مقالات مختارةمنوعات

كتب نارام سرجون | العود الابدي .. والحرب السورية.. من سيكون غوستاف شتيرسمان السوري؟

نارام سرجون | كاتب سوري

وكأن فريديريك نيتشه يتوجه الي ليحدثني في كتابه (العود الابدي) وسؤاله الغريب ان كنت أريد ان تتكرر كل لحظة في حياتي؟ .. وهل اريد ان أعيد العيش في النقاشات الاولى واللحظات الاولى للحرب على سورية؟ .. فها نحن الان نعيد نقاشاتنا الاولى دون ان ندري ..
نعم .. كأني أعود الى الأيام الاولى للحرب على سورية .. في تلك الأيام كان النقاش في ذروته بين مختلف شرائح المجتمع حول الحرية والديمقراطية .. وضرورة التغيير ..النقاشات كانت تشبه حربا أهلية بين مؤيد لما سمي الحراك الثوري وبين المترددين اوالرافضين .. ولكن لاشك ان حجج الداعين الى التغيير كانت تستمد من خلال ماتطرحه غرفة العمليات التي كانت تدير الربيع العربي وتثير المشاعر والشكوك وتستدرج الناس الى الفخاخ الرهيبة التي تبين انها جعلت الناس يسهمون في تخريب بلدانهم وتخريب اوطانهم .. وخراب بيوتهم .. في حفل انتحار جماعي رهيب ..
النقاشات في تلك الايام كانت دعوى حق يراد بها باطل .. وكان من الصعب على مجتمع يتذوق شعارات جديدة ويحقن بالانفعال والمشاهد الثورية ويراقب نقاشات ساخنة على الاعلام النفطي والعالمي والسوشيال ميديا .. كان من الصعب عليه ان يبتلع الاجوبة الصحيحة .. بل كان المجتمع مثل مراهق يعاند المنطق والعقل لانه يريد ان يتذوق الحرية ويمارس الانفلات من سلطة الاب دون ان يعلم ان هناك من يستدرجه الى فوضى الحرية وقتل الام والأب واحراق البيت .. فأقدم متهورون على احراق سورية بيتهم .. وحاول البعض قتل الاب المتمثل في الجيش الوطني .. كما قتل الليبيون جيشهم وقتل العراقيون جيشهم ..

أذكر تلك الاسئلة التي كانت تنهشنا وكانت تأكل اطمئناننا .. والصعوبة فيها انها ليست بلا أجوبة لكن الصعوبة كمنت في ان من يسأل يريد منا جوابا هو في عقله سلفا لأن الجواب كان قد تم تصنيعه وحشوه في عقله ولا مكان يتسع لأي جواب آخر او لاي جواب بديل أكبر من حجم رأسه المحشو بكل ااصابع الديناميت والقمامة .. فالجواب كان جاهزا والسؤال كان يتم اطلاقه لفتح الطريق فقط وتبرير الجواب الذي لم يكن يعترف بالسؤال الا من باب انه ضرورة وبوابة عبور لشرعية الجواب .. من مثل: هل تكره الحرية ؟؟ وهل انت ضد الديمقراطية؟ وهل تخطئ الجماهير؟ وهل انت مع حكم العائلة؟ وهكذا ..

ورغم انك تقسم بالله العظيم وبشرفك ومعتقدك انك تعشق الحرية وتعشق الديميقراطية وانك لست من هواة العائلات فانه كان يترتب عليك ان تجيب على سؤال آخر هو: لماذا اذن ترفض التغيير والثورة وهما اداتان للحرية والدمقراطية ورفض الحكم العائلي ..
لم يكن هينا علينا ان نشرح وجهة نظر وطنية من ان الغاية من الحرية هي حماية الاوطان وان الاستقلال الوطني هو اول حرية يجب ان نبحث عنها ونحافظ عليها قبل حرية الافراد اذا كانت حرية الافراد ثمنها قتل الحرية الحرية الوطنية .. ولم يكن هينا ان نشرح للناس ان الغاية من الديمقراطية هي حماية الحرية .. واذا سقطت الحرية الوطنية فلا فائدة من اي ديمقراطية .. لأن الديمقراطية ستتحول الى لعبة تمزيق تكون الحرية فيها مثل السكاكين .. ولكل حر سكينه ..
أذكر ان نقاشات تلك الأيام كانت تهيج الناس والبسطاء والمثقفين الجهلة .. واعني بالمثقفين الجهلة اولئك الذين يرتدون الياقات البيضاء وربطات العنق ويقرؤون ويكتبون ويبدون نخبا .. ولكنهم كانوا أكثر جهلا بالسياسة من اي بائع فول مدمس على قارعة الطريق .. بل ان الباعة الجوالين كثيرا ماأبدوا فهما في السياسة والوطنية اكثر من اولئك الذين كنا نراهم على الشاشات يربدون ويثرثرون ويرفعون قبضاتهم وأصواتهم لأنهم صاروا ثوارا في قطر واستانبول ولندن وهي مدن لم تكن مكانا لاي ثورة في التاريخ .. هؤلاء المثقفون عجزوا عن الاجابة عن سؤال حكم العائلات الجوراسية التي تقود الثورات .. العائلة القطرية والسعودية والالات الخليجية كلها التي كانت تقدم الدعم الاعلامي والمالي والافتائي والسياسي .. عائلات تستحق ان تسمى بالعائلات الجوراسية ..

اليوم ها أنذا اجد نفسي امام اسئلة ليست صعبة على الاطلاق .. بل انها اسئلة منطقية ولها أجوبة منطقية .. ولكن الصعوبة فيها كمنت في ان من يسأل يريد منا جوابا هو في عقله سلفا لأن الجواب كان يتم تصنيعه وحشوه في عقله ولا مكان يتسع لأي جواب آخر او لاي جواب بديل أكبر من حجم رأسه المحشو بكل ااصابع الديناميت والقمامة .. فالجواب كان جاهزا والسؤال كان يتم اطلاقه لفتح الطريق فقط وتبرير الجواب الذي لم يكن يعترف بالسؤال الا من باب انه ضرورة وبوابة عبور لشرعية الجواب ..

هناك أسئلة يتم دفعها الى الطرقات والمقاهي ووسائل التواصل .. عن سبب هذه الأزمة المعيشية الخانقة وهذا الغلاء وهذه السياست الحكومية التي تتصرف وكأنها تكره المواطن .. وقبل ان تحاول الاجابة ينبري صاحب السؤال ليتبرع لك بالاجابة ويوفر عليك عناء الشرح فيقول انها الحكومة الفاشلة .. انهم المسؤولون الذين ينهشون البلاد .. انها الدولة الفاسدة .. والجشع .. انها اللامبالاة بمعاناة المواطن .. واذا ذكرت له الحرب يقول لك انه صمد في الحرب ولكن الاخرين حصدوا ثمن صموده وسرقوا حصته من الحياة .. وأحيانا اذا ذكرت له الحصار وامريكا وماتفعله من سرقة الموارد ينفجر ويعتبر ان اميريكا صارت حجة وذريعة وعلاقة نعلق عليها عيوبنا ونستعمل علمها لتغطية الفساد والعفن .. ولماذا لاتفعل الدولة كذا وكذا .. انها قادرة ولكن الفاسدين يمنعون ذلك ..

تماما انها مأساة العود الابدي لنفس المعضلة .. اسئلة حقيقية واسئلة منطقية وأسئلة صعبة .. ولكن الصعوبة ايضا تكمن في ان من يسأل السؤال لايريد منك جوابا .. لأن الجواب لديه .. ولأن هناك من حقن رأسه بالجواب وملأه بكل انواع التراب بحيث لم يعد هناك متسع ومساحة لاي كلمة اضافية حقيقية .. وحقن الظلام فيه كأن الظلام صار مثل اي سائل أسود يحقن في العقل ويمنع الضوء من الدخول ..
انني أعرف ياسادة اننا لسنا دولة فاضلة .. وأعلم اننا لسنا مجتمع أنبياء .. وأعلم ان عيوبنا كثيرة ..وأسمع من أصدقاء موثوقين الكثير من الحقائق المؤلمة عن سوء ادارة الموارد والمصادر كما في وزارة الزراعة والصناعة .. ولكن كل هذا لايعني ان نتجاهل الحقيقة وهي ان مواردنا الحقيقية الكبيرة محتلة وأن خزائن الدولة نزفت كثيرا .. ولا أستطيع ان أقبل بتلك الأسئلة التي تريد منا ان ننسى ان مشكلتنا الحقيقية هي في حصار قاس وخطة محكمة لافقار الناس وتجويعهم .. كما كانت هناك خطة محكمة لتشتيت الناس واستدراجهم الى لعبة الانتحار بالحرية والثورة الدينية .. لان الفقر والجوع يراد منه ان يوصل الناس الى مرحلة لايفكرون فيها بمنطقية كما دفع الناس الى مرحلة التدين فصاروا لايفكرون بمنطقية بل بغزائزية دينية .. وفي طل هذا التارجع في المنطق تتراجع الاخلاق العامة .. وعندما تتراجع الاخلاق .. يصبح من جديد قتل الوطن مباحا .. ومبررا .. ونعود الى نظرية العود الابدي لنيتشة حيث نعيد تلك الدورة الجهنمية للانتحار ..
وهنا أجدني في هذه الأزمة الصعبة التي تبدو فيها الحكومة متلعثمة مرتبكة ومضطربة ولاتملك اجابات .. أجدني أترك النظريات الحكومية وأعود الى العود الابدي للمجتمعات البشرية .. وازورها .. لأعرف من تلك المجتمعات التي مرت بتجربة مثل تجربتنا كيف نهضت منها .. وكما يعلمني الفيسلوف الالماني نيتشه فان التاريخ الالماني والتجربة الالمانية تجعلني مبهورا بسبب تشابهها معنا .. فالالمان شعب مر بتجربة الحرب العالمية الاولى وهزيمة عام 1918 وكان اعداؤه هم نفس الاعداء الذين يحاربوننا الان .. وهم الامبراطورية البريطانية الانكلوساكسونية وفرنسا والمعسكر الغربي عموما والأثرياء اليهود الصهاينة المتمثلين في آل روتشيلد والوكالة اليهودية التي كانت تريد شراء فلسطين من بريطانيا .. ولو نظرنا الى المجتمع الالماني بعد الحرب لوجدناه مجتمعا فقيرا الى حد مخيف .. وكان اكثر المهزومين هو الاقتصاد الالماني .. وعلى رأسه المارك الالماني .. الذي تدهور الى حد ان فنجان القهوة كان ثمنه يدفع برطل من العملات الورقية يساوي عدة كيلوغرامات .. وكان على المانيا ان تسدد ديونا بقيمة خمسين بليون مارك الى الدول الاخرى لتعويضها عن الحرب لن ينتهي سدادها قبل عام 1988 .. وكأنها نفقات اعادة اعمار كما في حالتنا .. ولم يكن الناس يستطيعون شراء الخبز .. وانتشرت الدعارة وبيع الاطفال والجريمة .. وكما نحن الان يطلب منا اعادة اعمار تحت وصاية البنك الدولي فان البنك الدولي في تلك المرحلة في ألمانيا كان بنوك اميريكا الخاصة التي كانت تمول الاقتصاد الالماني وفق شروطها وعلى رأسها بنك ج مورغان الشهير .. الذي هو احد اسلحة اميريكا الاقتصادية اليوم ..

ولكن الالمان في عام 1927 تمكنوا في غضون ثلاثة أشهر فقط من ايقاف التدهور السريع في الاقتصاد عام بعد تجربة مريعة استمرت 9 سنوات .. وكان عبقري تلك الخطة هو غوستاف شتيرسمان الذي اطلق عملة جديدة حلت محل المارك التقليدي واسمها الرنتنمارك .. بحيث صارت السلع تباع بهذه العملة الجديدة المحدودة .. وبالتالي فان سحب العملة القديمة المنتشرة في الاسواق جعل الناس يبحثون عن العملة الجديدة فصارت قيمة العملة أعلى من قيمة السلع لانها لم تكن متوفرة على نظاق واسع .. مما جعل السلع تتراكم وتخفض أسعارها .. اي عرض وطلب على العملة ..

والاهم من ذلك هو انه اقنع الدول التي تحتل مركز الصناعات الالمانية في وادي الرور من تحديد موعد للانسحاب وهذا ماأطلق الصناعات الالمانية وعجلة الانتاج والتصدير .. وهي حكاية شبيهة بحكاية الجزيرة السورية االمحتلة حيث كل موارد الدولة وغذاء الشعب فيها ..

طبعا هذه تجربة لشعب آخر .. لايمكن ان ننسخها بحذافيرها .. ولكن التشابه في الاعداء ونتائج الحرب والازمات الاقتصادية وتدهور العملة يدعونا الى الايمان ان هناك حلا عبقريا يجب ان ينبثق لأننا شعب خلاق وعنيد لايقل عنادا عن الشعب الالماني .. وأن احد الحلول هو الاستمرار في تحرير الارض التي تشكل مصدر الموارد الاساسية .. وهي التي تحت الاحتلال الامريكي .. لأن تحرير الاقتصاد السوري من أزماته مرتبط كثيرا باستعادة تلك الارض .. والبحث عن طريقة لانقاذ قيمة العملة ورفعها ..

الكثيرون يوحون ان اميريكا ستغادر سورية هذا العام بطريقة او بأخرى .. ولكن لن ننتظر هذا الوعد .. وعلى الدولة التي لاتملك أفكارا ان تبحث عن أصحاب الافكار العبقرية .. فهل عبقرية غوستاف شتيرسمان مقتصرة على الالمان؟ هل أفكار الصناعي السوري الوطني فارس الشهابي أقل عبقرية من افكار غوستاف شتيرسمان؟ انني شخصيا أرى في كل زاوية عبقرية .. والمشكلة ان الدولة أحوج ماتكون الى الافكار .. ولكن الافكار أحوج ماتكون بحاجة الى الدولة كي تحتضنها .. وانقطاع العلاقة بين اصحاب الافكار وأصحاب القرار .. لن يجعل الاقتصاد ينهض ولو أحضرنا غوستاف شتيرسمان من قبره .. وطلبنا منه ان ينقذ الاقتصاد السوري ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى