كتاب الموقع

كتب د . حسن احمد حسن | السويداء أكبر من الفتنة وأسمى من كل الشبهات

د. حسن أحمد حسن  | باحث في الجيوبوليتيك والاستراتيجيا .
لا خوف على السويداء مما يكيد أعداء الوطن في الخارج لتحقيق أحلامهم الشيطانية المبنية على وهمٍ وسرابٍ يحسبه الظمآن ماء يهرع باتجاهه، وما أن يقترب منه حتى يتلاشى إلى لاشيء البتة… لا رمل في السويداء يصلح لتشييد نقاط استنادٍ يرتكز عليها من لا يريد للسويداء الخير طالما أنه يضمر الشر للوطن، وإذا وُجِدَتْ بعض الرمال المتناثرة بين صمّ الصخور، فما يبنى عليها سرعان ما ينهار على رؤوس من يريدون مصادرة إرادة أهل السويداء المشهود لهم بأنفتهم وتجذرهم مع صخور هذا الجبل العزيز المنيع الثري بأهله ونقاء انتمائهم للوطن الأعرق سورية الحضارة والإنسان.. لا خوف على السويداء لأنها أكبر من الفتنة، وأسمى وأجل من شبهات الحاقدين، وأصلب وأقسى وأمنع من أن تهدد أعاصير الشر والخراب التي ينفخ في أوراها أعداء الوطن لتهبَّ من يمين وشمال وفوق تحت، ومن كل حدب وصوب، ولكن هيهات لهم هيهات… فالسويداء أنقى من أن يدنس كرامتها حاقد أو واشٍ أو عميل، لأن الكرامة كلٌ لا يتجزأ، فكيف إذا جبلت بالعقل والحكمة المعرشة في مضافات السويداء وبيوتها على امتداد جبل أرساه الله على الكرامة والحكمة في هذه الأرض السورية المباركة.
كرامة أهل السويداء من كرامة كل السوريين الغيورين على الوطن ورموز سيادته وهويته حاضراً ومستقبلاً، وهي أمانة غالية في أعناق جميع السوريين، وتسري مع الدماء النقية الأصيلة المتناقلة من جيل إلى جيل.. لا خوف على السويداء لأنها تستمد صلابتها من صخورها المتشابكة على امتداد جبل العرب، فكل صخرة من تلك الصخور تروي حكاية بطولة ورجولة وسخاء.. كل شجرة سنديان تمنح تفاح السويداء أإمكانية الامتداد بجذور الإباء والكبرياء بعيداً في أعماق هذا الثرى الطاهر المبرأ من كل رجس ودنس.. لا خوف على السويداء لأن أرحام نسائها الطاهرات تغذي الأجنة منذ لحظة التشكل والتكوين بجينات الوفاء لكل قيم الرجولة والأصالة والشهامة والإباء ونقاء الانتماء.. لا خوف على السويداء لأن رجالها جبلوا من طينة سورية وتراب وطني معمد بدماء الشهداء الأبرار الذين ما ارتضوا ذلة ولا مهانة من أجنبي دخيل ولا متآمر رخيص.. لا خوف على السويداء لأنها مقبرة الغزاة الطامعين، وكانت وستبقى كما وصفها السيد الرئيس بشار الأسد “الصخرة الأصلب في جدار القلعة السورية”.
آثرتُ اقتطاع الفقرتين السابقتين من مقال كنت وعدتُ بكتابته بصيغة وجدانية تكاد تقترب من بلاغة الأهل في السويداء، وهم أسُّ الفصاحة والبيان، لكن وأمام الضخ التضليلي المتدفق عبر قنوات الفتنة ووسائل التواصل الاجتماعي التي تفوح منها روائح كريهة أعدتُ النظر بمضمون المقال الوجداني لتطعيمه ببعض الأفكار المستمدة مما جرى في السويداء في الأيام القليلة الماضية، وقد يكون من المفيد الاستناد إلى المنهج العقلي الاستدلالي القائم على الحجة والإقناع في مواجهة سيل جارف من التضليل الإعلامي حيناً وارتجاج بوصلة التوجه أحياناً أخرى، ومن الضروري الانطلاق من أرض الواقع الحقيقي القائم لفهم حقيقة ما جرى، ومآلات ما تبقى من فصول الحرب المفروضة على سوريتنا الغالية بكل أركانها شعباً وجيشاً وقائداً ما لانت شكيمته، ولا اهتزت إراداته لحظة واحدة، وهو يقود دفة سفينة الوطن إلى شاطئ الأمن والسلامة والطمأنينة رغم أنوف المعتدين والحاقدين.
كثيرة هي العناوين والأفكار التي تستحق التوقف عندها لمناقشتها بهدوء وروية، وسأكتفي بذكر بعض تلك العناوين والمحطات، ومنها:
• استبعاد منطق التخوين الذي لا يوصل إلى نتيجة يبنى عليها، وإسقاط نظرية المؤامرة من النقاش لأنها تجاوزت إطارها النظري، وغدت جزءاً من فصول الحرب المستعرة التي تستهدف كل السوريين دونما استثناء، وما محاولة تجويع السوريين إلا أحد الأهداف الرئيسية لمن فرضوا الحرب وعجزوا عن تحقيق ما يريدون بالعسكرة والإرهاب والضغوط والحصار والعقوبات وكيّ الوعي المجتمعي السوري والإقليمي والدولي.
• لا أحد ينكر الوضع المعيشي الصعب الذي تعيشه السوريون جميعاً، والسؤال الأهم الذي يفرض ذاته هنا: هل كانت الحكومات السورية السابقة قبل عام 2011 أكثر وطنية وكفاءة، أو أقل فساداً؟ وهل السويداء اليوم أقل انتماء للوطن وتمسكاً بأهداب السيادة الوطنية مما كانت عليه في السنوات السابقة؟ ..أترك حرية الإجابة لكل شخص بما يقتنع هو بصحته، ويقيني الشخصي أن السويداء اليوم أكثر تمسكاً بمقومات العزة والكرامة والوطنية، والأداء الحكومي اليوم ليس أسوأ مما كان، لكن ثمة متغيرات فرضت ذاتها على الجميع، وهنا مربط الفرس، ومن الضروري تشريح تلك المتغيرات التي أدت إلى ما نحن عليه اليوم، والتفكير الوطني الموضوعي في كيفية مواجهتها، لا في كيفية مساعدة من كان ورائها لتحقيق أهدافه.
• قد يقول أحد أصحاب الدماء الحامية: صحيح كان في أخطاء في الماضي، لكنها زادت كثيرا، وفاقت الحد الذي يمكن فيه السكوت، وقد يقول آخر: لا تأخذنا بمنمق الكلام، فالسويداء كانت وتبقى نقية الانتماء للوطن، ولا أحد يستطيع أن يزايد على أهلها بالوطنية، لكن الوضع لم يعد يطاق ولا يحتمل وأقول لكليهما: كلامكما صحيح، ودعونا نتوقف عند بعض التفاصيل:
ـ نعم الأخطاء زادت، وهناك الكثير من مواطن الخلل والفساد، لكن من قال إن الحروب تفرز رخاء يعيشه الناس؟..من العبث مناقشة النتائج ما لم توضع الأسباب على المشرحة، ومن الحتمي أن تفرز الحروب المزيد من الكوارث والأزمات الصحية والمعيشية والمالية والمجتمعية، فتجار الحروب وأثرياء اللحظة وانتشار السلاح والفساد وتفشي الجريمة نتيجة حتمية مرافقة للحروب منذ أن عرف المجتمع البشري ظاهرة الحرب، فكيف يكون الحال مع حرب مزمنة امتدت أكثر من اثني عشر عاماً، ولست هنا بصدد الدفاع عن أي خطأ ارتكبه أو قد يرتكبه هذا المسؤول في الحكومة أو ذاك، بل لتوضيح نقطة أساسية مضمونها فرادة الأداء السوري شعباً وجيشاً وقائداً، ولولا مناعة هذا الثالوث لكانت الأوضاع أسوأ مما هي عليه بأضعاف، وهذا لا يعني التسليم بالواقع الضاغط على الجميع، بل يتطلب تضافر الجهود واجتراح الحلول وفق الإمكانيات المتاحة لا وفق الأوهام التي يسوقها من كان وراء الحرب، لأن تجاوز سلبيات وتداعيات الواقع لا يكون بالتظاهر، ولا برفع الشعارات التي عجز أعداء الوطن عن تسويقها منذ آذار 2011م، ولا يكون في قطع أرزاق الناس ومنعهم من الذهاب إلى أعمالهم، وفرض “الإغلاق بالقوة” فذلك يزيد معاناة الناس ولا يخففها، وخير شاهد على صحة ما أقول ما عاشته محافظة السويداء في الأيام القليلة الماضية.
ـ من حق كل متابع منصف أن يتساءل: ما علاقة المطالب المعيشية المحقة برفع علم فرضته سلطات الانتداب الفرنسي، وخرجت السويداء عن بكرة أبيها مع أبناء بقية المحافظات في الثورة السورية الكبرى بقيادة المجاهد الأكبر سلطان باشا الأطرش إلى أن أسقطوا ذاك العلم وطردوا المستعمر الذي فرضه، وبالتالي كيف يرفع طالب كرامة وعزة وعيش كريم في الوطن علماً باركته سلطات المحتل الفرنسي، وقضى ألاف الشهداء في سبيل طرد ذاك المحتل، ومنع أتباعه وأزلامه من حماية مصالحهم المتناقضة بالضرورة مع المصالح الوطنية؟ وهنا لا أستطيع تجميل الصورة بل أقولها ملء الفيه: رفع ذاك العلم خيانة لدماء شهداء أبناء السويداء في معارك المزرعة والكفر وبقية البلدات العزيزة في جبل العرب، وخيانة لمروءة النسوة اللواتي كن يرفضن تقديم الطعام لغير المجاهدين في وجه ذاك الاحتلال البغيض، كما أن رفعه يعني التنكر لإرث شيخ المجاهدين سلطان باشا الأطرش، فهل هناك من أبناء السويداء الأشراف الغيارى من يقبل على نفسه أن يكون متنكراً لدماء الشهداء الأبطال، ومناقضاً للإرث الحضاري الوطني المشرف الذي تركه لنا قائد الثوار والمجاهدين سلطان باشا الأطرش رحمه الله؟.
ـ هل يحق لبضعة عشرات، أو لبضعة مئات مصادرة إرادة أهل السويداء الذين ما ارتضوا يوماً أن يكونوا عرضة لتنفيذ أهواء الآخرين والإذعان لإملاءات يفرضها أي شخص كائناً من يكون، فكيف إذا كان السلوك والشعارات المرفوعة تتضمن ما يؤكد الارتباط بأجندة خارجية، وإلا كيف تفهم المطالبة بمعبر بري عبر الأردن، وخروج وزير إسرائيلي لدعم هذا المطلب، والتوجه برجاء موجه لملك الأردن أن يبادر لتنفيذ ذلك، وهنا أسأل كل شريف وحر ومعتد بكرامته: هل يشرف أي شخص في السويداء وغيرها أن يكون معنياً ومقصوداً ضمن خطاب مسؤول إسرائيلي، أم العكس؟.
ـ إذا أردنا أن نساير آنياً منطق المحرضين والداعين لتعطيل دورة الحياة اليومية في السويداء، فالسؤال الموضوعي الذي يفرض ذاته يقول: وماذا بعد؟. ولنفترض أن هذا الوضع الشاذ استمر أياماً أو أسابيع، فما هي النتيجة غير زيادة معاناة أهل السويداء؟ وماذا يفيد قطع الطرقات وإغلاق المحال والدوائر الرسمية غير قطع أرزاق الناس وتوقف مصالحهم؟ و هل يخدم استمرار هكذا وضع أبناء السويداء، أو يخفف من حدة المعاناة في تأمين متطلبات الحياة، أم العكس؟. وقبل هذا وذاك يلاحظ المتابع العادي منطق الفرض بالقوة ومصادرة رأي الآخر بلغة مرفوضة لأنها استعلائية وإلغائية، وقد تبجح بها أحد أولئك مع بعض من منعهم من التوجه إلى أماكن عملهم، ووضعه بين خيارين: العودة إلى بيته، أو مغادرة السويداء مع قناعاته وأفكاره، وكأني بلسان كل حر شريف من السويداء يقول له: من أنت حتى تمنعني بالقوة من الذهاب إلى مكان عملي؟ ومن أعطاك الحق في فرض رأيك علي وعلى غيري، وإذا كنتم من الآن تتحدثون عن تهجير من لا يعجبهم نموذجكم المفروض فأي مستقبل ينتظر أهل السويداء إذا صرتم أصحاب قرار؟ وما علاقة زيادة سعر المحروقات بمحاولة إغلاق مقرات الحزب؟ وهذه نقطة مهمة للغاية، فالخطاب الذي يتم تسويقه مستمد من الحرص الأمريكي على اجتثاث البعث في العراق، والأمر الطبيعي أن يكون البعث مستهدفاً من أمريكا والكيان الإسرائيلي لأن الجهد الأعظم مخصص للتشظية والتقسيم والتجزئة، واستئصال كل ما يمت للعروبة والفكر القومي بصلة، وإذا كان من حق أولئك أن يتبنوا أي فكر سياسي، وتنصبون أنفسهم متحدثين باسم السويداء وأهلها، فلماذا يمنعون غيرهم من التعبير عن رأيه، ولماذا يخيرونه بين اعتناق ما يريدون أو حمل قناعاته والمغادرة للعيش خارج السويداء؟ ولمن سيترك بيته وأرضه وممتلكاته؟.
• تشويه الإرث التاريخي والنضالي المجيد للسويداء: المتابع للخطاب الاستفزازي الذي يسوّقه المشرفون على ما يحدث يدرك أن المستهدف الأول أبناء السويداء وإرثها المشرف، وليس الحكومة، ولا المسؤولين عن أي خلل حدث أو قد يحدث، وقد تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي الكثير من الفيديوهات والمقاطع التي حرص المتحدثون فيها على الاستشهاد بحوادث تاريخية زاخرة بالكرامة، وحاولوا إعطاءها إسقاطاً مشبوهاً يشوه كل معانيها ودلالاتها العظيمة، وأكتفي هنا بذكر مثال واحد يتعلق بخروج الثوار والمجاهدين إلى وادي السرحان بقيادة سلطان باشا الأطرش بعد أن ضيَّقت عليهم سلطات الانتداب الفرنسي سبل العيش والبقاء, ووصلت بهم الحال إلى التماس القوت من كل نبات في الأرض أو ما يدب عليها، وهذا قمة الكرامة ومتناقض جملة وتفصيلاً مع ما تمت الدعوة إليه هذه الأيام، ولتوضيح الصورة أكثر أقول: في الوقت الذي بلغ الجوع والعطش والإجهاد مبلغه من الثوار والمجاهدين تفتق الفكر الاستخباراتي الإنكليزي المعروف بدهائه عن أخبث ما قد يخطر على ذهن بشر، فتم إرسال جنرال إنكليزي ومعه الكثير من أشهى أنواع الطعام “المناسف” مطبوخة وجاهزة مع حقائب من الأموال طائلة، والذهب الموضوع بعلب معدنية “تنك”، ولدى وصوله طلب من جنوده تجهيز أطباق اللحوم وفرشها أمام المجاهدين، وقال للقائد سلطان باشا الأطرش: الطعام اللذيذ والمناسف لجنودك وأعلم مدى جوعهم، والمال والذهب لك، وقبل أن يتم حديثه سارع أحد المجاهدين من شدة الجوع لالتقاط قطعة لحم ونظر إلى سلطان باشا الأطرش فرأى في عينيه نظرة الغضب التي أتبعها برفع حاجبيه كأمر بالامتناع عن تناول الطعام، فما كان من المجاهد إلا أن ترك قطعة اللحم وعاد إلى الوراء كبقية المجاهدين، ورفض قائد الثورة وقتها إغراء المال والذهب، كما رفض سابقاً تنصيبه رئيساً لدولة بمسمى طائفي لأنها ستقتطع من جسد الوطن الأم سورية، وهذا جزء من الإرث التاريخي الوطني المشرف للسويداء وسلطانها ومجاهديها، ولا يحق لأحد في الكون أن يشوه هذا التاريخ المجيد تحت أي عنوان كان.
خاتمة: لا أبيح لنفسي الدنو من مقام السادة الأفاضل شيوخ العقل، ولا مناقشة ما يصدر عن أي منهم من أقوال وتصريحات، فهم رموز أجلاء، ولهم مكانتهم العالية في نفوس جميع السوريين الذين يرون فيهم أهل الحكمة والعقل والرأي السديد، وعليهم تبنى الآمال في ضبط أي حراك لا يخدم السويداء ولا مصالح شعبها المسكون كرامة وعزة ونقاء انتماء لوطننا الحبيب سورية الغالية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى