كتاب الموقع

كيف انتصرت فلسطين.. ومن خلفها المحور ؟

محمد زكريا عباس | كاتب وباحث سياسي .

أصدق ما قد يوثّق نصر أحد المتحاربين في معركة عسكرية يخوضها، هو ما يتم تداوله على لسان عدوّه، وخصوصاً إذا اقترن ذلك بصدق الوقائع الميدانية والنتائج السياسية.

بكل بساطة، سنبرز في هذا المقال، كيف هُزم العدو الاسرائيلي وأين أخفق في هاتين الجولتين، العسكرية والسياسية، من الحرب الدائرة معه منذ سنة 1948، لكن على ألسنة قادته العسكريين والسياسيين، وعلى ألسنة المحللين والرأي العام الاسرائيلي. وفي المقابل، ماذا حققت المقاومة.

في البداية، لا بد من الإشارة إلى أمر مهم جداً، وهو أنّ الانتصار في الحروب والمعارك لا يُقاس بعدد القتلى والشهداء، أو بحجم الدمار الذي يحدث، بل بمستوى تحقيق الأهداف التي قامت من أجلها الحرب، أو تحقيق الأهداف التي تدخل في الإطار العام للصراع الأوسع، والذي تنطوي ضمن سياقه تلك المعارك والحروب. وعليه، فإن مقاربة ما حدث في المعارك الأخيرة في فلسطين، ينطلق من مدى تأثيره في الصراع التاريخي بين العرب والمسلمين من جهة، والعدو الإسرائيلي من جهة ثانية.

كما يجب لفت النظر إلى أن وقف اطلاق النار لا يعني توقّف المعركة. بمعنى آخر، إنّ إعادة ما حدث في حي الشيخ جرّاح في القدس المحتلة، عبر محاولة تهجير واستيطان، أو أي محاولة لاستباحة المسجد الأقصى، ستُعيد ما فعلته الضفة الغربية وأراضي الـ 48 وصواريخ المقاومة في غزة. وقد يكون الأمر أبعد من ذلك.

وفي سياق ما تقدَّم، سنجيب علن بعض الأسئلة التي توضِّح لنا كيف انتصرت فلسطين، ومن خلفها محور المقاومة، في هذه المعركة:

 أولاً: ماذا حقَّقت المقاومة الفلسطينية في هذه المعركة؟

1-    حفرت عميقاً في الوعي الإسرائيلي في بداية المعركة، عبر سحبها عنصر المفاجأة الذي كان يميّز العدو الاسرائيلي به نفسه دائماً. فكانت المبادأة والطلقة الأولى في يد المقاومة عبر قصفها المستوطنات الاسرائيلية في القدس المحتلة، والتي تبعد عن غزة نحو 70 كلم. وهذا ما حرَم العدو الاسرائيلي القدرةَ على النيل من الأهداف التي يعتبرها صيداً ثميناً له، وخصوصاً قيادات الصف الأول في المقاومة.

2-    سيطرت صواريخها على كامل جغرافيا فلسطين، ولو بنِسَب متفاوتة، بحيث أظهرت عملياً أنها تستطيع أن تطال وتصيب أيّ نقطة في الداخل الفلسطيني المحتل، وهذا ما جعل كل المصالح الحيوية العسكرية والمدنية للكيان الاسرائيلي تحت التهديد، وجعل مستوطنيه في دائرة القلق النفسي.

3-    أظهرت القدرة على الاستمرار في الرمايات الصاروخية القصيرة والبعيدة المدى، منذ اليوم الأول حتى اليوم الثاني عشر والأخير، يوم الهدنة، وذلك على الرغم من القصف الجوي والقصف المدفعي والقدرة الاستخبارية العالية التي يمتلكها العدو. فعن أي شلّ لقدرات المقاومة الصاروخية تحدّث كوخافي!!

4-    عرفت المقاومة كيف تتعامل مع القبة الحديدية ومنظومات الدفاع الجوي، وكيف تتجاوزها. فليس المهم كم هو عدد الصواريخ التي تطلقها، بل حجم الدمار والرعب النفسي اللذين سببتهما الصواريخ التي سقطت في المدن والمستعمرات الاسرائيلية، والتي أصابت المصالح الحيوية من مصانع ومطارات وبنية تحتية متنوّعة، بحيث كان لافتاً تصريح الرئيس الأميركي ووعده الإسرائيليين بالسعي لتحسينها وتطويرها، الأمر الذي يعكس ضمنياً فشلها على الأقل في تحقيق ما كانوا يطمحون عبرها.

5-    أبرزت براعتها في استخدام الأسلحة، حتى التكتيكية منها، بحيث أرّق سلاح الهاون جنود العدو عند تخوم قطاع غزة، وأوقع عدداً من القتلى والجرحى في صفوفهم، وجعلهم دائمي الاختباء في مواقعهم المحصَّنة.

6-    كشفت أسلحة جديدة وأساليب عمل لم تُستخدم من قبل، كاستخدامها المُسَيَّرات الانتحارية التي حققت أهدافها، كما أظهرت الفيديوهات التي نشرتها، بالإضافة إلى استخدامها غواصاتٍ مفخَّخة ومسيّرة يُتَحكَّم فيها عن بُعد لاستهداف بعض الأهداف البحرية، من منشآت غاز أو سفن وبوارج حربية، بمعزل عن مدى نجاحها.

7-    من ناحية أخرى، استطاعت المقاومة أن توحّد الساحات في فلسطين، بين غزة والقدس والضفة الغربية ومناطق الـ 48، وأن تؤسس لمرحلة جديدة من المقاومة في طريق تحرير كامل فلسطين، بحيث أفردت في خطاب قادتها، وجغرافية صواريخها، عدداً من الرسائل لهم، الأمر الذي أعطى زخماً معنوياً لتلك المناطق، بصورة كبيرة وواسعة.

8-    أعادت إلى كل الشعوب العربية والاسلامية والقوى التحررية في العالم، نبضَ القضية الفلسطينية والأملَ الملموس بإمكان تحرير فلسطين.

9-    فرضت واقعاً جديداً في القدس والمسجد الأقصى. وعلى هذا الأمر علّق اليوم نداف شرغاي في صحيفة “إسرائيل اليوم”، بالقول إن “استجابة إسرائيل لمطالب المقاومة ليست شائعات، لأن هناك واقعاً جديداً تَبَيَّن على الارض نقوم بلمسه”. كما ذكّر البعض منهم بأنه، منذ بداية هذه الجولة، لم يدخل أي مستوطن المسجدَ الأقصى.

ثانياً: ماذا حقق العدو الاسرائيلي من إنجازات في هذه المعركة، وما هي إخفاقاته؟

1-    لم تَرقَ الأهداف التي استطاع العدو قصفها، من قتل بعض قادة المقاومة، إلى الدمار الذي ألحقه في بنيتها التحتية، أو في بعض الأبراج والأحياء السكنية، لم يرقَ إلى مستوى الإنجاز العملياتي أو الاستراتيجي، وذلك بسب قدرة المقاومة السريعة على النهوض من جديد، وتعويض ذلك كما أثبتت التجارب السابقة، وخصوصاً في ظل وقوف محور المقاومة، بقدراته وخبراته، معها.

2-    أخفق استخبارياً، على نحو كبير، في توقع نيّات المقاومة الفلسطينية بشأن قصف القدس، وقرارها المسبَّق بشأن فتح المعركة في حال تمادي العدو في محاولة تهجير أهالي حي الشيخ جرّاح. كما أخفق في الوصول إلى قادة الصف الأول وبعض المقدرات الأساسية للمقاومة. وفي هذا السياق، بحسب صحيفة “هآرتــس”، فإن “وزراء في الكابينيت وجّهوا انتقادات حادة إلى الاستخبارات الإسرائيلية”، ووصفوها  بــ”عــديـمــة الــفــائــدة”.

3-    أظهر عجزه عن إيقاف إطلاق الصواريخ على الرغم من امتلاكه أقوى طائرات عسكرية حربية واستخبارية في العالم، وعلى الرغم من الغارات العنيفة المتكررة التي قام بها.

4-    برز ضعف قواته البرية، وعدم جهوزيتها للدخول البري لقطاع غزة، والذي اعتبره نتنياهو مغامرة، على الرغم من معرفته المسبَّقة بأن سلاح الجو لن يقود جيشه إلى الحسم، الذي يبني نظرياته العسكرية على وجوب تحقيقه، وذلك على عكس جهوزية المقاومة الفلسطينية للحرب البرية، وتوجيهها الدعوة له إلى المنازلة البرية.

5-    تأكَّلَت أكثر صورة الردع لديه، إن لم تكن مُحِيت عند أي استحقاق كبير مع قوى المقاومة. فإذا كان في حربه ضدَّ غزة المحاصَرة، والتي تمتلك أقل عدد من الصواريخ والقدرات ضمن محور المقاومة، لم يستطع أن يحقق الردع معها، فكيف مع قوى أخرى منه، تملك عشرات آلاف الصواريخ؟ وكيف إذا اجتمعت تلك القوى في الحرب عليه؟ وفي هذا الإطار، صرّح يتمار بن كفير، رئيس حزب “قوة يهودية” المتطرف، معلّقاً على موضوع وقف إطلاق النار، بالقول: “إنها ليلة صعبة على إسرائيل، وعلى ردعها”.

6-    ادّعى العدو تنفيذه خمس مراحل دمّر فيها 100 كلم من أنفاق المقاومة. وعلى الرغم من أنه لم يُثبت أي شيء من هذا الأمر، فإن صحيفة “هآرتس” أوردت، نقلاً عن مصادر مطلعة، أن جلسة “الكابينت” الأخيرة قبل وقف اطلاق النار “شهدت انتقادات لسلاح الجو بسبب إخفاقه في تدمير أنفاق حماس”. فمن سيصدقهم؟!

7-    في المستوى السياسي، كان الفشل كبيراً، بحيث لم يتحقق له أي هدف سياسي واحد، ولقد صرّح جدعون ساعر، الرجل الثاني في حزب الليكود الذي يرأسه نتنياهو، بأن “قرار وقف إطلاق النار هو بمثابة فشل سياسي مُخزٍ سندفع ثمنه في المستقبل”.

8-    زادت نتائج هذه المعركة في الانقسام السياسي الحادّ داخل الكيان الإسرائيلي، وبدأ تحميلُ المسؤوليات يطفو على كبير، بسبب التداعيات الكبرى لما حدث على الكيان بمجمله. وفي هذا الإطار، علّق عضو الكنيست بن غبير بالقول: “إنّ وقف إطلاق النار هو بصقة في وجوه سكان جنوبي إسرائيل”.

9-    يسوّق العدو، وعلى رأسه نتنياهو، أن ما حدث سيقود إلى إنجاز مهم، وهو أن يسود الهدوء أكثر من خمس سنوات في الجبهة الجنوبية، أي مع قطاع غزة. لكن هذا الأمر كمن يشتري السمك وهو لا يزال في الماء، وخصوصاً أن المقاومة الفلسطينية المسنودة بمحور المقاومة جعلت من تلازم الساحات بين غزة والضفة الغربية ومناطق الـ 48 والقدس، أساسَ أيّ عملية تهدئة يمكن أن تتم.

10-     بانَ للعالم على نحو أوضح، مدى إذعان القرار الاسرائيلي للقرار الأميركي، وعدم استطاعته الخروجَ من تحت عباءته، الأمر الذي يعكس ضعفه والحاجة الدائمة إلى قوّة عظمى تضمن له وجوده، بحسب مفهومه. فمن أجل وقف إطلاق النار، جرى أكثر من 60 اتصالاً أميركياً بالمعنيين، ونحو 5 اتصالات مباشرة بين الرئيس الأميركي جو بايدن ونتنياهو.

11-     فتح عليه أربع جبهات في الداخل الفلسطيني، من الصعب السيطرة عليها في المدى القريب، وذلك بسبب سوء تقديره، ودخول الحسابات الانتخابية في قرارات قادته.

12-     تلقّى ضربة كبيرة لاتفاقيات التطبيع، وأعاد إلى القضية الفلسطينية روحها، عربياً وإسلامياً وعالمياً.

13-     سيطر اليأس على المستوطنين الصهاينة. فلقد علّقت “هآرتس” ليلة أمس بالقول “إنه يجب قول الحقيقة، وهي أنّ الرأي العام الإسرائيلي يرى أن إسرائيل هُزمت في هذه المعركة”. كما علّق نائب رئيس مجلس الأمن القومي الصهيوني السابق عيران عتصيون بالقول إن “اسرائيل اليوم هي دولة أكثر ضعفاً وانقساماً وارتباكاً وخوفاً، وأكثر انغماساً في أزمة سياسية – دستورية – أمنية – اجتماعية – حكم – ووعي”.

ما ذكرناه هو بعض من إنجازات المقاومة وإخفاقات العدو الإسرائيلي في هذه الجولة. نعم، هذه الجولة التي ستتبعها جولات.

ومحور المقاومة لم يكن بعيداً عن هذه المعركة. كان صمته في بعض الأحيان أقوى من تصريحه. أمّا بعض التحركات والتظاهرات التي جرت عند حدود فلسطين، والصواريخ التي أُطلقت من لبنان، والطائرة الايرانية التي أُسقطت، بحسب ادعاء العدو الإسرائيلي عند حدوده المصطنَعة من جهة الأردن، فإنها كانت، بحسب محلليه العسكريين والسياسيين، رسائلَ من محور المقاومة تدلّ على جهوزيته للدخول في المعركة في حال تجاوَزَ العدو بعض الخطوط الحمر التي يعرفها جيداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى