مقالات مختارة

كتب احمد رفعت يوسف | الانتخابات التركية..صراع بين الاوراسية والاطلسية، وتعميق وجودي لازماتها

احمد رفعت يوسف | كاتب وباحث سياسي سوري

تحتل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية اهتماما خاصا، وأكثر من أي انتخابات جرت في تركيا، منذ تأسيسها قبل مئة عام، على أنقاض الإمبراطورية العثمانية الظلامية البائدة، وحتى الآن.
الاهتمام بهذه الانتخابات، يأتي بسبب موقع وموقف تركيا في الصراع المرير الدائر على الساخن والبارد، لتظهير المنظومة الاقليمية والدولية الجديدة التي تتشكل، بين المنظومة الغربية الرأسمالية المتراجعة برأسها الأمريكي، والمنظومة الأوراسية الصاعدة برأسيها الصيني والروسي، والذي تحتل فيه تركيا موقع بيضة القبان، وسيتحدد بنتيجته الخريطة الجيوسياسية في المنطقة والعالم، ومن سيقود الاقتصاديات والسياسات العالمية.
فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يقود حزب العدالة والتنمية الأخواني، وجد نفسه – مرغما – أقرب إلى المنظومة الأوراسية، فيما المعارضة بزعامة كمال كليجيدار أوغلو تجهر بموقفها، وتوجهاتها الأمريكية الأطلسية.
وحتى ندرك خلفية ما يجري وأهميته لتركيا أولاً وللعالم ثانيا، لابد من العودة قليلا إلى الوراء، عندما بدأ الحديث عن مخطط الشرق الأوسط الجديد، واجهار أردوغان بأنه يحتل منصب نائب الرئيس التنفيذي لهذا المشروع، الذي يعتبر الهدف الرئيس لحلف الناتو والمنظومة الرأسمالية، براسها الامريكي ودماغها البريطاني، لضمان استمرار هيمنتها على السياسات والاقتصاديات العالمية، وكان الهدف الرئيسي لهذا المخطط السيطرة الكاملة على منطقة المشرق العربي والخليج العربي، والسيطرة من خلال ذلك على المواقع الرئيسية لمواقع إنتاج وخطوط نقل النفط والغاز في الخليج، ووسط آسيا، والاهم حقول ونفط وغاز شرق المتوسط البكر، والتي تشكل شريان الإنقاذ للمنظومة الرأسمالية التي بدأت تظهر عليها علامات التراجع، والأزمات الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وإسقاط إيران، ومحاصرة روسيا، وخنق الصين وفرملتها، من جهة ثانية.
تنفيذ هذا المشروع بدأ من خلال “الربيع العربي” الذي كان يستهدف تسليم المنطقة للإخوان المسلمين، بزعامة تركيا الاردوغانية، التي دغدغت أحلامه فكرة إعادة إحياء الإمبراطورية العثمانية البائدة، بعثمانية جديدة يكون أردوغان خليفتها، ووصل به الوهم حد بناء قصر جديد أكبر بثلاثين ضعفا من البيت الابيض، ليكون مقره كخلفية لتلك الإمبراطورية الموهومة، من المغرب حتى داخل حدود الصين وروسيا، حتى أنه أوجد جناحا في قصره لإدارة كل دولة ستكون ضمن هذه الامبراطورية.
سار مشروع الشرق الأوسط الجديد كما كان مخطط له، وكانت تشكل سورية درة العقد له، لأن السيطرة عليها يعني سقوط كامل منطقة المشرق والجزيرة العربية في براثن المشروع، وعصابات الإخوان، لكن ما لم يحسبه أردوغان وقادة المشروع، أن تتمكن سورية من الصمود بشكل مذهل واسطوري، مكنها من فرملته وتوقيفه، وهنا حصلت الانعطافة الأكبر في تاريخ المنطقة والعالم، منذ سقوط القسطنطينية قبل أكثر من خمسة قرون، حيث بدأت من هذه الانعطافة مسارات أخرى مختلفة تماما عن مخططات الشرق الأوسط الجديد، حيث فشل مشروع السيطرة على المنطقة وتقسيمها على أسس عرقية وطائفية، لصالح المشروع الصهيوني، وسقط مشروع تسليم المنطقة للإخوان المسلمين، وسقط مشروع العثمانية الجديدة، وسقط مشروع محاضرة روسيا، وحققت بدلا عن ذلك حلمها بالوصول إلى المياه الدافئة على السواحل السورية، وسقط مشروع فرملة الصين وخنقها، لتطرح بدلا عن ذلك مشروع “الحزام والطريق” وصعدت إيران لتصبح من القوى الرئيسية في العالم، ولم تنفع مع أمريكا ومنظومتها إشعال حرب اليمن، التي فشلت ايضا في تحقيق اهدافها، ثم أوكرانيا، والتي ستكون القاضية لأحلام المنظومة الرأسمالية المتوحشة.
منذ لحظة ظهور مؤشرات الفشل لمخطط الشرق الأوسط الجديد من الميدان السوري، بدأ العالم يتغير، وبدأنا نتلمس مسارا روسيا بأن بوتين رجل الاستخبارات قبل أن يكون رئيس روسيا، يعمل على هدم الناتو من خلال تركيا الاردوغانية، التي بدأت تفقد أوراق قوتها ومخالبها، وقد نجح بوتين في ذلك نجاحا كبيرا، وان كان احيانا في بعض المراحل يثير غضبنا، وتساؤلاتنا حول دوره في سورية، ومنع تحقيق هزيمة مذلة لاردوغان، كما كان سيحصل في ادلب، وفي السماح له بالتمدد في بعض مناطق الشمال السوري، ثم اغرائه بصفقة اس اس 400، والاستفادة من الخطأ الاوربي التاريخي برفضه انضمام تركيا إليه، لتاتي حادثة الانقلاب الفاشلة، بتأييد أمريكي واوروبي على طبق من ذهب لبوتين، وللقيادة الإيرانية، ومبادرتهم لإنقاذ أردوغان.
وسط هذا الصراع المرير، الذي تقف تركيا في قلبه، وتشكل ساحة رئيسية له، تجري الانتخابات المصيرية، ليس لتركيا فقط، وإنما للصراع الذي يجري لتظهير توازنات القوى والقوة، والخريطة الجيوسياسية للمنظومة الإقليمية والدولية التي تتشكل.

بالتأكيد ما يهمنا نحن أكثر هو تأثير هذه الانتخابات على الوضع في سورية والجهود الرامية للخروج من أزمتها وفي مقدمتها انسحاب الجيوش التي تتواجد فيها بشكل غير مشروع وأولها التركي.
في قراءة هادئة وبعيدة عن العواطف والامنيات والاحلام، نرى ان المعارضة التركية لا تقل سوءا عن أردوغان، واذا أخذنا في الاعتبار الظروف المحيطة بالطرفين، قد تكون أسوأ منه بتوجهاتها الأمريكية الأطلسية، وهذا قد يعيدنا إلى نقطة الصفر مع تركيا، وأعتقد أنه سيكون من السذاجة ان نصدق وعودهم الانتخابية كثيرا، وان لا ننسى أن دافيد أوغلو منظّر العثمانية الجديدة، والأكثر عداء لسورية من أردوغان، سيكون وزير خارجية المعارضة في حال فوزها.
أما أردوغان فهو رغم سوئه واخوانيته، فقد أصبح بلا مخالب، وكل همه أن لا يلاقي مصير عدنان مندريس على حبل المشنقة، أو على الأقل قضاء ما يتبقى من حياته في السجن، لو نجحت المعارضة، لأن حجج إدانته كثيرة وجاهزة، ويعرف أن أمريكا تتربص له، فيما روسيا وإيران، تحاولان إنقاذه لأنه يخدم أهدافهما الاستراتيجية، حيث بوتين يريد هدم حلف الناتو من خلال بوابته التركية، وهو يحقق نجاحات كبيرة في هذا الهدف، أما إيران فهو يحقق لها أهم معادلة جيوسياسية تحكم البلدين، والتي تقول ان الحيز الاستراتيجي في المنطقة لا يتسع لإيران قوية، وتركيا قوية، ويجب أن يكون أحدهما ضعيفا، وهو ما يسير عليه أردوغان فيما إيران تبني قوتها بهدوء وثبات.
عموما أيا كانت نتيجة الانتخابات فهي ستعمق من الشرخ العمودي والافقي الموجود في تركيا، وستعمق صراع الهوية الذي أصبح يهددها بشكل جدي، فإذا فاز أردوغان سيجرجر معارضيه ويذلهم، وسيؤدي الى انقسام الشارع التركي، وسيواصل السير باتجاه روسيا وإيران، ولن ينسى عداء امريكا وأوروبا له.
أما إذا فازت المعارضة فلن تكوم أرحم بأردوغان، وسوف يكون المصير المفضل عندها له هو مصير عدنان مندريس، او على الاقل سجنه بقية حياته، وهدم إمبراطورية عائلته ومحيطه، ولذلك سيعمل أردوغان المستحيل حتى لا يسلم المعارضة السلطة، حتى لو ذهب إلى حرب أهلية (وعموما هكذا هم الإخوان لا يتخلون عن السلطة إلا بالقوة) وفي حال كانت النتائج متقاربة، حتى لو كانت تميل لصالح كليجيدار أوغلو، فسوف يعلن أردوغان نفسه فائزا، خاصة وأن لجنة الانتخابات تقع تحت سيطرته، وطلب منهم اطلاعه مسبقا على نتائج الانتخابات قبل إعلانها.
ومن سوء حظ تركيا، أن كل دول الجوار والقوى العظمى، سواء الامريكية الآفلة، او الروسية الصينية الايرانية الصاعدة، لها مصلحة بتقليم مخالب تركيا، وحتى ربما تقسيمها، لأن تركيا بموقعها الاستراتيجي الفريد، شكلت على مدى مئة عام عنصر قلق وتهديد للجميع، وهكذا هو مصير الدول ذات الموقع الجيوساسي المهم، فأما أن تأتيها ظروف يكون فيها هذا الموقع نعمة، أو يتحول إلى نقمة في ظروف اخرى، وهو ما رأيناه نحن في سورية، لكن من حسن حظنا أننا تمكنا من تخطي الخطر، وان كان بجراح مؤلمة، فيما تركيا تسير اليوم نحو نفس الخطر ولكن بشكل اصعب، حيث سيتحول موقعها الجيوساسي من نعمة – كما كانت حتى الآن – إلى نقمة خطيرة تهددها بشكل جدي.. وان غد لناظره قريب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى