تحليلات و ابحاثكتاب الموقع

كتب كارنيك سركيسيان | قمة طهران: إعلان مرحلة التطبيق العملي للنظام العالمي متعدد الأقطاب

المهندس كارنيك سركسيان | رئيس الهيئة التأسيسية للمجلس الوطني الأعلى لأرمينيا الغربية

لم تكن قمة طهران المنعقدة بتاريخ 19 تموز 2022 قمة دورية كمثيلاتها في سلسلة قمم منصة أستانة، ولو أنها بدت أو أُخرِجت ظاهرياً ضمن ذلك الإطار. في الحقيقة هي قمة تاريخية بإمتياز جائت بقرار من القطبين الروسي والإيراني، ومن خلفهما الصيني ضمناً، لترتيب البيت المشرقي كمدخل حتمي لطي صفحة النظام العالمي أحادي القطب البائد، والإعلان العملي عن ولادة النظام العالمي متعدد الأقطاب.

كنا قد أكدنا سابقاً في كتابنا الصادر في بيروت بداية عام 2020 بعنوان: “أرمينيا الغربية: مفتاح السيادة والأمن والإستقرار في الشرق الأوسط. حيث شرحنا بأن أمن وإستقرار الشرق الأوسط والنظام العالمي أحادي القطب هما مشروعين متناقضين، لا يمكن تحقيق أحدهما دون إلغاء الآخر.

كما كنا قد ذكرنا أيضاً أن “دولة تركيا الحديثة” الإصطناعية والمزروعة في المنطقة على غرار الكيان الصهيوني، هي “دور” أكثر منها “دولة”. وأن المهمة الأساسية لهذا الدور هو إبقاء منطقة المشرق (الشرق الأوسط) في حالة عدم إستقرار مستمر، في تبادل أدوار مفضوح مع الكيان الصهيوني وغطاء سياسي شرس من قبل الأنظمة الغربية الخاضعة لمركز القرار الأنكلوساكسوني.

لقد جاء مضمون كلمتي الرئيسين الروسي والإيراني خلال المؤتمر الصحفي الختامي ليؤكد تجانس مواقف البلدين في التركيز على وجوب إنهاء حالة عدم الإستقرار في سوريا وإغلاق ملف الحرب الكونية الإرهابية المستمرة فيها منذ 2011. وكان من اللافت تأكيد الرئيس الروسي السيد فلاديمير بوتين على ضرورة بسط سيادة الدولة السورية على كامل أراضي الجمهورية العربية السورية وعدم المساس بسلامة ووحدة أراضيها، وأن ذلك لن يجلب الأمن والإستقرار للدولة السورية فقط “بل للمنطقة برمتها”. أي أن روسيا الإتحادية، رافعة راية سقوط النظام العالمي أحادي القطب وصعود النظام العالمي متعدد الأقطاب، قد قررت وضع نهاية لقرن من حالة عدم الإستقرار في الشرق الأوسط بشكل نهائي ورغم إنف الغرب المستفيد من هذه الحالة والمتسبب بها من خلال أدواته المتمثلة بكلٍ من فكي الكماشة الإصطناعيتين والمزروعتين في المنطقة: النظام التركي والكيان الصهيوني.

ما من دلالة أفصح من الوجوه المتجهمة للوفد التركي ورئيسه أثناء المؤتمر الصحفي الختامي قبيل مغادرته لطهران للكشف عن عمق المأزق التركي. إذ أدرك جميعهم أن ما بعد قمة طهران لن يكون أبداً كما قبلها. فزمن “سياسة السعادين” قد ولى وأن تركيا لن تعود قادرة على القفز من غصن لآخر بين أن تكون دولة عضو في حلف الناتو مع كل ما تعني هذه العضوية من معنى من جهة، وأن تلعب دور “الحليف اللدود” لروسيا وإيران ومحاولاتها الحثيثة لحجز مقعد لها على طاولة رسم سياسات وملامح المنطقة في حقبة النظام العالمي متعدد الأقطاب. فهي اليوم أصبحت مجبرة، وربما لأول مرة بهذه الجدية والحتمية، لإتخاذ قرار مصيري بين أن تفضح وجهها الشيطاني القبيح وتعلن ولائها الأبدي والمصيري لسياسات حلف الناتو ومن خلفها، وبين أن تعلن الطلاق الأبدي معه وإعلان قرارها النهائي في نبذ أسيادها الحقيقيين وحماة وجودها المصطنع في المنطقة منذ 1923. وهنا تكمن أزمتها الحقيقية، فهي لا قادرة على إتخاذ هذا القرار ولا ذاك. ففي الحالتين يصبح وجودها ضمن صيغتها الحالية مهدداً بشكل لم يكن جدياً بهذا القدر أبداً. والسبب الرئيسي هو أن الأمن القومي التركي قد تم تصميمه منذ اليوم الأول لتأسيسه في 1923 على أساس ضرورة الحفاظ على حالة عدم الإستقرار المستمر في المنطقة، وهي اليوم لن تستطيع التأقلم مع حالة الإستقرار التي ستفرضه موسكو في المنطقة، والحفاظ على أمنها القومي معاً.

كنا قد سبق وأشرنا أيضاً أن متطلبات الأمن القومي التركي سيجعلها ترفض إنسحاب جيشها أو أي من جيوش الإرهابيين التابعيين لها من الأراضي السورية بأي ثمن كان. وفسرنا ذلك حينها بأنه من المحتمل أن أي إنسحاب من هذا النوع يمكن ألا يتوقف بالضرورة عند حدودها الدولية الحالية مع سوريا بل من المرجح أن يتدحرج إلى الداخل التركي ساحباً معه خطوط تماس ساخنة، حرصت تركيا جاهدة أن تبقييها خارج حدودها الحالية. بل وذهبنا إلى أبعد من ذلك وقلنا أن تمسك تركيا بمنطقة إدلب على وجه الخصوص إنما كان سببه وعي إستراتيجي بعيد النظر عند دوائر رسم متطابات الأمن القومي التركي، بأن إدلب هي الحصن المنيع الذي يضمن حماية كيليكا، وأن الأخيرة بدورها تشكل الحزام الضامن الضروري لما يسمى “بوحدة الأراضي التركية”. فالتخلي عن إدلب سيعني سقوط كيليكيا وسقوط كيليكيا سيؤدي حتماً لتقسييم تركيا وإعادتها لحجمها القانوني الذي تم إقراره دولياً بموجب معاهدة سيفر للسلام (10 آب 1920).

إن تثبيت السلام والأمن والإستقرار في سورية والمنطقة برمتها من خلفها، سيؤدي حتماً لصعود جملة من المشاكل الداخلية في تركيا إلى السطح. فالمجتمع التركي غير متجانس ومقموع، وما يسمى اليوم “بالشعب التركي” هو كذبة كبيرة دأبت الحكومات التركية المتتالية على الإختباء خلف إصبعها ومحاولة تجاهل تبعاتها من خلال القمع الوحشي والإضطهاد العرقي والإثني والديني في وضح النهار وأمام أنظار ما يسمى “بالمجتمع الدولي المتحضر والمبشر بالديمقراطيات وحقوق الإنسان”.  فمن أصل 85 مليون نسمة من سكان تركيا الحالية هناك أكثر من 15 مليون أرمني مسلم و25 مليون علوي ظاظا و30 مليون كردي (الكثير منهم جذورهم أرمنية) وغيرهم من ذوي الأصول اليونانية والسريانية والآشورية. جميعهم يرفضون الصفة التركية ومتمسكون بحقوقهم الوطنية المغتصبة وينتظرون الفرصة المناسبة لإسترجاعها.

ففي ظل النظام العالمي وحيد القطب الظالم وسيء السمعة والقائم أصلاً على سياسة إضطهاد وقمع وسلب حقوق وممتلكات الشعوب والأمم، كان من السهل على النظام التركي المغتصب الإصطناعي قمع جميع السكان والتعتيم عليهم وتسليط نظام بوليسي-قضائي فاشي ومتطرف على رقاب كل من يحاول التمرد على الظلم والمهانة المستمرين لقرن كامل من الزمن، وذلك بسبب الحماية المطلقة التي يتمتع بها النظام التركي ضمن أسوار حلف الناتو والدعم المادي والإقتصادي الغير محدود من قبل رعاته من الطغمة المالية العالمية. ولكن هذه الحماية بدأت اليوم بالتلاشي لسببين رئيسيين ومفصليين وهما فشل النظام التركي في أداء الدور الذي من أجله تم تركيب “تركيا الحديثة” أساساً على حساب حقوق الأمم والشعوب المجاورة من جهة، ومن جهة أخرى بسبب أفول النظام العالمي الحامي له والمتمثل بالثنائي الناتو – البترودولار.

تستطيع تركيا أن تسمي الأكراد وأرمن الداخل والمهجر المستمرين في الكفاح التحرري “بالإرهابيين” ما تشاء، ولكن هذا لن يغيير من حقيقة أن صاحب الحق سينال حقه مهما طال الزمن وإستمر الظلم والإضطهاد.

فما بني على الباطل كان باطلاً.

إن المأزق التركي الحالي هو حقيقي وجدي. فتصريحات المسؤولين الأتراك بعد قمة طهران تدل على هيستيريا جنونية تشي بإهتزاز أركان النظام التركي من الداخل. إذ بدأ وزير خارجيتها يعبرعلناً عن مخاوفه (المبررة) من خطر تقسيم تركيا. وتنطلق المسَّيرات لتحلق فوق قاعدة حميميم الروسية في سوريا ويقصف الجيش التركي مدينة دهوك العراقية بوحشية وهيستيرية. كل هذا لا ينذر بأن تركيا ستحافظ على رباطة جأشها في المرحلة القريبة المقبلة، وهناك إحتمال كبير بأن تقدم على تصرفات غير محسوبة العواقب سترتد مفاعيلها بالسلب عليها وعلى مستقبلها ككيان متماسك قابل للحياة. وهي تدرك تماماً بأنه لا الناتو ولا الغرب الأنكلوساكسوني الذي إستغل خدماتها طيلة قرن من الزمن سيهرعوا لإنقاذها، والنموذج الأوكراني أفصح دليل.

وفي المقابل، هل سيدرك الأخوة الكرد أن جبهة نضالهم الحقيقية ليست في سورية ولا في العراق، بل في الداخل التركي؟ وهل أن اللحظة المناسبة التي طالما إنتظرها ملايين الأرمن المتخفين في أرمينيا الغربية المحتلة من قبل تركيا قد حان فعلاً؟ هذا ما ستكشفه المرحلة اللاحقة التي يمكن أن تبدأ غداً أو خلال الأشهر والسنين القليلة القادمة..!

إن الغد لناظره قريب، ولا يضيع حقٌ وراءه مُطالِب.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى