مقالات مختارة

امرأة ” إسرائيلية ” على مائدة إفطاري .

نارام سرجون

في احدى اسفاري ولدى نزولي في احد الفنادق الغربية توجهت صباحا الى قاعة الافطار قبل أن الحق بموعد الطائرة التي ستطير بي .. هناك طاولات كبيرة وكان من الطبيعي ان يجلس النزلاء من عدة غرف حول طاولة واحدة كبيرة .. وكوني كنت مبكرا جلست الى احدى الطاولات التي لم يجلس عليها أحد بعد .. وبدأت تناول افطاري وانتبهت الى ان حقيبة نسائية موضوعة على الكرسي المقابل لي .. وعندما تلفت حولي وجدت امرأة خمسينية أنيقة تبدو قوية الشخصية تقترب وتجلس الى المائدة وهي تحمل افطارها وتلقي بتحية الصباح وهي مبتهجة .. فرددت محييا ابتسامتها بلطف .. وماان جلست حتى بادرت بالحديث عن انها تعد نفسها ليوم حافل بالنزهات بعد رحلة طويلة من بلدها الى هذه المدينة الرائعة .. فتجاذبت معها أطراف الحديث وكان من الواضح ان انكليزيتها توحي انها غالبا أميريكية .. فسألتها عن بلدها الذي أتت منه .. فأجابت بسرعة وبسعادة: لقد أتيت من القدس .. أنا اسرائيلية من القدس !! ..
ويبدو انها كانت تتوقع مني كغريب مثلها ابداء الدهشة والسرور للقاء اسرائيلية من القدس .. ولكنها لمحت بذكاء انني لم اعلق بل هززت رأسي وتابعت تناول افطاري وكان من الواضح ان البرود هو الذي ظهر على قسمات وجهي وأنني أظهرت حالة من التجاهل واللامبالاة .. فتوقفت عن حماستها وضحكها .. وسألتني بطريقة يبدو فيها الارتياب الكبير .. وأنت أيها السيد من اين أنت؟؟
لم أرفع وجهي وأجبتها وأنا أتابع تناول الافطار بلا مبالاة: أنا من دمشق .. أنا سوري ..
فأحسست ان صمتا قد سيطر عليها وعندما نظرت اليها وجدت ان عينيها المتسعتين تحملقان وتتأملانني وفيهما احساس بالظفر كأنني طائر اسطوري حط على طاولتها ..
وفي الحال تغيرت ملامحها وبدا أنها تكاد تشهق وتختنق في صوت نشيج .. ثم بدأت تفرك عينيها وكأنهما مقبلتان على الغرق او تترقرقان بالدموع .. ثم وضعت يدها على صدرها وصار صوتها متهدجا من التأثر .. فاستغربت ..
وبسرعة استدركت وقالت لي .. أعتذر لاأملك السيطرة على مشاعري .. أحس ان لدي رغبة بالبكاء ..
والحقيقة انني اعتقدت انها من ذلك النوع من اليهود المتنورين الذين لايزالون ينظرون الى العرب على انهم ساميون مثلهم وأنه الحنين القديم لأبناء العم كما يزعم .. ولكني تابعت محاولة تفسير هذه العاطفة الجياشة التي تفجرت في ثوان .. فقلت لها مستفهما في نوع من الاستغراب: ولكن لم انت تحسين بكل هذا التأثر؟ فقالت: انني ابكي عليكم في سورية ومايحدث في بلدكم من حرب يشنها عليها بشار الأسد؟؟ انه يقتلكم دون رحمة؟؟
ولكني لم أظهر اي نوع من الارتكاس لهذا الانفعال العاطفي؟؟ وبدا ان عيني جامدتين ولم تتأثرا بهذا التصريح الهام والذي كان من الواضح لي انه مفتاحها لبدء حديث مشترك عن معاناة السوريين وتقاسم العداوة لبشار الاسد مع الاسرائيليين .. ويبدو ان السيدة كانت تظن انني من المعارضين السوريين اللاجئين وأنني خرجت هاربا بعد ان قاتلت في سورية وبالتالي فانني بشكل اوتوماتيكي سأكون أقرب الى تفهم الاسرائيليين وان العداء لبشار الاسد كاف لنتلاقي ليس على طاولة واحدة بل على رصيف واحد وعلى قلب واحد ..
نظراتي كانت جامدة .. وملامحي جليد وعيناي تحدقان بشكل ثاقب في عينيها اللتين ترقرقتا بالدمع .. وفي الحال انتبهت السيدة انني لم ابادلها المشاعر الانسانية وظلت عيناي باردتين .. وانني لم أرحب كثيرا بمبادرتها الانسانية وكأنني غير معني بكل هذه الدموع .. وأنني من جماعة النأي بالنفس ..
ولدهشتي فان كل الدموع تلاشت في ثوان وجفت المآقي .. وحلت محلها نظرة التحدي .. وتبخرت كل العواطف التي كانت تفيض على وجهها في أقل من ثوان .. وظهر وجهها الحقيقي بلا دموع زائفة .. ولكن فاجاني سؤالها التالي اذ قالت: هل أنت دمشقي ام غير دمشقي؟؟ فقلت لها: وماذا سيغير لك الامر: فقالت بخبث: أظن أنك من خارج دمشق؟؟ هل انت من جماعة بشار الأسد؟؟ هل انت سني؟؟
فقلت لها: نحن لسنا جماعات في سورية .. وبشار الأسد هو الرئيس السوري وليست له جماعة؟؟ وبالمناسبة هو الرئيس الذي نحبه وهو الذي وضعنا امام هوياتنا الحقيقية .. وأنا دمشقي منذ عشرة آلاف سنة .. وأنا قطعة منحوتة من دمشق مثل صخرة مهاجرة من قاسيون تجلس الآن على كرسي .. ولكن أنت أمريكية .. تركت اميريكا لتعيشي في القدس .. وانكليزيتك الامريكية تشير الى انك مولودة في اميريكا وعشت فيها طويلا وانك انتقلت الى القدس منذ فترة قصيرة .. وبالنسبة للعواطف والدموع فانني على يقين ان هناك الكثيرين من الناس في الشرق الأوسط وخاصة في فلسطين من يستحقون دموعك أكثر من السوريين الذين قتلهم الاميريكيون وحلفاؤهم الاسرائيليون في مؤامرة واضحة هي الثورة السورية ..
فحملقت وبدت عليها القسوة وهي تقول: نعم أنني أميريكية وانا ابنة لأسرة ناجية من المحرقة وسافرت منذ عشر سنوات لأستقر في القدس مع عائلتي .. وأضافت في نوع من التهدئة: اذا كان بيننا وبينكم حرب فبسبب المتطرفين من عندنا ومن عندكم ولكن يجب ألا نتقاتل من أجل الدين ولا من أجل الله ..
فقلت لها: نحن لانقاتلكم من أجل الله .. ولاشأن لنا بالهكم .. نحن نقاتلكم من أجل الارض .. انتم لم تأتوا هاربين من المحرقة ثم طلبتم الغوث منا فقلنا لكم لن تدخلوا أرضنا .. نحن سكان بلاد الشام لجأ الينا كل من كان هاربا من ظلم وبطش .. الارمن المسيحيون قتلهم اخواننا في الدين المسلمون العثمانيون .. فوقفنا مع الأرمن المسيحيين ضد سلوك الطغاة القتلة المسلمين اخواننا في الدين .. وألجأناهم الى أرضنا وفتحنا لهم بيوتنا .. وصارت لهم حارات وقرى ومدن وصاروا منا وفينا .. ولم نقاتلهم ولم يقاتلونا لأنهم لم يسرقوا ارضنا ولم يعلنوا وطنا لهم بديلا على أرضنا وهم الهاربون من محرقة عثمانية .. وأنتم اليهود عشتم مع العرب في اسبانية مئات السنين ولم يذكر التاريخ انه تم اضطهادكم في اسبانية التي كان فيها الجميع متعايشين .. وعندما خرج العرب من اسبانية هربتم ولم تستطيعوا ان تعيشوا دون حمايتهم .. ولذلك فان المغاربة فيهم جالية يهودية كبيرة هي التي جاءت من اسبانيا لتعيش مع العرب بسلام ..
فسألتني : ولكن كيف نعيش بسلام في الشرق الأوسط؟؟ فقلت لها: بسيطة جدا .. أنتم موظفون عند الغرب .. الغرب بنى لكم ثكنة عسكرية ومخفرا له وضعكم فيه حراسا على نقاطه الامامية وأعطاكم اسم دولة هي اسرائيل .. أنتم تظنون انكم تسخرون الغرب ولكن انتم مساكين عمال وحراس مياومة ومؤقتون وتموتون من أجل غيركم .. عندما تنتهي مهمتكم .. سيتم نقلكم الى مهمة أخرى كما تنقلون اليوم داعش والنصرة من كهوف تورا بورا الى كهوف دير الزور وادلب .. وبعدها الى سيناء وصحراء ليبيا واليمن .. ولذلك عليكم التفكير بطريقة مختلفة .. وهي ان الغرب لن يبقى معكم الى الابد وانكم ستواجهون الشرق وحدكم .. ولذا عليكم ان تتصرفوا كما تصرف الارمن اللاجئون في سورية من غير عجرفة واستعلاء وباحترام للسكان الاصليين .. او تعودوا الى بلادكم الاوروبية ..

كان هناك كم هائل من الاحباط والهزيمة في عينيها الغاضبتين اللتين توقعتا افطارا تطبيعيا مع معارض سوري سيخون وطنه مع الاسرائيليين على الطريقة العربية وطريقة المعارضة السورية .. كانت مصدومة من هذا الافطار الدمشقي المليء بالديناميت والخيبات .. والذي فشلت الدموع الصناعية في جعله افطارا من عسل ..
رشفت آخر رشفة لي من كوب القهوة ثم استأذنت وقلت لها بتهذيب: .. نصيحتي ان تعودي بعائلتك الى اميريكا .. السوريون لم يتحطموا كما تخيلتم .. وليس كل السوريين الذين تلاقينهم يشبهون الدمى التي يستضيفها الاعلام الاسرائيلي من المعارضين الرخيصين الباحثين عن فنادق ودولارات .. هؤلاء هم قمامة السوريين .. السوريون الحقيقيون لايشبهون اولئك العرب الذين يرقصون معكم في الطرقات .. نحن السوريون الحقيقيون نراقص الميركافا .. ياسيدتي .. وقد نهضنا من كبوة الحرب .. وسنملأ الشرق من جديد .. طاب يومك ياسيدتي ..
وماان نهضت حتى نهضت بسرعة .. واستوقفتني وقالت باصرار: مااسمك أيها السيد ؟؟
قلت لها: نارام بن آرام سرجون .. وكي تعرفيني أكثر .. اقرأي التاريخ ..
وخرجت لألحق بموعد الطائرة العائدة بي الى أرض الوطن ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى