[ اضمحلال الدّولة في العالم ، و اضمحلال المجتمع ]
و ليس من النّافل أن نقول إنّ ما تعمل عليه الدّولة أو الدّول الكبرى العالميّة من تركيز الأهداف و اختزال الممارسة العموميّة و تكثيف الأغراض الذّاتيّة ، إنّما هو البعد الأكثر وضوحاً و فاعليّة في سطوتها العالميّة ، و ذلك عن طريق الشّدّة في ممارسة "الفكرة" القائمة على الإخضاع المباشر و غير المباشر للآخرين ، و ليس على أساس أيّ تصوّر أو وهم آخر من تخلّيها عن سطوتها العالميّة ، و لكنْ بأدوات أكثر إرهاباً و أقلّ كلفة و أبعد احتقاراً لمفهوم الإنسانيّة و مشاكلها القائمة .
اللواء الدكتور بهجت سليمان
( قراءة نظريّة في ثوابت “الفكرة” الدّائمة )
( الحلقة الثانية ” 2 من 3 ” )
● أوّلاً – جديدُ ظاهرة الدّولة ( اضمحلال الدّولة ) :
11▪ إنّ الحركة الدّائريّة للحضارة التي تصطدم نهاياتها ، دوماً ، في البدايات ، جعل من عودة مفهوم “البدايات” الخرافيّة في سيكولوجيا الإنسان ، أمراً يتجدّد في قلب السّياسة الممارسة واقعيّاً ، بحيث أنّه توجّه أوّلاً إلى الاستجابة للفوضى العميقة للبشر في صيغة من صيغ التّنظيم الذّاتيّ للدّولة ، بما في ذلك مغامرة العنف التي تطوّرت أدواتها المعاصرة إلى درجة أصبحت فيه قادرة على أن تُمارَسَ بكثير من الذّاتيّة و القليل القليل من العقلانيّة التي تُسخّر نتائجها للتّحطيم .
12▪ و في هذا السّياق تبدو الدّولة كظاهرة تاريخيّة ، اليوم ، أنّها تعود لتنتمي إلى أصولها ذات التّركيز العالي الدّاخليّ ، بما في ذلك انضغاطها في كثافات خياليّة معاصرة تحتفظ بأثر “الفكرة” من الثّبات النّشوئيّ الأصليّ ، بما تُمعن في اعتناقه من الخصوصيّة المضغوطة في حيّز الرّؤية الخاصّة و الشّخصيّة ، ضارباً “تطوّرها” الأخير ، بعرض الأشياء ، جميع تاريخها التّالي على الذّاتيّة المنغلقة الأولى ، إلى فنيّة ذاتيّة قديمة و شبه أصليّة ، و لو بتَقنيّات مذهلة معاصرة لا يعوزها سبب من أسباب التّضحية بالآخرين ، و ذلك في أيّة مناسبة و أيّ منعطف تُضطرّ – أو ترغب – إلى أن تنفرد بخصوصيّتها التي باتت ، اليومَ ، ممكنة مع تطوّر وسائل الخصوصيّة و الانفراد .
و إذا كان ذلك ممكناً ، و هو ممكنٌ ، فإنّه بفضل ما وصلت إليه الدّولة من كثافة الاستبداد المعاصر نحو الآخر و نحو المجتمعات نفسها التي تديرها الدّول ، مهملة ما علق بها من ثقافات سياسيّة تطوّريّة كلاسيكيّة و حديثة و حداثويّة و معاصرة ، متّجهة بذلك من جديد إلى استبداداتها الأصوليّة ( الأصليّة ) بما هي أقرب إلى الفكرة المجرّدة و غير الملموسة في الممارسات ، إلّا بوصفها ذلك الجهاز من القمع الشّديد التّاريخيّ ، و هو كلّ ما يبدو على الدّولة العالميّة المعاصرة أنّها احتفظت به من ذكريات جرّاء تطوّرها الارتكاسيّ التّاريخيّ .
13▪ يمكننا تصوّر هذا الخطّ البيانيّ الذي انتهى بالدّولة إلى مجرّد جهاز للقمع المتطوّر الشّديد المعاصر ، بالإضافة إلى تطوير الأدوات و الأداء ، و الشّموليّة و التّركيز ، بواسطة ما انضمّ إلى مؤسّسات الدّولة العالميّة المعاصرة من خبرات و اختيارات و كنايات و استعارات ، و هو الأمر الذي جعل الدّولة تغذّ نجاحاتها باتّجاه السّيطرة المُثلى على مادّتها السّياسيّة من الأفكار الاعتباطيّة و الخرافات القديمة و الأساطير المملوءة بخبرات التّحوّلات العالميّة عبر آلاف السّنين ، حيث لا يبدو أنّ الفلسفة السّياسيّة متّفقة على نقطة بدايات ظاهرة الدّولة الأولى تلك التي ظهرت في ما قبل الكتابة ، و التي لم يكن للكتابة نفسها أن تظهر إلّا في وسط من القوّة و الفائض القيميّ الذي توفّره الدّولة في المنطلقات .
14▪ في هذا الإطار فإنّ الدّولة المعاصرة الحداثويّة الأخيرة تظهر كانقلاب على مبادئ دولة الحداثة نفسها ، إذ لا يُعيبها ظهورها بمظاهر الاستئثار الذّاتيّ النّشوئيّ القديم ، ضدّ جميع منطلقات الحداثة و التّنوير و ذلك من قبيل فصل السّلطة ( فصل السّلطات ) و العقلانيّة و العدالة و المساواة ، و الدّيموقراطيّة و الشّعبيّة و الجماهيريّة و التّمثيل ، حيث تراجع في مضمونها الشّأن العامّ كما ارتكس في هيئتها جميع ما سطّرته الحداثة على الوضوح و الشّفافيّة و اليقين ، بما في ذلك وصف الدّولة نفسها بأنّها جهاز لإدارة و تسويات الشّأن العامّ ، لتتحوّل الدّولة إلى مجرّد مشروع غامض في خدمة قوى معيّنة نادراً ما تظهر على الملأ ، فيما هي تكلّف تكليفاً توظيفيّاً آمراً جملة من الأدوات و المؤسّسات الاحتكاريّة الشّخصيّة و الخاصّة ، و الأفراد الذين يخضعون بتمثيلهم للدّولة ، إلى حفنة من أساطين القوّة الذين يحملون على عاتقهم مهمّة إخضاع العالم بالعنف الصّريح .
15▪ لا يقتصر ، بطبيعة الحال أمر هذا الحديث على دول دون غيرها ، إذ لسنا في صدد الحديث ، هنا ، على سياسات قوميّة أو وطنيّة دون أخرى ، أو على صيغة من الحديث تتعلّق بتقاليد الحديث على الاستعمار و الإمبرياليّة العالميّة ، و الذي هو حديث أشهر من أن يُعاد تكراره أو البحث فيه .
بل و لعلّ المقصود بحديثنا هذا هو الواقع الذي نشير إليه و المتمثّل بانطباق حديثنا على الدّول العالمية الكبرى الأكثر نفوذاً و تأثيراً في العالم ، إلى الدّرجة التي تصبح فيه هي نموذجاً مثاليّاً للتّعبير الحيّ و المباشر على ما نرمي إليه ، و ذلك من حيث هي دول أكثر تقدّماً و سعياً إلى تجسيد المقاصد و الدّلالات التي هي محور هذا الحديث .
إنّ تكاثف الدّولة و تركّزها على النّحو الذي يُفضي بها إلى كونها أعمق ذاتيّاً و أبلغ انحساراً عن وظيفتها الاجتماعيّة و الاقتصاديّة العامّة ، إنّما هو يصبّ أوّلاً في مضمون الدّول الأكبر في هذا العالم ، و التي من شأنها أن تمثّل الظّاهرة المعاصرة لانكفاء الدّولة أو الدّول الأكثر حضوراً بقوّتها في عالم اليوم ، تحقيقاً لذلك النّموذج العابر للدّولة نفسها و لجميع مظاهر الدّولة المعروفة مع التّطوّر الأخير ، الذي تشهده صيغة الدّولة السّياسيّة التي بدأت بوضوح منذ بداية الألفيّة الثّالثة ، مع توطّد و توطين ما يُسمّى بالنّظام العولميّ المعاصر .
16▪︎و من المفهوم كيف أنّ ما ينطبق على الدّولة العالميّة أو الدّول العالميّة الأبرز على هذا الصّعيد ، إنّما ينطبق على الدّول الضّعيفة أو الهامشيّة ، بدافعين أوّلهما الاستلاب النّموذجيّ لأنماط الدّول غير الفاعلة جوهريّاً في السّياسات العالميّة ، و ثانيهما ارتباط أقدار هذه الدّول بدول المركز و المثال على الصّيغة العالميّة المعاصرة للدّولة ، ارتباطاً موضوعيّاً أو ارتباطاً ذاتيّاً و مقصوداً و ذيليّاً بتفاوت بين دولة و أخرى و نظام سياسيّ و آخر .
و ليس من النّافل أن نقول إنّ ما تعمل عليه الدّولة أو الدّول الكبرى العالميّة من تركيز الأهداف و اختزال الممارسة العموميّة و تكثيف الأغراض الذّاتيّة ، إنّما هو البعد الأكثر وضوحاً و فاعليّة في سطوتها العالميّة ، و ذلك عن طريق الشّدّة في ممارسة “الفكرة” القائمة على الإخضاع المباشر و غير المباشر للآخرين ، و ليس على أساس أيّ تصوّر أو وهم آخر من تخلّيها عن سطوتها العالميّة ، و لكنْ بأدوات أكثر إرهاباً و أقلّ كلفة و أبعد احتقاراً لمفهوم الإنسانيّة و مشاكلها القائمة .
17▪︎ فالدّولة الذّاتيّة في هذا المقام لا تعني أنها دولة منشغلة بذاتها و وظيفتها الوطنيّة أو القوميّة أو المحلّيّة ، بقدر ما تعني أنّها تلك الدّولة التي تتركّز هويّتها على الاستثمار المطلق و الاستنزاف الكامل الممكن لصيغة البشريّة في الاجتماع ، و في ما يتجاوز ذلك إلى الآخر ، بوصفها دولة غريبة التّكوين عن جميع مظاهر الحاجات و الدّلالات الإنسانيّة الأخرى ، و ذلك سِيّانَ ما كانت وقائع الاجتماع و الاقتصاد و القيم و الأخلاق ، محلّيّة أو في أقصى أصقاع العالم المعروفة أو المفترضة كساحات ، لتحقيق الغايات التي قد أصابها التّحوير في ضوء فهم القوى الحاكمة و المتحكّمة بمصائر جميع شعوب الأرض و من غير تمييز ، لغاية وجودها الذّاتيّ و الذي هو في كلّ يوم في كثافة و تكاثف و تكثيف و ذاتيّة ، و انحسار و انكفاء اكتراثيّيَن من شأنهما أن يشكّلا أعلى درجة من درجات الاحتكار .
18▪ يعيش العالم المعاصر ، إذاً ، في طور ما نسمّيه “اضمحلال الدّولة” بوصف الدّولة نظاماً سياسيّاً كان يقوم على الاهتمام و الاكتراث الموجّهين إلى الحماية و الرّعاية الوطنيّة و العالميّة و تبادل التّطوّر الإنسانيّ نحو أهداف و غايات “عامّة” ، بشريّة و إنسانيّة ، مع أنّ ذلك لم يكن ليؤثّر على الأهداف الخاصّة بكلّ دولة على حدة ، لولا أنّ التّطوّر الحادّ في الأدوات و التّراكم الأقصى للقوّة و المال و السّطوة و السْيطرة و أسباب العنف ، قد جعل من الدّولة القادرة على التّفرّد نموذجاً جديداً من الأنظمة السّياسيّة العالميّة ، القادر على التّضحية بالثّقافة نفسها التي قام عليها و تطوّر بفضلها ، إلى درجة أصبح خطّ التّطوّر ذو الإيقاع المتوقّع و المألوف عبئاً على مشروع الدّولة المعاصر ، الذي انعطف في منحناه البيانيّ خارج المعطيات الدّلاليّة الإسقاطيّة ، ليشكّل مفترقاً نهائيّاً مع تقاليد الاحتماليّات التي كانت تخضع لقوانين “العقلانيّة” ، لتكون قد أخلَت مضامينها من مختلف حساسيّات ( جماليّات ) مُتع “النّظريّات” المعروفة في مطابقاتها مع العالم اليوميّ ، و غير ذلك ممّا هو وثيق الصّلة مع الأهداف الإنسانيّة وثيقة الصّلة بالطّبيعة البشريّة ، كما قد أكّدت ذلك – على الأقلّ – آلاف الأعوام التي قطعتها البشريّة في تسوية القيم الإنسانيّة و ثقافاتها و أعرافها و بِناها ، التي أغدق عليها التّفاؤلُ الإرادة الفاعلة ؛ لتدخل في المحصّلة في غربة و اغتراب عضويين على رغم ما كان قد تم استبعاده في النّظريّة العقلانيّة من إمكانيّة مثل هذا الانحراف الإنسانيّ ( الّلاإنسانيّ ) في تطوّر البشريّة .
19▪ و فيما تظهر آثار ذلك الاضمحلال في كثافة عالية للذّاتيّة القائمة على التّسويات السّلبيّة و الإحجام عن المشاركة الإنسانيّة بالمصائر الجماعيّة للإنسانيّة ، بما هي هذه الإنسانيّة جملة من الاعتبارات المشتركة و بخاصّة بالمصير ، و بالتالي الانفراد بأدوات و نتائج و احتمالات المصير ، فإنّه بالقدر نفسه تعيش الدّولة العالميّة الجديدة الأقوى حالة من حالات التّكاثر المذهل في الأدوات و الهيمنة التي تسمح لها ، سواءٌ بالتّدخّل المباشر أو بحضورها حضور الظّلّ الطّاغي ، بالمشاركة الواسعة في صناعة مصير خاصّ و جديد للبشريّة خارج كلّ اعتبارات الإنسانيّة ، التي عرفتها ثقافات هذه الحضارة على مرّ تاريخها المعروف الطّويل .
و في سياق ذلك يمكن لنا تكهّن الهويّة البشريّة منخفضة الإنسانيّة إلى الحدّ الأدنى ، و التي ستظهر لنا أكثر فأكثر في الشّكل الآخر لجدة العالم المعاصر ، في اضمحلال المجتمعات .
● ثانياً – جديد ظاهرة المجتمع ( اضمحلال المجتمع ) :
20▪ كان من الطّبيعيّ أن تلحق المجتمعات بالدّول في انتكاساتها “التّطوّريّة” ، بحيث يسري عليها ما كان على دولها من انحطاط تطوّريّ كنتيجة من نتائج انحطاط الدّول في استحالتها إلى عناصرها الجوهريّة الأولى و البدائيّة ، و لو في شكل حداثويّ معاصر هو أكثر تعقيداً من سالفتها دول البدايات الاجتماعيّة و السّياسيّة في التّاريخ .
و مثلما رافقت “البربريّة” تطوّرات الحضارة البشريّة المعروفة هذه ، بعد آلاف من السّنين التي كانت فيها البشريّة مكتفية ذاتيّاً في حدود تجمّعاتها الصّغيرة المنفردة ، كلّ جماعة منها على حدة ؛ و مثلما كان ظهور المجتمعات الكبيرة مرتبطاً بازدياد عدد السّكّان المحلّيين منضافاً إليهم أسرى و سبايا “المجتمعات” الصّغيرة الأخرى ، كنتيجة لأعمال الغزو و النّهب و القتل و السّبي البربريّة .
● غدا : الحلقة الثالثة والأخيرة