تحليلات و ابحاثمقالات مختارة

كتبت لارا رجا الذيب | الأبعاد الجيوسياسية لاتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين الصين وإيران..

لارا الذيب – رياليست عربي│ أخبار و تحليلات

لارا رجا الذيب | باحثة متخصصة في الشؤون القانونية والإستراتيجية

لا يزال جسر العبور بين الشرق والغرب يتداعى، رغم مساعي الصين لتعبيده بالدعوة إلى السلام، وإعادة تقويم العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية على قاعدة من الندية والمساواة، والاحترام. فالصين تقدّس هويتها الحضارية التاريخية، وموقعها الدولي بوصفها قوة عظمى، ورؤيتها السياسية الاشتراكية، ونفوذها بوصفها سلطة مركزية في العالم. وانطلاقًا من هذه الثوابت الصينية، كان الصدام حاصلًا لا محالة مع الولايات المتحدة الأمريكية، الحديثة النشأة حضاريًّا، ولكن الأقوى دوليًّا، بعدما فرضت نظامًا عالميًّا جديدًا مبنيًّا على رؤيتها الرأسمالية اقتصاديًّا، والديمقراطية سياسيًّا، وحكم القانون قضائيًّا، مشرّعة لذلك قانونًا دوليًّا موحّدًا يحمي الحقوق، ويصون الحريات الفردية، ويقوّض سيادة الدول وحرياتها عسكريًّا في كل ما من شأنه أن يخالف النظام أو يهدده. ولمّا لم تنجح الصين في إقناع الولايات المتحدة الأمريكية بملاقاتها في منتصف الطريق، من خلال العدول عن نظام الحكم الأحادي القوة للعالم، والاعتدال في علاقاتها مع الدول، عقدت الصين العزم على بناء جسر عبور بري وبحري تعبر به فوق “الهيمنة” والنفوذ الأمريكي في المنطقة، بواسطة مبادرة «الحزام والطريق». وبالفعل، تمكنت الصين من موازنة نفوذ الولايات المتحدة، وأسهمت بتقديم مشروع تجاري تعاوني عالمي مع الأقاليم ودول الجوار، ونجحت في تعزيز علاقاتها السياسية الودية وشراكاتها الاقتصادية مع دول الحزام والطريق. غير أنّ بعضهم يرى أن الصين نجحت بموازاة ذلك في العبور فوق سيادات الدول، لتبسط “هيمنة ناعمة” جغرافيًّا وسياسيًّا، تحقق بها نفوذها وقيادتها لدول الحزام والطريق، باسم “الشراكة الإستراتيجية الشاملة”.في الحالتين، يبدو جليًّا أنّ المعادلة الجيوسياسية الجديدة التي أدخلتها الصين على المنطقة، أدخلت القوى العالمية- بدورها- في “مرحلة التسويات” الإستراتيجية، وإعادة التموضع دوليًّا في جبهات سياسية، واقتصادية، وعسكرية. التحرك نحو إعادة التموضع بدأ بالفعل مع إعلان اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة “الطويلة الأمد” بين الصين وإيران؛ إذ تمكّنت الصين من تشتيت السيطرة الأمريكية على الوضع الراهن الدولي لإيران، وتقويض مهمة الولايات المتحدة في المنطقة للمرحلة المقبلة، ودفعها إلى إعادة النظر في إستراتيجيتها الدولية لمرحلة تمتد إلى ربع قرن من الزمن، لتتمكن من مجاراة الصين في اتفاقيتها مع إيران على مدى الـ 25 سنة المقبلة.

الخلفية التاريخية للعلاقة الجيوسياسية بين الصين وإيران

في نظرة على آفاق الشراكة الإستراتيجية الصينية- الإيرانية، استُهلّت ديباجة الاتفاقية بتأكيد القاسم الجيوسياسي المشترك والجامع بين الصين وإيران تاريخيًّا، حيث «تمثل كل من الصين وجمهورية إيران الإسلامية حضارة آسيوية قديمة، كما أنهما شريكان وثيقان في مجالان متعددة، كالتجارة، والاقتصاد، والسياسة، والثقافة، والأمن، مع كثير من الآراء والمصالح المشتركة في المجال الثنائي والمتعدد الأطراف». مع الحرص على «تأكيد أن هذه الوثيقة هي فصل جديد في مجال العلاقات بين الحضارتين الآسيويتين العظيمتين».وترجع العلاقة الجيوسياسية بين الصين وإيران إلى الروابط التي عقدها أسلاف العرق الإيراني (الفرس) مع سلالة «الهان» الصينية في آسيا الوسطى، قبل الميلاد. كانت «الإمبراطورية الفرثية» (شمال شرق إيران) أول من تعارف مع رائد سلالة الهان «جانغ شيان» الذي وصفها بـ “الحضارة المتقدمة”. ورغم الاختلاف الأيديولوجي، نمت بين الحضارتين علاقات تجارية ممتازة، وتوطدت العلاقات الدبلوماسية والثقافية خلال العهد الساساني، وأصبحت بلاد فارس (إيران) مركزًا للتجارة، والتبادل التجاري والاجتماعي على طريق الحرير، والرابط بين الإمبراطورية الرومانية في حوض البحر الأبيض المتوسط وسلالة الهان في الصين.ويعد هذا التاريخ الفريد الجامع سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا بين الصين وإيران، القاعدة التي ينطلق منها البلدان في تحديد مستقبل العلاقات بينهما، حيث إنّه بإعادة إطلاق “طريق الحرير” من خلال مبادرة الحزام والطريق، تعيد الصين إلى إيران موقعها الإستراتيجي المركزي بين الدول، وتستعيد بذلك إيران أيضًا دورها التاريخي في ربط التجارة العالمية بين شرق آسيا وحوض المتوسط والقارة الأوروبية؛ بل يتخطى الدور التاريخي لإيران شقّه التجاري والدبلوماسي إلى تكريس الدور الأمني والعسكري المشترك مع الصين في حماية المصالح الاقتصادية، والحفاظ على الطريق التجارية. وكما تعاونت الحضارتان سابقًا في إنشاء “بؤر استيطانية” في المناطق الحدودية بهدف الحفاظ على أمن القوافل من القبائل البدوية وقطاع الطرق؛ تمهّد اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين الصين وإيران اليوم لتعاون عسكري في المنطقة لحماية الاستثمارات والمصالح المشتركة.غير أنّ الاتفاقية لم تأتِ لإحياء العلاقات التاريخية بين الحضارتين فحسب؛ بل لتعميق العلاقة المتعددة الأوجه القائمة في الحاضر، في «ساحات التعاون المتاحة في مجالات الطاقة، والبنية التحتية، والصناعة، والعلوم، والتكنولوجيا» بين جمهورية الصين الشعبية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهذا ما حرصت الصين في متن وثيقة الاتفاقية على بيانه، و«التشديد على العلاقات العميقة والودية منذ إقامة العلاقات الدبلوماسية عام 1971»، التي استطاع الطرفان توطيدها خلال المرحلة الماضية؛ بتذليل العقبات التي يفرضها الاختلاف الأيديولوجي، وتباين المصالح الجيوستراتيجية، والتقلبات في السياسة الخارجية المتأتية من التغيّرات في أولويات القادة.

الصين وإشكالية سياسة “الهيمنة” التاريخية

بناءً على ما سبق، نتوصّل إلى وعي حقيقة أنّ انخراط الصين الاقتصادي مع إيران ليس فقط محاولة لزيادة التأثير السياسي والاقتصادي من أجل الوصول إلى موارد النفط، ولكنه مرتبط أيضًا بصراع أيديولوجي أوسع مع الغرب، وإنّ تصوير مفهوم الصين “للشراكة الإستراتيجية الشاملة” بشكل متزايد على أنه بديل لـ “سياسة الهيمنة” الغربية، يؤكد أن المصالح الوطنية والجيوسياسية لا يمكن فصلها عن الصراعات الأيديولوجية الأوسع؛ ولذلك نجد أنّ الصين اختارت أن تستند في ديباجة الاتفاقية إلى التاريخ الحضاري العريق للدولتين؛ بهدف مواجهة محاولات الغرب السيطرة على حضارة البلدين وسياساتهما الداخلية والخارجية، في حين ترفض كل من الصين وإيران “الهيمنة” الأمريكية، باعتبار أنّ مستوى الرقي الحضاري يمنح كل دولة منهما الحق في تحديد سياستها الوطنية، ونظامها الاجتماعي، ونموذجها التنموي، كما لها السيادة المتساوية في تحديد علاقاتها الخارجية.وتعد الصين واحدة من الحضارات الأربع الأعرق والأقدم في العالم. وتعود جذور الشعب الصيني اليوم إلى ما يقارب 56 عرقًا سكنوا الصين قديمًا، بحيث يعرف تاريخيًّا أن جميع المجموعات العرقية في الصين طورت الاقتصاد وثقافة الحضارة الصينية بشكل عام، وقاومت الاضطهاد الطبقي، والغزو الأجنبي، وأسهمت في تأسيس دولة الصين الموحدة المتعددة الأعراق وتطويرها. ومع ذلك، لم يخلُ التاريخ الصيني من سياسة الهيمنة، بل يمكن القول إن الإمبراطورية الصينية الموحدة قامت بالفعل؛ نتيجة هذه السياسة التقليدية التي ألهمت تاريخيًّا ولاية «تشين» الصينية شن الحرب والهيمنة على الولايات الصينية. فالصين لم تكن إمبراطورية موحدة؛ بل 11 ولاية، وانخفضت إلى 7 دول متحاربة، من بينها «تشين» التي تمكنت من توحيد الولايات عام 221 ق.م. في الإمبراطورية الصينية، وقد حافظت الصين بشكل كبير على الوحدة حتى يومنا هذا، على الرغم من تغيير النظام.بالمقابل، لطّفت الصين اليوم من نزعتها الجيوسياسية للهيمنة من خلال اعتماد سياسات أكثر ودّية، بحيث تركز في سياستها الخارجية على إعادة هيكلة النظام العالمي من خلال التعاون الاقتصادي مقابل المكاسب السياسية، لتواجه بذلك النفوذ الأمريكي عبر مد نفوذها المالي والاقتصادي في قواها الدولية، و”حدودها السياسية الجديدة”.

الطبيعة الجيوسياسية للمبادرة الصينية

بالعودة إلى ما ذكر، كثيرًا ما ينظر إلى الشراكات الإستراتيجية الشاملة على أنها طريقة لممارسة القوة الناعمة في المنطقة، ومع ذلك، فإن أي محاولة هيمنة أو تقييد لحرية الدول الاقتصادية والتجارية في المنطقة تعمل أيضًا على التأثير في سياسات الصين المحلية والإقليمية. وتسعى الصين إلى إعادة تكريس مبدأ “التجارة الحضارية” باعتباره مفهومًا حضاريًّا قديمًا يتخطى ما أملاه «الغرب» على دول الشرق من مبادئ الرأسمالية والصناعية؛ بما يسلط الضوء على معرفة الصين الوثيقة بحضارات منطقة وسط آسيا والشرق الأوسط، التي تسعى الصين إلى التعاون معها بمخاطبتها بهويتها التاريخية، والتقدم إلى ما وراء ما وصل إليه الغرب في التنمية الحضارية.عملت الصين على تعديل أجندتها الإستراتيجية وسياستها الخارجية لتعزيز دورها السياسي والاقتصادي العالمي بما يتجاوز الحدود الدبلوماسية- السياسية، والتجارية- الاقتصادية؛ لخلق بدائل للآليات والأنظمة القائمة دوليًّا. فقد أعادت الصين إطلاق “طريق الحرير الجديد” في شهر سبتمبر 2013، في مبادرة أطلقت عليها الصين اسم «طريق واحد حزام واحد»، أعلنها الرئيس الصيني رسميًّا عام 2015. وتمثّل المبادرة إستراتيجية جيوسياسية واقتصادية على حد سواء، تُمكّن الصين من تحقيق التوسّع في نفوذها الخارجي، إلى جانب أهداف متعددة، منها تعزيز الدبلوماسية من خلال الشراكات الاقتصادية، والانفتاح على الدول ذات الأيديولوجيات المختلفة، وتحرير التجارة والاقتصاد الدولي، وتطوير إستراتيجيات التنمية الداخلية لـ 68 دولة على الأقل. ويقدّر حجم المبادرة بنحو 270 مشروعًا إستراتيجيًّا، يبلغ مجموع قيمتها نحو 900 مليار دولار أمريكي، وتغطّي مجالات عدّة، أبرزها: النفط والطاقة، وإنشاء الطرق التجارية، والاستثمار في البنى التحتية، والممرات المائية، والمرافئ والمرافق الحيوية، التي تمثل- بدورها- أداة إستراتيجية لربط الصين بآسيا الوسطى وأوروبا.

الميزات الجغرافية لسياسة «الحزام والطريق»

تقع جمهورية الصين الشعبية في الجزء الشمالي من نصف الكرة الشرقي، وجنوب شرق القارة الأوراسية، وشرق آسيا ووسطها، والساحل الغربي للمحيط الهادئ. تغطي الصين مساحة تقريبية تبلغ 9.7 مليون كيلومتر مربع، بما في ذلك البر الرئيسي، والجزر الساحلية، وتايوان، والجزر التابعة داخل أراضيها، كما تشكل ربع القارة الآسيوية، و1/15 من كتلة اليابسة في العالم، وهي ثالث أكبر دولة في العالم بعد روسيا وكندا. الصين محاطة بحدود برية بطول (22,800) كم، من كوريا الشمالية من الشرق. وتحدّها روسيا في شمالها الشرقي، ومنغوليا من الشمال، وروسيا وكازاخستان في الشمال الغربي. أمّا من الغرب، فتحد الصين قيرغيزستان، وطاجيكستان، وأفغانستان، وباكستان، فيما تحدّها في الجنوب الشرقي الهند، والنيبال، وسيكيم، وبوتان. وإلى الجنوب تحد الصين ميانمار، ولاوس، وفيتنام، فيما لجهة الشرق والجنوب الشرقي عبر البحار، تجاور الصين جمهورية كوريا، واليابان، والفلبين، وبروناي، وماليزيا، وإندونيسيا. ويحيط بالبر الرئيسي بحر بوهاي، وبحر الصين الشرقي، وبحر هوانغهاي الأصفر، وبحر الصين الجنوبي، على طول مساحة بحرية تبلغ (4,730,000) (أربعة ملايين وسبعمئة وثلاثين ألف) كيلومتر مربع شرقًا وجنوبًا. وللصين تضاريس معقدة، بالجبال، والتلال، والأحواض، والسهول، والهضاب الأربع: هضبة تشينغهاي (التيبت)، وهضبة منغوليا الداخلية، وهضبة اللوس، وهضبة يونان قويتشو.ينطلق المشروع من حدود الصين عبر 6 ممرات برّية رئيسية: 1) جسر أوراسيا الجديدة (من غرب الصين إلى غرب روسيا)، 2) الصين- منغوليا- روسيا (من شمال غرب الصين إلى جنوب شرق روسيا)، 3) الصين- آسيا الوسطى- غرب آسيا (الصين إلى تركيا)، 4) الصين- شبه جزيرة الهند الصينية (جنوب غرب الصين إلى سنغافورة)، 5) الصين- بنغلاديش- الهند- ميانمار (جنوب غرب الصين إلى الهند)، و6) الصين- باكستان (غرب/ جنوب الصين إلى باكستان). أمّا الطريق البحري، فيمتد من الصين عبر جنوب شرق آسيا إلى المحيط الهندي، وصولًا إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في البحر الأبيض المتوسط.

مصالح الصين الجيوسياسية

تتأتى المصالح الجيوسياسية للصين من صلب هويتها التاريخية، وموقعها الجغرافي، وسياساتها الخارجية وتفاعلها مع المحيط؛ ومن ثم يمكننا الاستدلال على هذه المصالح من خلال الاطّلاع على الدور التاريخي الذي مارسته الصين على مر العصور، والهوية التي ظهرت بها على العالم، ومن خلالها حددت طبيعة علاقاتها مع الآخر “المختلف”. وبالتوازي، أمكن معرفة أثر البيئة الإستراتيجية النفسية في تشكيل السياسة الخارجية، التي استلهمت الصين خصائصها في ضوء تقاليد حكم قادتها، والمفاهيم الفلسفية لمفكريها العظماء. من حيث الهوية التاريخية، يُستوحى تعريف الوجود الصيني من التسمية الأقدم للصين «تيانجسيا» (Tianxia) التي يعني بمفهومها “العالم تحت السماء”، وترجع إلى التصور البدائي أن الصين كانت الأرض المختارة من آلهة السماء لتكون مركزًا للعالم. وقد رافق هذا التصور، الاعتقاد أن الحضارة الصينية هي الأعرق على النحو الذي وضع الصين في سياسة من العزلة عن المحيط الخارجي مدة من الزمن، وقد ساعد في تحقيق هذه العزلة موقع الصين الجغرافي لجهة التضاريس، والجبال، والهضاب، والبحار التي تلفها عن جهاتها الأربع.من الناحية القومية، سعت الصين إلى تحديد مصالحها الجيوسياسية وبناء السياسة الخارجية انطلاقًا من تصورها الاستعراقي لذاتها بوصفها دولة مركزية موحدة. والجدير بالذكر أنّ مفهوم “الدولة الموحدة” يعد من الثوابت السياسية للصين، بما يفسّر سياساتها الاقتصادية والعسكرية في الداخل، وفي الأقاليم “الذاتية الحكم”، ويبرر موقفها المعادي للسياسة الأمريكية الداعمة والمحرّضة للحركات الانفصالية لشعوب هذه الأقاليم وحكوماتها.ومن حيث المفهوم «الكونفوشيوسي»، لنا أن نتحقق من مصالح الصين الجيوسياسية من النظرة الصينية الفلسفية للوجود الذي يعني أن “الوجود يُعرَّف بالعلاقة مع الآخرين، وليس بالوجود الفردي”، بحيث إنّ إثبات النفوذ الصيني يتحدد وفق مصالح الصين مع الدول الأخرى. وتمهّد هذه النظرية لفلسفة «الانسجام السياسي» اللازم لبناء علاقات متوازنة بين الدول، ومن هذه القاعدة الوجودية تحدد الصين سياسة خارجية أكثر انسجامًا مع تطلعاتها “السلمية” على قاعدة أنّ “السياسة استمرار للحرب بوسائل أخرى”، كما تبيّن مصلحة الصين بالحفاظ على وحدتها بدرجة أولى، بالخروج من العزلة والانفتاح على العالم، والظهور بهويتها الحضارية العظمى.وتبرز مصلحة الصين في إعادة تشكيل العلاقات الدولية لبناء نظام عالمي جديد منسجم مع المبادئ الصينية بوصفها القوة العظمى التي تتفاعل معها الدول، وهو ما عبّرت عنه الحكومة الصينية رسميًّا في يوم تأسيس الجمهورية عام 1949، بالتصريح: “هذه الحكومة على استعداد لإنشاء علاقات دبلوماسية مع الحكومة الأجنبية التي سوف تلتزم بمبادئ المساواة والفائدة المتبادلة، والاحترام للسيادة والإقليم”. عاد الرئيس الصيني «تزو إن لاي» وأرسى عام 1955 المبادئ الخمسة للعلاقات الدبلوماسية، وحددها دستوريًّا، إذ دعا بموجبها إلى إنشاء العلاقات الودية بين الدول وتطويرها، والسعي إلى إيجاد أرضية مشتركة، مع الحفاظ على الاختلافات، من خلال: 1) الاحترام المتبادل للسيادة ووحدة الأراضي، 2) عدم الاعتداء المتبادل، 3) عدم التدخل في الشؤون الداخلية للطرف الآخر، 4) المساواة والمنفعة المتبادلة، 5) التعايش السلمي.إلى جانب المبادئ، تتوخى الصين أن يتوافق النظام العالمي الجديد مع المصالح الصينية من حيث موازاة النظام العالمي الغربي السائد قوة. وقد عملت الصين على تثبيت القاعدة الهرمية للنظام من خلال الشراكات الإستراتيجية، وباشرت بناء هيكله بأعمدة ثلاثة (الحملات الرئيسية)، وهي: عولمة الصناعة الصينية مع حلول عام 2025، ومبادرة الحزام والطريق التجارية، والتفوق العالمي في الذكاء الاصطناعي بحلول عام 2030.وقد اقترنت هذه الحملات المدنية بتطبيقات عسكرية صينية هي العمود الرابع الداعم لهيكل النظام، تحمي بها الصين مصالحها الاقتصادية، وتحافظ على ما حققته من توسّع في نفوذها السياسي والجغرافي. وفي الواقع، تكمن المصلحة الجيوسياسية الأكبر للصين في هذه الازدواجية المدنية- العسكرية، حيث تسمح مبادرة الحزام والطريق للصين بالسيطرة على الممرات المائية والمواني البحرية، وفي ذلك اكتساب للقوة البحرية التي تمكن الصين- بحسب مفهوم «ألفرد ماهان»- من السيطرة على العالم. كما تترجم المبادرة مصلحة الصين الجيوسياسية بتحقيق هذه السيطرة على “قلب وسط آسيا”، التي بها يرى «ماكيندر» أنه يمكن السيطرة على العالم.من جهة ثانية، تتلاقى المبادرة مع مصلحة الصين بـ”التدويل الصيني”، انطلاقًا من المبادرات الدبلوماسية المعززة بالشراكات الإستراتيجية الشاملة مع الدول المجاورة والممتدة على طول خريطة الحزام والطريق، والصلاحيات الممنوحة  للشركات الصينية، التي استحوذت على مجال تطوير البنية التحتية دوليًّا، لا سيما في قطاعي النقل والطاقة، كما تستحوذ اليوم بموجب الاتفاقية الصينية- الإيرانية على قطاع النفط الخام والغاز. ويعد هذا القطاع الأهم للصين، يوفر لها إمدادًا مستدامًا من النفط والغاز. ومن جانب مختلف، عبّرت الصين في الآونة الأخيرة عن مصلحتها بإنشاء آليات تمويل جديدة، مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ونظام مالي للصين ومحيطها، بديل عن النظام الرأسمالي الغربي، بما يحقق للمنطقة استقلالًا ماليًّا.

المصالح الجيوسياسية المشتركة مع إيران

جغرافيًّا، تقع إيران في النصف الجنوبي من المنطقة المعتدلة الشمالية للعالم، في الشرق الأوسط، جنوب غرب آسيا. وتبلغ مساحة إيران نحو (1,648,195) كيلومترًا مربعًا، إذ تحتل المرتبة الـ 16 في العالم من حيث المساحة. أرض إيران جبلية، وشبه قاحلة بشكل عام، ويبلغ متوسط ​​ارتفاعها أكثر من 1200 متر فوق مستوى سطح البحر. تغطي الجبال والمرتفعات أكثر من نصف مساحة البلاد، والربع بالسهول، وأقل من ربع الأراضي المزروعة؛ فيما يقع نحو 90% من أراضي البلاد في الهضبة الإيرانية. ويحد إيران من الشمال جمهورية تركمانستان، وبحر قزوين، وجمهوريات أذربيجان وأرمينيا، ومن الغرب تركيا والعراق، ومن الشرق باكستان وأفغانستان، ومن الجنوب بحر عمان والخليج. الحدود المائية لإيران 2700 كم، فيما تبلغ الحدود البرية 6031 كم[1]. وقد تميّزت جغرافيا إيران من حيث الموارد الطبيعية، باحتوائها على نحو 10% من إجمالي احتياطيات النفط المؤكدة عالميًّا، التي يمكن أن توفّر للعالم استدامة في الطاقة مدتها 145 عامًا على وجه تقديري. وبموجب الاتفاقية مع إيران، استطاعت الصين أن تكتسب موردًا مستدامًا وحصريًّا من هذا النفط الخام لمدة 25 عامًا، إلى جانب تأمين مصالحها بالموارد الإستراتيجية المختلفة كالغاز، والبتروكيماويات، والمعادن، والمواد الصناعية، وتحكّمها بالشبكات والأنابيب التي تمدّ الدول بها، وكذلك بآليات استخراجها ومعالجتها ونقلها إلى السوق الدولية. إلى جانب موقع إيران الإستراتيجي على خريطة الحزام والطريق، نوّهت الصين بمصالحها الجيوسياسية المشتركة مع إيران في نص الاتفاقية، بدءًا من «الاعتراف بالقواسم المشتركة الثقافية والتعددية» بين البلدين، وتأكيد مصلحة التعاون، حيث «يعدّ كل منهما الآخر شريكًا إستراتيجيًّا مهمًّا له». وتوضح الصين أنّ توقيع اتفاقية الشراكة الإستراتيجية الشاملة يمثّل «الخطوة الفعالة لتحقيق الإرادة المشتركة للقادة لتعميق العلاقات الثنائية، وتعزيز التعاون الثنائي في مختلف المجالات في إطار مبادرة “طريق الحزام”»، كما أنّها تكرّس المصلحة الجامعة في «دعم حق الشعوب في التمتع بالسيادة، والمساواة، ونموذج التنمية الخاص بها». وفي آفاق التعاون، توافق الطرفان على تحقيق المصلحة المشتركة والقائمة على أنّ «قيادة الشراكة الإستراتيجية الشاملة بين الصين وإيران، تقوم على النهج المربح للجانبين في مجال العلاقات الإقليمية الثنائية والدولية». وفي هذا السبيل، تم الاتفاق على التشاور في السياسة الخارجية لجهة «تبادل وجهات النظر المتقاربة بشأن مختلف القضايا العالمية التي تصل إلى المستوى الإستراتيجي القائم على المصالح المتبادلة والربح المتساوي». وتبقى المصلحة الأبرز المشتركة بين الصين وإيران، إزالة النفوذ الغربي، وصد الهيمنة الأمريكية عن المنطقة. غير أن مصلحة الصين تندرج في محاولة الحفاظ على العلاقات الأمريكية الصينية في إطارها السلمي، في حين تتصف العلاقات بين إيران والولايات المتحدة بدرجة عالية من التوتر والعداء. وتهدف الصين اليوم إلى إعادة تصويب العلاقات لتحقيق مصلحتها المشتركة مع إيران، ولكن مع التزامها المبادئ التي حددها الرئيس الصيني جيانغ لعلاقة بناءة بين الدولتين، وذلك عند لقائه الرئيس الأمريكي كلينتون عام 1994. وتنطوي هذه المبادئ على تحقيق نطاق أوسع للعلاقات، ورؤية طويلة الأجل للوضع العالمي، بالإضافة إلى وجوب احترام المواقف والاختيارات الوطنية، والتخلي عن محاولات الهيمنة والتأثير، ومعالجة القضايا بمودة.

أبرز مجالات التعاون في الإطار الجيوسياسي

بالرغم من شمولية الشراكة الإستراتيجية، حرصت الصين على إدراج مجمل مجالات التعاون المطروحة على وجه التفصيل في بنود الاتفاقية مع إيران. ومن هذه المجالات، نلقي فيما يلي الضوء على تلك المتعلقة بتحقيق المصالح الجيوسياسية المشتركة بين الصين وإيران، على أن نعود ونستدل فيما يلي على الأبعاد الجيوسياسية للاتفاقية من حيث الآثار التي قد تترتب عنها على الصعيدين الإقليمي والدولي. يتصدّر المجالات الجيوسياسية «مجال الطاقة» لجهة التعاون في النفط الخام بشكل رئيسي من حيث الإنتاج، والنقل، والتكرير، وتوفير الأمن، إلى جانب التعاون في البتروكيماويات، والطاقة المتجددة، والطاقة النووية المدنية. وتهدف الصين في هذا المجال إلى ربط طرق الإمداد اللوجستية للمنطقة بإيران، من خلال أنابيب النفط والغاز، وآليات للاستيراد المستدام للنفط الخام من إيران، وتجهيز خزانات النفط والغاز والبتروكيماويات في البلدين. في مجال النقل والمواصلات والاتصالات، تهدف الصين إلى التعاون مع إيران في النقل المتعدد الأوجه، وذلك بالتوافق مع «الاحتياجات الوطنية والإقليمية» التي حرصت الصين على ذكرها في متن الاتفاقية. ويشتمل هذا التعاون على إنشاء الممرات الإقليمية والدولية، والطرق السريعة، والسكك الحديدية، والاتصالات البحرية، بالإضافة إلى الطرقات البرية، والبحرية، والجوية؛ بهدف تعزيز دور إيران الجيوسياسي في مبادرة الحزام والطريق. وفي مجال التكنولوجيا، يهدف الطرفان إلى التعاون في تطوير التكنولوجيات الجديدة والجيل الخامس من الإنترنت، الذي هو محل تنافس دولي مع الولايات المتحدة الأمريكية. كما ستعمل الصين على الاستثمار في بناء محطات الطاقة لتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، وتعزيز التعاون العلمي والفني مع إيران في مختلف مجالات الفضاء السيبراني، والأجهزة المختصة للعاملين في مجال الكمبيوتر، والبرامج الإلكترونية والبيانية للأجهزة، وغيرها. أمّا الأخطر بالنسبة إلى الولايات المتحدة في هذا المجال، فهو التعاون الذي تتوخى به الصين تطوير نظام الملاحة الصيني عبر الأقمار الاصطناعية «BeiDou» البديل عن نظام التموضع العالمي الأمريكي (GPS)، والعمل على ضم إيران إلى هذا النظام، بما يحقق للطرفين مصلحة الحماية من المراقبة، والتتبع الجغرافي، وتحديد المواقع. وفي منحى آخر، تتجه الصين إلى التعاون مع إيران في إطار إدخال التطور التكنولوجي في المجال المدني، من حيث التعاون في بناء المدن الجديدة والذكية في إيران، ودول المحيط. وانطلاقًا من الغنى الجغرافي للإقليم الإيراني بالموارد والمعادن، وكذلك بالموارد البشرية، والأراضي الزراعية، وهو المضاف إلى الغنى التاريخي لإيران في الصناعات اليديوية والحرفية، والبضائع، وتجارتها على طريق الحرير، تهدف الصين إلى إعادة تطوير المجال الصناعي في إيران، وتشغيل قدرات البلدين لتنفيذ المشروعات الصناعية والتعدينية الكبيرة. ويمتد هذا التعاون ليشمل المشروعات المشتركة في المجال الزراعي، والمجال الطبي، والتجاري على حد سواء، من حيث تطوير الخدمات والسلع المشتركة وتصديرها إلى بلدان المنطقة. وتحقيقًا لهذه الغاية، تسعى الصين إلى التعاون مع إيران في المجال الجمركي، وتنمية المهارات الجمركية، والقدرات التجارية. ومع مراعاة الأهمية الجيوسياسية لتعزيز السيطرة البحرية، نصّت الاتفاقية على التعاون في مجال البنى التحتية البحرية والمواني، بما في ذلك الهياكل البحرية، والطوافات، وتطوير المواني والمعدات والمرافق ذات الصلة، بالإضافة إلى التعاون في إنشاء المراكز ذات التوجه الصناعي والخدمي والتكنولوجي في الجزر والمواني المعينة. وفي هذا السياق، يلحظ توجّه الصين نحو التركيز على تطوير شواطئ مكران بوجه خاص، بحيث تولي العناية الخاصة لإنشاء ميناءي «جاسك» و«جابهار» انطلاقًا من موقعهما الإستراتيجي. وبالنظر إلى المصالح المشتركة في مبادرة «الحزام والطريق»، تسعى كل من الصين وإيران إلى تشجيع التعاون الثنائي والمتعدد الأطراف من خلال برنامج مشترك مع باقي الدول المجاورة والمشاركة في المشروع. وتشدد الاتفاقية على التعاون في “إنكار الضغوط الخارجية” دعمًا لمبدأ التعددية، بحيث تعمل الصين وإيران على حماية تنفيذ أحكام الوثيقة من الضغوط “غير القانونية” من جانب الأطراف. ويبقى العامل الجيوسياسي الأقوى في التعاون، طول أمد الاتفاقية، لجهة التعاون الإستراتيجي الشامل شبه المستدام على الإقليم الإيراني، والمؤثر في نفوذ الصين السياسي، كما في سياسة دول المحيط الإقليمي وقدراتها. ولمّا اتّفق الطرفان على أن تكون «الوثيقة صالحة مدة 25 سنة من تاريخ التوقيع»، فإن هذا يتطلب من الدول تطوير إستراتيجياتها وتعديلها لتواكب الأهداف القصيرة، والمتوسطة، والطويلة الأمد في الاتفاقية الصينية- الإيرانية، وهو ما قد يغير- بدوره- الجغرافيا السياسية للمنطقة تغييرًا كاملًا.

الأبعاد الجيوسياسية للاتفاقية

ليس يخفى على القارئ في نص وثيقة الاتفاقية الإستراتيجية الشاملة بين الصين وإيران، استنباط أهداف الصين وطموحاتها السياسية بما يتخطى مصالحها الاقتصادية في الشراكة مع إيران، فقد جعلت الصين لإيران دورًا مفصليًّا في أجندتها السياسية للمنطقة، بالتوازي مع موقعها المركزي جغرافيًّا على خريطة «الحزام والطريق». وتتبلور الأهمية الجيوسياسية للاتفاقية في أنّها ترسم على وجه التحديد هذا الدور الإيراني، والأبعاد التي تتوخى الصين توظيفه فيها لتحقيق مصالحها، ممّا يقدّم صورة أوضح عما قد ترتّبه الاتفاقية من تحولات جيوسياسية. تعيد الاتفاقية إلى الصين هويتها الجيوسياسية التاريخية، فتظهر الصين بعظمتها الحضارية، وشخصيتها السيادية، وسياستها المستقلة، ودورها الاقتصادي المحرّك لعجلة القارة الآسيوية، وتأثيرها المترامي إلى القارة الأوروبية. وتقدّم الاتفاقية أفضل نموذج عن النهج السياسي الحديث الذي تمارسه الصين لاستعادة السيطرة، ومد النفوذ، سواء من خلال الحدود السياسية الجديدة التي تكتسبها الصين في إطار مبادرة الحزام والطريق، أو في الإستراتيجية المستحدثة للتوسع في القارة الآسيوية، من حيث توظيف الأدوات المالية، والاقتصادية، والبشرية، والعسكرية خلف الحدود الجغرافية الصينية. كما تبيّن الاتفاقية حجم المكتسبات الجيوسياسية المحققة للصين بفعل “الهيمنة الناعمة” على المواقع الإستراتيجية، والمقدرات الجيوسياسية. عمومًا، تمثل الاتفاقية نقطة الانطلاق الفعلية لـ “مشروع القرن”، بالنظر إلى الدور المركزي الذي تمتلكه إيران في ربط “طريق الحرير” الصيني مع منطقة الشرق الأوسط، والدول الأوروبية. كما تعد المواد النفطية الإيرانية أساسية للسير في المبادرة، إذ تعطي الاتفاقية للصين السيطرة على احتياطي النفط الخام الإيراني على مدى ربع قرن من الزمن، مع ما يشمله ذلك من حق الاستخراج والمعالجة والتخزين والتوزيع، بل تمنح الاتفاقية الصين السيطرة على أنابيب النفط والبتروكيماويات التي من خلالها تنقل وتصدّر إلى باقي الدول. بالإضافة إلى ما سبق، تفسح الشراكة مع إيران المجال لتوسع دائرة نفوذ الصين، فنجاح الشراكة الصينية- الإيرانية سوف يشكل عامل جذب لمشاركة مزيد من الدول في مبادرة الحزام والطريق؛ بهدف الاستفادة من النفط الإيراني، والاستثمارات الصينية. ومن جهة ثانية، تحوّلت “الشراكة” مع الصين إلى عامل أمان واستقرار بالنسبة إلى إيران، حتى أضحت تدعو شركاءها وأتباعها إلى التحرر من النظام الغربي، واتباع سياسة “التوجّه شرقًا”، وهو ما يفتح الطريق أمام الصين لمد نفوذها داخل المناطق والدول الموالية لإيران. وبالفعل، برزت في الآونة الأخيرة تحركات سياسية مقلقة لشركاء إيران في وسط آسيا، والشرق الأوسط (سوريا، والعراق، واليمن، ولبنان)، وقد أسهم “التوجّه شرقا” في تعميق الانقسامات السياسية داخل الدول، وزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة. بالنسبة إلى إيران، تحقق الاتفاقية مصالحها الجيوسياسية، لجهة إعلاء مكانتها الإستراتيجية في مشروع طريق الحرير، ومنحها الدور المركزي في المنطقة والقوة لمواجهة الهيمنة الأمريكية والتحرر من قيودها. وقد أسهمت الاتفاقية في دفع المفاوضات لاستكمال الاتفاق النووي مع إيران، مع ما تخشاه الولايات المتحدة الأمريكية من زوال فعالية القيود الاقتصادية على إيران. بالمقابل، تتمكن الصين من إظهار فعالية سياسية في التفاوض مع ايران، وتبني حل الأزمة وفق منهج الحوار البنّاء وليس الهيمنة؛ بهدف تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة. من منحى آخر، تمكّن الاتفاقية الصين من السيطرة على المضايق والممرات المائية، وتعزيز قوتها البحرية، إذ تسعى الصين إلى تطوير «ميناء جابهار» المطل على المحيط الهندي (بوابة إيران المائية على المياه الدولية) وربطه بالبحر الأسود عن طريق سكك حديد، وهو ما قد يهدد فعالية قناة السويس كممر إلى البحر الأسود. هذا، ومن جهة ثانية، يعطي «ميناء جاسك» (المطل على بحر عمان) الصين موطئ قدم على مضيق هرمز، ويشكل تحدّيًا لنفوذ الولايات المتحدة في المنطقة، وتهديدًا لقاعدة الأسطول الأمريكي الخامس في البحرين، إذا ما نشرت الصين قوات عسكرية شبه دائمة لها في الجزر الإيرانية المحيطة لحماية المصالح الصينية في إيران. في الإطار عينه،  90% من التبادل التجاري العالمي تتم في هذه المنطقة عن طريق البحار نظرًا إلى تكلفتها المنخفضة. في مقابل آثار الاتفاقية الجيوسياسية، قد تشهد الشراكة الشاملة بين الصين وإيران أبعادًا جيوسياسية ارتدادية، تحاول بموجبها القوى الدولية والإقليمية حماية مصالحها الجيوسياسية في وجه توسع النفوذ الصيني. من جهة أولى، قد تسعى الولايات المتحدة إلى تقديم مشروع إستراتيجي بديل تنافس به الصين على النفوذ في المنطقة، وهو ما شهدنا بوادره في الآونة الأخيرة مع إعلان مساعي غربية لإعادة بناء الاتحاد الأوروبي. يزيد على ذلك ما قد تخلّفه الاتفاقية من تحديات سياسية وأمنية، مع الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الأمريكي، وصعود الإسلام السياسي في المنطقة (أفغانستان/ تركستان الشرقية)، الذي قد يرتبط بتحولات مفصلية في السياسة التركية. أمّا روسيا، في محاولة احتفاظها بهويتها التاريخية والجيوسياسية، فقد تشهد المرحلة المقبلة صياغة فهم جديد لدور روسيا ونفوذها الجيوسياسي في المنطقة، في ظل ضعف دورها الإقليمي أمام المشروع الصيني؛ لذلك قد تسعى روسيا إلى الاستفادة من وفرة طاقتها، وخطوط الأنابيب، والموارد النووية، والبنية التحتية، وحتى قدراتها التكنولوجية، وأدواتها الاقتصادية؛ لإبراز ذاتها كقوة عظمى مساوية للصين في الشؤون الإقليمية والدولية.

الخلاصة

ترتكز الاتفاقية الصينية- الإيرانية، بشكل رئيسي، على العلاقات التاريخية الجيوسياسية بين الصين وإيران، وما تشترك فيه الدولتان من مصالح وتحديات، من ناحية تعزيز نفوذهما الإقليمي، والتصدي لإشكالية سياسة الهيمنة الأمريكية على العالم. وتمكّن الاتفاقية الصين من تحقيق أهدافها بالتوسع في مبادرة «الحزام والطريق»، بالاستناد إلى الميّزات الجغرافية لموقع إيران المركزي على طريق الحرير، وأهمية دورها الإستراتيجي في ربط الممرات البرية والبحرية بين الصين ووسط آسيا من جهة، مع الشرق الأوسط والدول الأوروبية من جهة أخرى. هذا، وتخدم الاتفاقية مصلحة الصين الجيوسياسية في تثبيت هويتها التاريخية بوصفها قوة عظمى، والحفاظ على كيانها القومي بوصفها دولة مركزية موحدة، من خلال إضعاف النفوذ الأمريكي وتأثيراته في محيط الصين الإقليمي.في الإطار نفسه، تتمحور الاتفاقية مع إيران (بوصفها أداة لسياسة الصين الخارجية)، حول فلسفة “الانسجام السياسي” الكونفوشيوسية، من حيث سعي الصين إلى بناء نظام عالمي جديد منسجم مع المبادئ الصينية في تشكيل العلاقات الدولية، ومتوافق مع مصالح الصين من حيث موازاة قوة النظام العالمي الغربي السائد؛ وعليه، تسعى الصين إلى تحقيق التكامل بين المصالح المشتركة مع إيران، وآفاق التعاون للشراكة الاستراتيجية القائم على المصالح المتبادلة، والربح المتساوي.بناء على ما تقدم، تطرح الاتفاقية الصينية- الإيرانية “المعادلة الجيوسياسية الجديدة” للمنطقة، بحيث حرصت الصين في متن الاتفاقية على تأكيد مكاسبها الجيوسياسية في مجال النفط والطاقة، كما في مجالات النقل والمواصلات، والاتصالات والتكنولوجيا، وفي تعزيز قوتها البحرية بالسيطرة على المضايق والممرات المائية؛ وبهذا يدخل العالم اليوم في “مرحلة التسويات” الإستراتيجية، وإعادة التموضع الدولي في القارة الآسيوية، وهو ما سوف يولّد أبعادًا جيوسياسية ارتدادية، تحاول بموجبها القوى الدولية والإقليمية حماية مصالحها الجيوسياسية في وجه توسع النفوذ الصيني.

المصدر: مركز الدراسات العربية الأوراسية CAES

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى