما كير”.

-إنسحاب الولايات المتحدة من إتفاقية باريس المناخية ومنظمة الصحة العالمية وغيرهما.

وفور إعلان فوز ترامب قبل أربع سنوات، وقبل تسلمه منصبه، تحركت الدولة العميقة لعرقلة أجندته وأخطرها توثيق العلاقة مع روسيا، وتحديدا مع بوتين، فقامت بتسريب أخبار عن تدخل روسي في الانتخابات الرئاسية لمصلحة ترامب واتهام دبلوماسيين روس بمخالفات متعددة وإعلان ٤٨ دبلوماسياً روسياً اشخاصاً غير مرغوب بهم والطلب إليهم مغادرة البلاد خلال أيام قليلة. توسعت الإجراءات لتصل إلى إبعاد أكثر من مائة دبلوماسي قبيل تسلم ترامب السلطة.

وفي هذا السياق، تعرض الجنرال مايكل فلين مستشار الأمن القومي إلى حملة إعلامية سياسية عنيفة وإلى مساءلة من مكتب التحقيق الفدرالي حول إجتماعه بمسؤول في السفارة الروسية في واشنطن، ما إضطره إلى تقديم إستقالته بعد ٢٨ يوماً من تسلمه منصبه، وهي أقصر مدة يمضيها مسؤول بهذا المستوى في مركزه.

بعد هزة استقالة اقالة فلين، عَين وزير العدل محققاً خاصاً هو روبرت مولر للتحقيق في التدخلات الروسية في الإنتخابات الرئاسية وفي مدى تماهي حملة ترامب الإنتخابية مع التدخل الروسي. استغرق مولر سنتين من أجل تقديم تقريره الذي توصل فيه إلى إستبعاد التدخل الروسي، أي أن ترامب أمضى نحو نصف ولايته وسيف المحقق الخاص مصلت على عنقه.

لم تكتف الدولة العميقة بقض مضجع ترامب بالمحقق مولر بل تحرك مجلس النواب الأميركي بعدما فاز بأكثريته الحزب الديموقراطي في الإنتخابات النصفية، واختار نانسي بيلوسي رئيسة له، ودعا إلى عزل ترامب بسبب علاقات مشبوهة مع أوكرانيا. بعد مداولات طويلة، وافق مجلس النواب على عزله ورفع قراره إلى مجلس الشيوخ الذي أسقطه بفعل تحكم الأغلبية الجمهورية بقراره بعكس مجلس النواب.
كيف واجه ترامب هذا الضغط الشديد الذي لم يسبق أن تعرض له رئيس أميركي؟

قرر المواجهة بفرض تعرفات جمركية على الصين واوروبا وروسيا ودول اخرى من اجل تعديل الميزان التجاري مع الخارج لمصلحة بلاده، كما تحول نحو دول الخليج لا سيما السعودية والامارات وعقد معهما صفقات تسلح بعشرات مليارات الدولارات (آخر صفقة وقعها ترامب، قبيل ساعة من إنتهاء ولايته، وتقضي ببيع الإمارات طائرات إف 35 ومسيرات وأسلحة أخرى تصل قيمتها إلى 23 مليار دولار)، بالاضافة إلى استثمار السعودية مبالغ وصلت إلى اربعمائة مليار دولار في البنى التحتية الأميركية. وعندما كان يعقد صفقة مع دول الخليج كان يرفع يديه ويصرخ: jobs jobs اي “وظائف وظائف” ابتهاجا بالأرباح التي جناها لبلاده.

وفي مواجهة الحملات التي كان يتعرض لها، بالغ ترامب في تأييد اسرائيل ورمى بثقل الولايات المتحدة لمصلحتها وإتخذ قرارات تاريخية مثل نقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها عاصمة أبدية لإسرائيل والإعتراف بضم إسرائيل لمرتفعات الجولان السورية المحتلة غير آبه بمخالفة القانون الدولي وتحديداً قرار مجلس الأمن الرقم ٢٤٢ لعام ١٩٦٧.

أعلن ترامب قراراً مفاجئاً بإعادة القوات الأميركية إلى البلاد وقوبل قراره بالإنسحاب من سوريا بمقاومة عنيفة من الدولة العميقة الممثلة بوزارة الدفاع والأركان المشتركة التي عرقلت هذا القرار وأفرغته من مضمونه بتنفيذ إنسحابات محدودة والإبقاء على التواجد العسكري في نقاط حساسة.

وفي خطوة غير مألوفة، أعلن ترامب انه شخصيا إتخذ قرار قتل اللواء قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني أثناء وصوله إلى مطار بغداد في زيارة شبه معلنة وبناء لدعوة من رئيس الوزراء العراقي الذي كان قد حدد موعداً للاجتماع به في المقر الرسمي لرئاسة الوزراء. تبنى ترامب هذه العملية في مطلع العام 2020، برغم أنها كانت مجرد عملية قتل لشخص يتحرك في وضح النهار.

لم تؤد التقديمات السخية لإسرائيل بالإضافة إلى تشديد العقوبات بشكل غير مسبوق على ايران إلى أي تحرك من جماعات الضغط اليهودية الأميركية وخصوصا إيباك تأييداً لترامب. على العكس، تبين أن اصوات اليهود الأميركيين والذين يتاثر معظمهم بنفوذ جماعات الضغط قد ذهبت بغالبيتها إلى منافسه بايدن بنسبة عالية بلغت ٨٨٪؜.

فشل ترامب في معالجة جائحة كورونا مثلما فشلت باقي دول العالم فصب جام غضبه على الصين وسمى الجانحة بالفيروس الصيني في استغلال سياسي واضح.

لاحقت الدولة العميقة بادواتها الاعلامية ترامب وخصوصا شبكة CNN وABC وصحف عديدة أبرزها نيويورك تايمز وواشنطن بوست فشنت حملات عليه واصطدم بها وتهجم عليها ولم يبق له سوى منصة تويتر يعبر من خلالها عن آرائه إذ بلغ عدد متابعيه ٨٨ مليونا، قبل أن يتم حجبه قبيل أسبوعين من إنتهاء ولايته.

أسقطت الدولة العميقة ترامب وأسقطت مشروعه بتوثيق علاقة بلاده بالإتحاد الروسي، وبالتالي، تردت العلاقة الأميركية الروسية في عهده وهي مرشحة للتفاقم في ولاية بايدن.

سياسات ترامب مع أوروبا والصين ومع الجارتين كندا (أول إتصال أجراه بايدن كان مع رئيس وزراء كندا) والمكسيك (إلغاء إستكمال الجدار منذ اليوم الأول لتنصيب بايدن) ستصيبها تعديلات جوهرية، وكانت البداية بسلسلة قرارات بينها العودة إلى اتفاقية المناخ ومنظمة الصحة العالمية ورفع قيود السفر التي فرضتها إدارة ترامب على بعض الدول ذات الأغلبية المسلمة.

في ما يتعلق بالقرارات المخالفة للقانون الدولي ولقرارات مجلس الامن، اي الاتفاق النووي الايراني (تحول إلى قرار صادر عن مجلس الامن رقمه ٢٢٣١ تاريخ ٢٠١٥) وضم الجولان والقدس، لا يبدو انها ستخضع لاي تعديل او تراجع. سوف تستفيد الدولة العميقة من ترامب وتواصل سياستها انطلاقا من النقطة التي وصل اليها والارجح لانها تتوافق مع ما تستبطنه لايران وفلسطين وسوريا. لذلك، يصح القول إن بايدن لن يأتي بتسويات إلى الشرق الاوسط. الأمر نفسه ينطبق على روسيا التي يتوقع أن تتأزم العلاقات معها في حقبة بايدن.

رحيل ترامب ليس إنتصارا للديموقراطية ولا يصب في تهدئة العلاقات الدولية ولو في الشكل وهو لن يحل الأزمة الإقتصادية الداخلية ولن يجد حلاً سحرياً لقضية إرتفاع نسبة البطالة الناتجة عن أسباب عديدة أبرزها تفشي جائحة كورونا.

انه نصر مبين للدولة العميقة على اول رئيس أميركي يتمرد عليها.

لقد حذفت الدولة العميقة ترامب حتى من منصة تويتر لكن هل ستتمكن من حذفه من الحياة السياسية الأميركية؟
180 post

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى