“مصيدة توكيديدس” أو “الحرب الحتمية” عالمياً!
العميد الركن الياس فرحات | باحث في الشؤون العسكرية والإستراتيجية.
صرح الجنرال الصيني شو كيليان، وهو الرجل الثاني بعد الرئيس شي جين بينغ، أن بلاده مستعدة لمواجهة “مصيدة توكيديدس” نظرا للمنافسة الاقتصادية المستعرة بينها وبين الولايات المتحدة وحتمية تحولها إلى حرب طاحنة تقصي احدى القوتين لصالح الأخرى. ما هي “مصيدة توكيديدس”؟
توكيديدس (460 ق.م 395 ق.م) هو مؤرخ إغريقي شهير صاحب كتاب تاريخ “الحرب البيلوبونيزية”، ويعد أول المؤرخين الإغريق الذين أعطوا للعوامل الاقتصادية والاجتماعية أهمية خاصة، و”مصيدة توكيديدس” هي الحرب الحتمية التي نشبت بين قوة صاعدة هي اسبرطة وقوة مهيمنة هي أثينا، نتج عنها كما هو معروف إنتصار اسبرطة. أعاد شو كيليان، وهو نائب رئيس اللجنة العسكرية العليا في الصين، بتحذيره من هذه المصيدة، إلى الأذهان تحذير الرئيس الصيني شي جين بيننغ في العام 2015 من الوقوع في المصيدة نفسها. لا شك ان الصين قوة صاعدة تتقدم حتى تحتل الموقع الاقتصادي الاول في العالم، الأمر الذي سيمكنها مستقبلاً من تهديد اهم عناصر القوة الأميركية، وهو الدولار الذي يتحكم بالتبادل التجاري في جميع انحاء العالم. كما يُصعّب على الولايات المتحدة شن حرب العملات، وهي حرب غير مرئية من حروب الجيل الخامس، حيث نشهد العديد من فصولها تُشنُّ في هذه الايام على العديد من الدول مثل الصين وروسيا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية وسوريا إلخ.. والطريف في الأمر أن الصين هي أول من تحدث عن “مصيدة توكيديدس”، وليس الولايات المتحدة التي يفترض ان قادتها السياسيين ومنظريها الاستراتيجيين هم ابناء الثقافة الغربية والتراث الاغريقي. علينا أن نستذكر أن دونالد ترامب الذي كان قد فرض عقوبات تجارية على الصين، وبالتزامن مع تناوله طعام العشاء مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، في واشنطن، في السابع من نيسان/ أبريل 2017، بادر إلى إصدار الأوامر بقصف قاعدة الشعيرات الجوية جنوب مدينة حمص السورية بصواريخ توما هوك إنطلاقا من غواصات الاسطول السادس في البحر المتوسط في مشهد أراد من خلاله اظهار قوة الولايات المتحدة أمام ضيفه الصيني. أما الرئيس الاميركي جو بايدن فلا يخفي توجهه الذي تحتل فيه الصين وروسيا أولوية التهديد الإستراتيجي للولايات المتحدة. بادر بايدن إلى إجراء أول إتصال هاتفي بنظيره الصيني في الحادي عشر من شباط/ فبراير الماضي. الإتصال بحد ذاته كان تعبيراً عن مناخ الإدارة الأميركية الهجومي. أثار بايدن قضايا التجارة، “القمع في هونغ كونغ”، التوتر مع تايوان، و”إنتهاك قضايا حقوق الإنسان في إقليم شينجيانغ”. مهّد هذا الإتصال لإنعقاد أول جولة محادثات أميركية صينية في مدينة انكوراج في ولاية ألاسكا المحاذية للاتحاد الروسي، وكان إختيار المكان بمثابة رسالة جغرافية ـ سياسية الى الصين مفادها اننا موجودون هنا. ضمّ الوفد الاميركي وزير الخارجية انتوني بلينكن، ومستشار الامن القومي جيك سوليفان، فيما ضمّ الوفد الصيني مسؤول السياسة الخارجية في الحزب الشيوعي يانغ جي تشي ووزير الخارجية وانغ يي.
كان لافتاً للإنتباه ما أسماه الصينيون خلال تلك المحادثات بـ”الخرق البروتوكولي”، عندما تحدث الوفد الاميركي في البداية وتجاوز الوقت المحدد له، وعوض الترحيب بالوفد الصيني الزائر، انبرى الى مهاجمة سياسة الصين في قمع مسلمي الإيغور وقمع الحريات في هونغ كونغ، وهذا ما جعل الجانب الصيني يرد بالمقدار نفسه وصولاً إلى تبادل الطرفين انتقادات حادة على مرأى من عدسات المصورين، ما ادى الى توتير اجواء الاجتماع. كررت الولايات المتحدة اتهام الصين بسرقة براءات اختراع من شركات اميركية وبعدم الشفافية في معالجة جائحة كوفيد 19 (سمّاها ترامب “الفيروس الصيني”). بالمقابل، إنتقد الوفد الصيني عقلية الحرب الباردة التي تسيطر على عقول الاميركيين ولم يتردد جي تشي بوصف بلينكن بـ”المتعجرف”. انتهى الاجتماع من دون إصدار بيان مشترك. أشار الجانب الاميركي إلى أن المشاورات تناولت قضايا كوريا الشمالية وافغانستان وايران وحقوق الانسان. أما الجانب الصيني فشدّد على حماية سيادة بلاده، وان أحداً لن يكبح نمو الصين وتقدمها، واكد على ابقاء باب الحوار مفتوحاً. المحادثات التي كانت بمثابة كسر للجليد، سبقها إلتئام قمة دول “الكواد” (الولايات المتحدة، الهند، اليابان واستراليا) أو التي يسميها بعض الخبراء “دول الناتو الأسيوي”. كما سبقتها زيارتان أميركيتان أولى لبلينكن الى كل من كوريا الجنوبية واليابان، وثانية لوزير الدفاع لويد أوستن إلى الهند، وكانت رسائل هذه المحطات الثلاث.. صينية بإمتياز! من الجلي أن الولايات المتحدة تسعى إلى المحافظة على مركزها الأول عالمياً، وتستخدم الاسلحة الناعمة (حقوق انسان وديموقراطية وحرية تعبير إلخ) للانقضاض على الجانب الصيني، فيما تتمسك الصين بسيادتها وترفض التدخل بشؤونها الداخلية وتتحدث عن الانسجام الاجتماعي Harmony كبديل عن المفاهيم الغربية.
أيضاً، تقف الولايات المتحدة امام تعاظم قوة الصين العسكرية وتحركاتها في بحر الصين الجنوبي وبناء حاملة طائرات اخرى، وتصغي بقلق واهتمام الى كلام القادة الصينيين عن تحديث القوات المسلحة وجهوزيتها لمواجهة التحديات الراهنة. اما الصين، فتجد نفسها امام الولايات المتحدة وهي تشن الحرب الناعمة والحرب الاعلامية والحروب التجارية وحروب العملات والطاقة على كل من يعارض سياستها بمن في ذلك الصين. المواجهة الحتمية، كما عبر عنها “توكيديدس” واقعة فعلاً، وما يلجمها هو عدم قدرة اي من الطرفين على المغامرة بحرب عسكرية سرعان ما تتطور الى مواجهة نووية لا يريدها الجانبان، فهل نشهد نموذجاً جديداً من الحرب الباردة التي عاشها العالم لعقود طويلة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق؟ يبدو ان الفريقين يتجهان الى مثل هذه الحرب، لكن ليس بصيغة حروب بالوكالة. الصين سترفع وتيرة تنسيقها وتعاونها مع روسيا وتستمر بالتوسع في الأسواق العالمية وتجاوز ما امكن من عقوبات اميركية على ايران وفنزويلا. من جهتها، سوف تحرّك الولايات المتحدة العالم الاسلامي للدفاع عن قضية المسلمين الايغور وستمنع اي تعاون اقتصادي مع الصين، بدليل ما حصل في أكثر من دولة بما في ذلك اسرائيل حليفة الولايات المتحدة الإستراتيجية التي اذعن رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو إلى طلب وزير الخارجية الاميركي السابق مايك بومبيو بإلغاء صفقة بناء مصنع تحلية مياه البحر بإستثمارات صينية. اصبحت تجارة أية دولة في العالم مع الصين تشكل تهديداً للامن القومي الاميركي. السلحفاة الصينية تزحف وتكاد تبلغ غايتها من دون اثارة الانتباه أو الضجيج. إنها مواجهة غير مسبوقة في التاريخ. يجري تعطيل “مصيدة توكيديدس”.
180 بوست