كتاب الموقع

الحق على ميشال عون

محمود بري | كاتب وباحث لبناني

لا أيها السيدات والسادة. الحق ليس على ميشال عون.

نعم هو رئيس البلاد، والعهد عهده، لكن الحق ليس على شخصه لأن العهد ليس عهد شخصه بل هو عهد الطاقم الحاكم جميعه، من حكومة ووزراء ومن مجلس نيابي ونوّاب… هذا من باب أول.

وهو أيضاً العهد الذي يستحوذ على السلطات والصلاحيات فيه رئيس الحكومة الذي (يسرح ويمرح) وقد ثقّلته ألعوبة الطائف بصلاحيات فضفاضة متراكمة، جعلته أشبه بملك مُطلق اليد يملك ويحكم بما يتناقض تماماً مع طبيعة النظام الذي كان أختاره اللبنانيون لدولتهم، قبل وصول الحريري الأب وقبل “تنجير” اتفاق الطائف الذي جعل مجموعة آبائه المزعومين ممن “وقّعوا عتم” على نصوصه ووافقوا وهللوا ونشطوا في تمريره وتسويقه، ليصبحوا بفضل هذا الدور الذي أدّوه، أثرياء بالأعطيات الرشائية وبالبخشيش، في حين أن رئيس المجلس في تلك الآونة، احتفظ لنفسه وما انفكّ محتفظاً بالنص الصحيح السليم الكامل لذلك “الاتفاق”، يمنعه عن الآخرين، ليكون القانون الذي لا يعرف أحد حقيقة وتفاصيل نصوصه، في حين أن الدولة تعتبره “دستوراً”… وهذا من عجائب الزمان.

العهد المنسوب تحاملاً لعون هو كذلك، وبالمقدار ذاته، عهد هذا المجلس النيابي بالذات الذي يرفض الكثيرون من أقويائه رفع الغطاء عن المُشتبه بهم بمسؤوليات ما (ينبغي أن يكشفها المثول أمام المحقق العدلي). وهذا يبرر التشكيك بوطنيته. هذا المجلس الذي عندما جرت عملية انتخاب رئيس الجمهورية، نذكر كلنا كيف اضطر رئيسه (وهو من أقوى وأدهى رؤساء المجالس النيابة منذ الاستقلال) إلى التدخل بقوة فقط لكي يحول دون تكرار “زعبرة” بعض النوّاب، وقد اشتعل حرجاُ وغضباُ،  فقام  بالاستعانة بمراقبَين إثنين من النواب يتابعان مجريات الاقتراع، فيحملقان بصندوقة الاقتراع عن قُرب، لكي يُحال دون عملية الغش المنحطّة التي يرتكبها أحد النواب المقترعين، ويجري بالتالي ضبط النائب الفاسد الذي كان يعمد إلى تخريب عملية الاقتراع بوضع ورقة إضافية مع ورقته، الأمر المُشين الذي كرره المرتكب وتكرر تخريب جولة الاقتراع. وأغلب الظن أن رئيس المجلس اكتشف غريمه المُخرّب وإن كان امتنع عن فضحه…

العهد هو عهد رئيس الجمهورية الذي “نُزع دسم منصبه” بموجب ما يُفترض أنه اتفاق الطائف (الذي لا أحد غير رئيسه الأسبق يملك نصوصه الحقيقية الكاملة) وجيّر صلاحياته (التي هي حق دستوري يعود لطائفة بعينها في النظام الذي وًزِّعت فيه الأدوار على شكل صلاحيات للطوائف). وبفعل ما قيل أنهم اتفقوا عليه في تلك المدينة الصحراوية البائسة، جرى نقل سُلطات كانت لرئيس الجمهورية الماروني، إلى رئيس الحكومة السنّي، فارتفعت الطائفة السنّية على حساب الطائفة المارونية، من دون أن يعترض أحد من “الركّاب” في بوسطة الطائف. وهذا ما أدّى إلى ضرب التوافق الميثاقي-الدستوري الذي قامت عليه الجمهورية اللبنانية أساساً، وقَلَبَه رأساً على عقِب، حتى وصلنا إلى اللحظة الراهنة… وما عاد ينقص سوى القليل من الصومَلَة التي يسعى البعض إلى نشرها كي يكتمل النقل بالزعرور.

وإلى كل ما سلف، فالعهد أيها السادة هو عهد شخص رئيس حكومة قيل ذات يوم في الصحف عندما جرى ترشيحه للمنصب، إنه سيعمل على تلبية واجب تشكيل الحكومة “لأنه طفران”…(!). وهذه ملاحظة تُسقط دولةُ في بلاد الناس.

العهد أيها السادة هو أيضاً عهد العديد من الوزراء الذين جاء بهم الحريري الأب من أتباعه العاملين في شركاته، فتضاعفت ثرواتهم بفضل صفقات مُجزية أُتيحت لهم، وهم كما يعلم الجميع، وضعوا تسعيرات خيالية لتواقيعهم، وكانوا “يرتّبون” الإلتزامات بحيث تنحدر من فلان إلى علتان إلى فليتان إلى… ضارب الطبل، فإذا بالإلتزام الذي رسا على المحظوظ  الأول بمائة مليون دولار مثلاً في مسيرة “إعادة الإعمار”، يبيعه هذا الملتزم الأول إلى مُلتزم آخر بـ 70 مليوناً (ويحتفظ لنفسه بالثلاثين مليوناً). ثم يلجأ الذي اشترى الالتزام، إلى بيعه لملتزم ثالث بمبلغ يقلّ عدة ملايين يكسبها البائع، ثم يكون هناك شارٍ رابع للإلتزام…وربما خامس وسادس، حتى يصل الإلتزام في النهاية إلى من ينفّذه، وتكون قمة نفقته قد هبطت من مائة مليون إلى عشرين أو ثلاثين مليوناً، وذهب الفارق إلى سلسلة الملتزمين، فيجري التنفيذ بمواد مغشوشة وبهندسات قاصرة لكي يضمن المُلتزم المنفّذ تحقيق ربح صاف لنفسه أسوة بالآخرين الذين تدرّج الإلتزام  إياه من واحدهم إلى الآخر. ويجري ذلك تحت عنوان أنهم كلّهم “أوادم”. إلى ذلك، فالإلتزام الذي حدّدت له الدولة (إقرأ رئيس الحكومة) نفقته بمائة مليون، يكون ممكن التنفيذ بمواصفات جيدة بأقل من نصف المبلغ. لكن رفع نفقته إلى الرقم العالي لا يكون بسبب الجهل أو عدم الاختصاص أو قلّة المعرفة، بل يكون رفعاً مقصوداً للتكاليف بهدف ضمان الأرباح للشباب الذين تدرّج الإلتزم عبرهم من واحد إلى آخر، وكسب كلّ واحد منهم ما استطاع، فيزدادون حماسة في التصفيق لوليّ النعمة واندفاعاً في مناصرته. وهكذا تضمن الدولة الحاكمة (رئيس الحكومة) إرضاء المعاونين والمحازبين والأزلام. هذا ما أتاح “ولادة” قبضة من أثرياء الفساد الذين كانوا وجوهاُ مغمورة، فاشتهروا بين ليلة وضحاها كأثرياء هبطوا من العتمة إلى الضوء.

نعم أيها السادة. هذه هي الحقيقة وإن كانت لا تُعجبني..

أما بالنسبة لشخص ميشال عون الذي لا يشك حتى أخصامه بنزاهته، فكل ذنبه أنه، وبسبب مخاوفه الأبوية من أن “يخرب البلد”، ارتأى طريقة سلمية للتعامل مع الفاسدين، غير آبه  بمجموعة كانت قريبة منه ورافضة لهذه الطريقة. وها هو البلد انهار ، تماماُ كما كان رئيس الجمهورية يخشى انهياره، إلا أن بعبدا خسرت بجدارة مُؤذية فرصة كانت سانحة لها بُعيد تسلّم الرئيس زمام البلد، أعني فرصة الضرب بيد من حديد وعلى طريقة ميشال عون- سوق الغرب والقليعات… فسقط البلد والعهد والناس بأبشع ما كان الرئيس يخشاه ويعمل على تجنّبه.

لعل المشكلة الحقيقية تكمن في أن ميشال عون الضابط والقائد، هو النقيض الكامل لميشال عون رئيس الجمهورية. أما الذين يتذرّعون بأن لا صلاحيات تُمكّن من العمل، فالمعروف أنه  بوسع القائد العام للقوات المسلحة أن يفعل ما يريده، إن صمم وقرر.

ولمن يُصرّ على أن يفهم مما سبق أنه مجرّد وسيلة لتبرئة الرئيس، ربما يكون الأجدى له أن يتنفّس بعمق امام نافذة… مفتوحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى