مقالات مختارة

كتب عبد الرحمن جاسم | سركيس أبو زيد يفتح فصلاً منسياً من تاريخ لبنان الحديث: «تهجير الموارنة إلى الجزائر»… حكاية لا يتذكّرها أحد

عبد الرحمن جاسم | كاتب واعلامي

في كتابه الجديد والراهن أكثر من أيّ وقت مضى، يذهب المؤلف والباحث اللبناني إلى واقعة تاريخية مدعّمة بالوثائق، ليؤكّد مرّة أخرى على أنّ الرهان على الغرب والاستعمار، رهان فاشل، ودروس التاريخ لمن يفهم! هذه المرة، يأخذنا إلى مشروع جهنّمي أبطاله موارنة وفرنسيون حاولوا تنفيذ مخطّط تهجير موارنة لبنان إلى الجزائر بهدف تسخيرهم لمصالح الاستعمار الفرنسي وقتال أهل الأرض!لا يُخفي الكاتب والباحث اللبناني سركيس أبو زيد رغبته الكبيرة في الغوص عميقاً في التاريخ والعودة ببعض التفاصيل التي لا يريد كثيرون إظهارها للعلن وللناس. في كتابه «تهجير الموارنة إلى الجزائر (1845-1867)» (دار أبعاد) الذي يمكن اعتباره بحثاً قصيراً ممتداً على 143 صفحة، حكاية منسية من تاريخ لبنان الحديث؛ حيث «المصير المشؤوم الذي كان سيكتب للموارنة بين عامَي 1845 و1867: مشروع تهجيرهم من لبنان وتوطينهم في الجزائر. ومن أبطاله موارنة وفرنسيون حاولوا بشتى الوسائل العمل على تنفيذ هذا التهجير وتسخيره للمصالح الدولية والخاصة على السواء».

بحسب رسالة حاكم الجزائر -الفرنسي- المبعوثة إلى وزير الحربية الفرنسي في 15 كانون الأوّل (ديسمبر) 1847، فإنّ هؤلاء «الموارنة يقدمون عنصراً ملؤه الحيوية والفاعلية لاستعمارنا في الجزائر كونهم أناساً أشداء، جلودين وقانعين». ويشرح حمادة كيف أنَّ هذا البحث «يشكل قوةً دافعة لا يُستهان بها لورشة تصحيح كتابة التاريخ، خصوصاً في ما يتعلّق بالأمور التي تشكل بوصلةً لفهم حاضرنا، وتوقّع ما يُحاك لنا للمستقبل، ومنها موضوع الثقة بدول الاستعمار، وعبثية الارتماء في أحضانها بسذاجة تشبه ارتماء الحملان في أحضان الذئاب». تشرح المقدمّة جانباً آخر من التاريخ لا يعرفه كثيرون حول المندوب الفرنسي السامي على لبنان هنري دو جوفنيل، «الصهيوني الذي يُجاهر بصهيونيته». وفق حمادة، لولا كتابات موشيه شاريت وحاييم وايزمان لما «عُرف عن مهمته السرية» التي كانت تقضي بالمساعدة على «خلق» دولة صهيونية، وكيف أنه كان يعرض «الأراضي» اللبنانية والعربية على الصهاينة، وتحديداً حاييم وايزمان.

ينقسم الكتاب إلى ثلاثة فصول راعى خلالها الباحث اللبناني سركيس أبو زيد مفهوم التاريخ والتعريف بالفكرة الأصلية. يبدأ بعرض الفكرة والوجود الماروني في لبنان منذ البدايات، فيحكي كيف نشأت الطائفة المارونية «من رحم الاستقلال الوطني الذي استطاع أن يعبّر عن نفسه بعدما زالت الهيمنة العسكرية البيزنطية». انتقل بعد ذلك إلى الحملات الصليبية وبدايات انقسامات الموارنة، فتعاون «موارنة المناطق الجبلية مع أتابكة دمشق، عكس موارنة قرى الساحل»؛ شارحاً سبب الخلاف بين الموارنة والصليبيين. يصل بعد ذلك إلى حملات المماليك والفتح العثماني؛ موضحاً «التعقيد» الذي أحاط بالقضية اللبنانية، خصوصاً مع القبائل والشعوب التي كان يتم إحضارها إلى لبنان، من قبل كل الممالك والحكام المجاورين لتأدية دورٍ في حماية مصالحهم الخاصة.

يصل الكاتب لاحقاً إلى «نتائج هذا التهجير والتوطين»؛ مستعيراً عبارة المؤرخ كمال الصليبي «إنه ليصعب على المؤرّخ القول بشعب لبناني، دونما تحفّظ. الشعب اللبناني لم يكن في الماضي أمةً واعيةً لكيانها، موحدةً في أهدافها». هذا الكلام يشير إليه سركيس بقوله إن «غياب الوعي بفكرة الشعب الواحد أدّى إلى فقدان الهوية».

أما الفصل الثاني فهو «بيضة القبّان»، إذ يغوص في فكرة الكتاب المحوريّة: «تهجير الموارنة إلى الجزائر». يبدأ مع اقتراح قنصل فرنسا في الإسكندرية، الذي يُشير بوضوح إلى أنّه «توجّه عدد كبير من الموارنة إلى القنصلية العامة من أجل الحصول على إذن بالعبور إلى الجزائر، عارضين أن يكونوا مزارعين أو جنوداً». هكذا يُشير النص الحرفي الوارد في الكتاب لاقتراح قنصل فرنسا في الإسكندرية لوزير الشؤون الخارجية الفرنسي في 9 أيلول (سبتمبر) 1845. اللافت هو الرسالة التي بعثها «كبار موظفي وزارة الخارجية» كردٍ على هذا الاقتراح بأنّ «مسيحيي لبنان ليسوا محاربين، بل على العكس، إنهم يرزحون تحت سيطرة مطلقة لإكليروس قليل الأخلاق، غيورٌ على سلطته يعتمد على الدسائس».

بعد ذلك، يتطرّق الكتاب إلى المشاريع التي قدّمت لتهجير الموارنة إلى الجزائر بدءاً من مشروع الكاتب السياسي الفرنسي المعروف لوي دو بوديكور (1815 ـــ 1883)، ومشروع الأب جان عازار الوكيل العام لمطران صيدا آنذاك، ومندوب البطريرك الماروني، الأمير أسد شهاب الذي «استوضح» قبول فرنسا بفكرة «نقل فلاحين موارنة بصفة مستوطنين في مقاطعة الجزائر وهو يتولى نقلهم بنفسه إلى أراضينا في شمال أفريقيا». «مشروع فيليكس والماس» تحدّث عن «تكاثر السكان المسيحيين كشرط لا بد منه لصون الاحتلال الفرنسي في أفريقيا»، وثلاثة مشاريع أخرى أصغر حجماً وأقل شهرةً (كمشروع الكونتيسة كليمانس دو كورنيان- لاجوكير)، وصولاً إلى «آخر فصل في هذه المسرحية» كما يُشير الكتاب، أي إلى يوسف بك كرم الذي «أُقصي» بعدما كان يطالب بحكم وطني لبناني، واختارت له فرنسا الجزائر مكاناً لإقامته، بِنيّة الإفادة من علاقاته، علّه ينجح في استقطاب عدد كبير من الموارنة إلى الجزائر. وهذا ما رفضه كرم، وما لم يحصل تالياً. يصل الكتاب إلى فصله الثالث والأخير الذي هو فصل «الوثائق». يورد المؤلّف هنا وثائق هامة لناحية تأكيد فكرته والتركيز عليها بضوء كاشف. نجد في هذا الفصل رسائل من وزير الحربية الفرنسي إلى وزير الشؤون الخارجية، ومن الحاكم العام للجزائر إلى وزير الحربية؛ فضلاً عن العديد من الدراسات و«النظم» التي من شأن أي باحث في التاريخ، أن يجدها كنزاً كبيراً.
كتاب سركيس أبو زيد عمل توثيقي مرجعيّ، يتناول جانباً مجهولاً من التاريخ. لو تحقّق هذا الجانب، لكان من شأنه إحداث «زلزال» لم تكن لتنتهي فصوله حتى اليوم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى