فرنسا 2021: تحديات وخيارات في لبنان وتركيا وايران وافريقيا
سركيس ابو زيد | كاتب وباحث سياسي لبناني .
عام 2020 واجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مشكلات اقتصادية واجتماعية وإرباك فيروس “كورونا” ومظاهرات وإضرابات احتجاجية وعمليات إرهابية. وفي الخارج واجه الخيبة في لبنان والصداع مع تركيا، والخطر على الساحل الإفريقي، والمناكفة مع الولايات المتحدة، والتجاذب داخل الاتحاد الأوروبي.
وعام 2021 سيكون على ماكرون أن يواجه مجموعة من التحديات التي يجب التعامل معها، وإيلاء الملفات الداخلية ذات العناوين المتعددة الأولوية: الأزمة الصحية، وتداعياتها الاقتصادية والمالية والسياسية. وفي السياق عينه، يجب على ماكرون أن يبدأ بالتحضير للمعركة الرئاسية المقبلة التي ستجري بعد 16 شهرًا من أجل الفوز بولاية ثانية. وفي الخارج، تجد باريس نفسها بحاجة إلى إعادة رسم سياستها الخارجية، على ضوء متغيّر رئيسي عنوانه نهاية عهد دونالد ترامب ووصول رئيس جديد هو جو بايدن.
مبادرة فرنسية في التناقضات اللبنانية
لندع الملفات والمشاكل الداخلية جانبًا، ولننطلق الى فتح الملفات والتحديات الخارجية، وبدءًا من لبنان، حيث يسود اعتقاد في باريس وعلى نطاق واسع أن مبادرة ماكرون غرقت في الوحول اللبنانية، وفي التجاذبات الاقليمية، وفي حسابات الأطراف ورهاناتهم تارة على الانتخابات الأميركية، وطورًا على تغيّر الموازين في المنطقة والحوار الأميركي – الإيراني المرتقب. بيد أن سفيرًا سابقًا جيد الاطلاع على الأوضاع اللبنانية وخبايا الدبلوماسية الفرنسية قال إن عيب المبادرة الفرنسية يكمن في أربعة أمور: الأول أن ماكرون ومستشاريه لم يقّدروا قدرة النظام السياسي اللبناني وطبقته على امتصاص الصدمات وتغليب غريزة البقاء حق قدرها، والثاني أن ماكرون بتعويمه هذه الطبقة مكنها – بشكل غير مباشر – من أن تقاومه، خصوصًا أنه وفر لها الوقت، ولم يكن يحمل بوجهها “الهراوة” الغليظة، والثالث أن الوعود الدولية التي حصل عليها بالامتناع عن التدخل بالشؤون اللبنانية لم يتم أخذها بعين الاعتبار، والرابع أن لبنان ورقة تفاوضية مهمة في الزمن اللاحق، وأيضًا بصدد رسم صورة مستقبل المنطقة. وبناء عليه، فإن الوساطة الفرنسية دخلت في حالة “الموت السريري”، ولا أحد يلتفت إليها لبنانيًا لأن الأنظار مصوبة لقراءة ما سيصدر عن الإدارة الأميركية الجديدة. ومع ذلك، فإن التحدي اللبناني سيكون حاضرًا بقوة في الحراك الدبلوماسي الفرنسي لأسباب تاريخية وسياسية.
نحو تطبيع العلاقات الفرنسية التركية
في الشرق، بدا الملف التركي متقدمًا على الملف اللبناني في الاهتمامات الفرنسية، بعدما تسبب الرئيس رجب طيب إردوغان بصداع شديد للرئيس ماكرون في العام الماضي، إذ إنه لم يكتف بالتنديد بالسياسة الفرنسية في الخارج والداخل (وضع مسلمي فرنسا)، بل ذهب إلى حد التجريح الشخصي به، واتهامه بـ”الاختلال العقلي” و”الموت السريري”، ونصحه بالتوجه إلى طبيب نفسي. وفي المقابل، انتقد ماكرون، ومعه وزيرا الخارجية والدفاع، مرارًا وتكرارًا، في أكثر من مناسبة، أداء تركيا داخل الحلف الأطلسي، وتدخلها العسكري في سوريا ضد الأكراد، حلفاء التحالف الدولي في محاربة “داعش”، وانتهاك سيادة العراق بسبب غاراتها الجوية في شمال البلاد، وإبقاء قاعدة عسكرية على أراضيه.
ولعل أعنف الانتقادات طالت سياسة تركيا في ليبيا التي تهدد المصالح الإستراتيجية الأوروبية وتستجلب المرتزقة والارهابيين إلى أبواب الاتحاد الأوروبي، فضلًا عن انتهاك السيادة المائية لعضوين فيه. وكان آخر الغيث تدخلها السافر في حرب ناغورني قره باغ ضد الأرمن، ودعمها للجيش الآذري. وعملت باريس بقوة من أجل فرض عقوبات اقتصادية وتجارية أوروبية على تركيا، والضغط عليها من خلال “الناتو”، ومحاولة عزلها سياسيًا. كذلك انتقدت باريس بشدة دعوة تركيا لمقاطعة البضائع الفرنسية بحجة سياسة ماكرون المعادية للمسلمين. بيد أن الأمور أخذت بالتغيّر في الأيام القليلة الماضية. فالخطاب التركي، على لسان إردوغان ووزير خارجيته مولود تشاووش أوغلو، راح في منحى مختلف، مع عودة التركيز على أن مستقبل تركيا مع أوروبا، والدعوة إلى فتح صفحة جديدة، بل إن الخطاب تجاه فرنسا تحول بدوره. وأعلن أوغلو أنه اتصل، بداية العام الحالي، بنظيره الفرنسي، واتفقا على خريطة طريق لتطبيع العلاقات المأزومة، وفهم أن أول بنودها هو وقف التراشق الاعلامي. وتربط مصادر فرنسية الاستدارة التركية بعاملين اثنين: العقوبات الأوروبية الحالية والمقبلة، وأثرها على الاقتصاد التركي المتهالك،
ووصول جو بايدن إلى البيت الأبيض، ومواقفه المتشددة المعلنة من تركيا وإردوغان بالذات، إذ سبق له أن دعا المعارضة للتخلص منه من خلال الانتخابات، وأعرب عن استعداده لدعمها. أما الانفتاح على فرنسا، فمرده رغبة أنقره في تحييد باريس داخل الاتحاد. ويبدو أن باريس أيضًا تريد التهدئة، حيث قال الباحث الفرنسي المعروف ديديه بيون إن إحدى العلامات تعيين هيرفيه ماغرو سفيرا في أنقره. وقد ولد ماغرو في تركيا، حيث كان والده في مهمة دبلوماسية، ويتكلم اللغة التركية بطلاقة، ويعرف دقائق ملف العلاقات الثنائية، وكيفية التحدث إلى الأتراك.
فرنسا بين طهران وواشنطن
الملف النووي الايراني يبقى ثابتًا في الأجندة الفرنسية للعام 2021، ودائمًا في إطار طموح ماكرون بأن يلعب دور صلة الوصل بين واشنطن وطهران عبر تشجيع بايدن على العودة الى الاتفاق النووي، ودفع طهران بالتوازي لإدامة الالتزام بتعهداتها النووية، مع العلم أن الخط العام لسياسة الرئيس المنتخب يتطابق إلى حد بعيد مع ما كانت تدعو إليه باريس منذ البداية.
وفي الواقع، فإنه بالنسبة إلى الملف النووي الإيراني، تشخص الأنظار ليس إلى باريس بل إلى واشنطن، حيث التغيير الجذري يتمثل في رغبة الرئيس الأميركي الجديد بايدن في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، ومن ثم، إطلاق جولة مفاوضات جديدة تأخذ بالاعتبار برامج الصواريخ الباليستية الإيرانية وسياسة طهران الإقليمية.
مستقبل الحضور العسكري الفرنسي في افريقيا
لا بد من الإشارة أخيرًا الى ملف الدور العسكري الفرنسي في بلدان الساحل الإفريقي الذي يبرز على رأس اهتمامات ماكرون، والذي من المتوقع أن تطرأ عليه تعديلات وإعادة نظر هذا العام بعد ارتفاع الكلفة البشرية والمادية التي تتحملها فرنسا.
من المعروف أن فرنسا أطلقت في عام 2014 عملية “برخان” وهدفها محاربة التنظيمات الارهابية التي تهدد استقرار بلدان الساحل الخمسة، حيث نشرت باريس 5100 عسكري مدعمين بقوة جوية متعددة الأشكال، وبإسناد لوجيستي. والحال أن هذه القوة تعمل بالتنسيق مع القوة الافريقية المشتركة المسماة “جي 5 ،”وتضم نظريًا وحدات من بلدان الساحل الخمسة (موريتانيا، ومالي، والنيجر، وبوركينا فاسو، وتشاد).
وفي الأسابيع الأخيرة، أخذت تسمع نغمة جديدة عنوانها خفض عدد القوة الفرنسية. لكن الصعوبة تكمن في غياب رؤية واضحة لكيفية تطور الأوضاع الميدانية، ولمستقبل الحضور الفرنسي العسكري الذي عنوانه الرسمي “محاربة الارهاب”، في بيئة ينمو فيها الشعورالمعادي لفرنسا.
هذه بعض الاستحقاقات الخارجية التي تواجه فرنسا في تحديات العام 2021. هل ينجح ماكرون في الامتحان الدولي حتى يعزز حضوره المتعثر داخليًا، أم يفشل على الجبهتين فيخسر معركته الانتخابية؟