دوافع إردوغان في المصالحة مع السيسي وابن سلمان .
حسن محلي | باحث تركي في العلاقات الدولية ومختص بالشأن التركي .
مع استمرار المساعي التي تبذلها أنقرة للمصالحة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي العهد السعودي محمد بن سلمان ونظيره الإماراتي محمد بن زايد، لا يخفي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان حساباته مع الجارتين سوريا والعراق، اللتين تجمعهما ببلاده العديد من القواسم المشتركة، أهمها القضية الكردية ومياه دجلة والفرات.
وعلى الرغم من كل ما قاله إردوغان ضد السيسي ومحمد بن سلمان، فإن المعارضة تتحدث عن مساعٍ مكثفة يبذلها للمصالحة معهما بأسرع ما يمكن، باستدارة لا مثيل لها في العلاقات الدولية، وحتى السلوك الشخصي الذي يتعرض لانتقادات عنيفة من المعارضة، فقد قال في 22 آذار/مارس 2015: “إننا، كدولة تؤمن بالديمقراطية، وكسياسي مؤمن بالديمقراطية، لا يمكننا أن نقبل بانقلاب السيسي. أنا أقول دائماً إنني لا أعترف بالسيسي رئيساً لمصر. بالنسبة إليّ، مرسي هو الرئيس الشرعي”.
انتقادات إردوغان المتكررة للرئيس السيسي كانت من أهم سمات سياسات أنقرة الإقليمية بعد ما يسمى بـ”الربيع العربي”، إذ تغنى بذكريات الخلافة والسلطنة والإمبراطورية العثمانية، وقال في 20 حزيران/يونيو 2019: “لدينا روابط تاريخية وثقافية تمتد جذورها إلى مئات السنين في الرقعة الجغرافية التي كانت تحت حكم الدولة العثمانية، وفيها الآن 45 دولة مستقلة. وفي معظمها، هناك أقرباء وأشقاء لنا من ذوي الأصل التركي. لذلك، لا يمكننا أن نتجاهل ما يحدث في هذه المناطق، سواء كان في أوروبا أو شمال أفريقيا أو البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى، وحتى أميركا اللاتينية، فمشاكل هؤلاء وهمومهم هي مشاكلنا وهمومنا التي يجب أن نعمل لمعالجتها. لذلك، حتى إذا تجاهل العالم برمته انقلاب السيسي الظالم، فنحن لن نتجاهله. ومثلما لم نسكت عن جريمة الخاشقجي، لن نسمح لأحد بأن يغلق ملف محمد مرسي، فالشخص الذي يدعى السيسي معادٍ للديمقراطية وظالم”.
وفي 10 تشرين الأول/أكتوبر 2019، كانت السعودية إلى جانب الرئيس السيسي الذي استهدفه إردوغان، إذ استنكر موقف مصر والسعودية الرافض لدخول الجيش التركي شرق الفرات، وقال: “على السعودية أن تنظر إلى المرآة، لترى من الذي دمر اليمن وأوصله إلى ما وصل إليه، وعليها أن تدفع ثمن ما ارتكبته فيه”، ثم كرر هجومه التقليدي على السيسي، وقال: “سواء انتقدت أو لم تنتقد ما نقوم به شرق الفرات، فأنت الذي قضيت على الديمقراطية في بلادك وظلمت شعبك”.
وفي 26 أيلول/سبتمبر 2019، لم يدخل إردوغان الصالة عندما رأى السيسي جالساً إلى طاولة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي أقام حفل عشاء على شرف رؤساء الوفود التي شاركت في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان قد اتخذ الموقف نفسه في العام 2014، عندما رفض الجلوس إلى طاولة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، بعد أن رأى السيسي جالساً إلى جانبه.
وفي 23 شباط/فبراير 2019، كان إردوغان أكثر شدةً وحدةً خلال حديثه عن الإعدامات في مصر، إذ وصف السيسي “بأنه ديكتاتور ظالم وعدو لشعبه”، وقال “إنه لن يلتقي به إلا بشرط واحد، وهو إيقاف الإعدامات وإخلاء سبيل كل المعتقلين السياسيين”، ويقصد بهم الإخوان المسلمين، الذين قدم إردوغان لقياداتهم وكوادرهم، وهم جميعاً في إسطنبول، كل أنواع المساعدات السياسية والأمنية والمادية.
أما الإمارات، فقد كانت الهدف الأكبر في حملات الرئيس إردوغان وإعلامه الذي اتهم ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد “بمعاداة تركيا على جميع الجبهات، عبر التنسيق والتعاون مع مصر والسعودية واليونان وقبرص وفرنسا”. وتحدث إبراهيم كالين، رئيس تحرير صحيفة “يني شفق” الموالية لإردوغان، “عن ضرورة تلقين ابن زايد درساً لن ينساه في عقر داره”، رداً على مؤامراته ضد تركيا.
كل ذلك حتى الأسابيع القليلة الماضية، إذ نسي الرئيس إردوغان أو تناسى مجمل أقواله السابقة، وهي كثيرة، عن السيسي وابن سلمان وابن زايد، في محاولة أخيرة منه للتخلص من العزلة التي يعانيها في المنطقة، مع استمرار خلافاته مع الرئيس بايدن الذي اتهم الدولة العثمانية بإبادة الأرمن، ولم يستطع إردوغان الرد عليه عملياً، لأنه بحاجة إلى واشنطن، في الوقت الذي يعرف الجميع عمق خلافاته مع الرئيس بوتين في سوريا، بعد أن بات واضحاً أنه لن يتخلى عن حلفائه هناك، وهم يقاربون عشرات الآلاف من المسلحين شرق الفرات وغربه، بما في ذلك إدلب، مفتاح المعادلة السورية، وفيها “النصرة” التي تتودد بدورها إلى الرئيس بايدن.
كما لن يتخلى إردوغان عن الشرق السوري، مع استمرار التواجد الأميركي والفرنسي والبريطاني الداعم لـ”قسد” ووحدات حماية الشعب الكردية، التي يرى فيها خطراً على الأمن القومي الاستراتيجي لتركيا، بعد أن فشل في كسب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وهو الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، إلى جانبه.
يأتي ذلك في الوقت الذي يستمر التدخل التركي في الشمال العراقي، الذي أقام فيه الجيش التركي العديد من القواعد الدائمة، باعتراف وزير الداخلية سليمان صويلو، منذ يومين، وذلك بحجة ملاحقة مسلحي حزب العمال الكردستاني، ومعظمهم الآن في سوريا.
يبقى الرهان هنا على الموقف المصري الرافض في البداية للتواجد العسكري التركي في ليبيا، والآن في سوريا والعراق. ويبدو واضحاً أن مصر لن تستطيع إخراج القوات التركية إلا في إطار تفاهم إقليمي ودولي ستساهم القاهرة والرياض فيه، وقد يكون تودد أنقرة إليها جزءاً من هذا التفاهم. يفسر ذلك إغلاق الرئيس إردوغان فجأة ملف جريمة جمال خاشقجي، وهو ما اعترف به المتحدث باسمه إبراهيم كالين، الذي قال “إن تركيا تحترم قرار المحاكم السعودية في هذا الموضوع”، بعد كل ما قاله عن ابن سلمان ودوره في جريمة خاشقجي.
جاء الموقف التركي هذا مع تصريحات الوزير الأميركي أنتوني بلينكن الذي قال: “يبدو أن ولي العهد سيكون زعيماً للسعودية لفترة طويلة مستقبلاً، وعلينا أن نفكر في سبل دفع مصالحنا وقيمنا بالطريقة الأكثر فعالية، سواء أعجبنا هذا الأمر أم لم يعجبنا، لأننا سنكون بحاجة إلى مواصلة العمل مع السعودية التي ما تزال شريكاً في مجالات كثيرة”.
وتناسى بلينكن بدوره التقرير الذي نشرته المخابرات الأميركية في 26 شباط/فبراير، بتوجيه من الرئيس بايدن، واتهام ابن سلمان بالموافقة شخصياً على عملية قتل خاشقجي. وقد استمدت المخابرات الأميركية معظم معلومات هذا التقرير من أنقرة، التي زارتها رئيسة “CİA” جينا هاسبل في 20 تشرين الأول/أكتوبر 2019، والتقت الرئيس إردوغان.
ويبقى الرهان، ربما الوحيد، على جدية الشروط المصرية للمصالحة مع أنقرة، ومنها الانسحاب التركي من مجمل الدول العربية، وفي مقدمتها سوريا؛ مفتاح كل المعادلات الإقليمية. وسيتطلب ذلك تخلي إردوغان عن كل مقولاته وسياساته منذ ما يسمى بـ”الربيع العربي”، الذي دفعه إلى معاداة الرئيس الأسد، لأنه رفض “تعليماته”، بحسب تصريحات الأخير الذي قال: “إردوغان كان يتصرف معي وكأنه سلطان عثماني وأنا والٍ يأتمر بأوامره”.
إن تخلي إردوغان عن نهجه هذا سيعني تخليه عن مجمل سياساته التي تصفها المعارضة بـ”المغامرات الخطيرة التي أوصلت تركيا إلى نهاية النفق المظلم سياسياً واقتصادياً”، ومالياً أيضاً، وذلك باعتراف محافظ المصرف المركزي شهاب كاوجي أوغلو، الذي قال “إن تحليق الطائرات المسيرة المفخخة وغيرها، وتواجد العساكر الأتراك في الخارج، له تكاليفه التي تتحملها تركيا، والتي لم يعد أحد يستطيع أن يتجاهل دورها وثقلها في السياسة الدولية، وخصوصاً في سوريا والعراق وليبيا وشرق الأبيض المتوسط”.
قد يفسر هذا “النفق المظلم” موقف إردوغان تجاه أعدائه السابقين، وهم السيسي الذي أفشل مشروعه الإخواني، وآل سعود، أعداؤه التاريخيون، وآل نهيان “رأس التآمر”، وفق التوصيف التركي، فالمصالحة معهم لن تكتمل إلا بشرطين، أحدهما المصالحة مع سوريا، بوابته لدخول المنطقة العربية بعد استلام “العدالة والتنمية” السلطة نهاية العام 2002، والآخر تخليه عن سياساته الداخلية، وأهمها أسلمة الأمة والدولة التركية. وإذا تحقق ذلك، فإن إردوغان لن يكون إردوغان الذي نعرفه الآن !