إدارة بايدن ملزمة بالتعاطي مع موازين القوى المكرّسة في المنطقة لمصلحة دول وقوى محور المقاومة.
حسن حردان – باحث في الشؤون السياسية والإستراتيجية
عندما نتوقف أمام التوجيهات الجديدة التي تعتزم سلوكها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على صعيد السياسة الخارجية، لا سيما إزاء طريقة التعامل البراغماتية مع الحروب المتعدّدة الأشكال في منطقة الشرق الأوسط.. لا يجب بأيّ حال إغفال جملة من الحقائق، التي قد ينساها البعض عندما يتحدث عن مواقف بعض المسؤولين الذين اختارتهم إدارة بايدن لتنفيذ توجهاتها، وأبرزهم روبرت مالي الذي عُيّن مبعوثاً خاصاً للشأن الإيراني، وإظهاره وكأنه حمامة سلام…
الحقيقة الأولى، انّ الحروب الإرهابية بالوكالة، والصراعات والأزمات المتفجّرة في دول المنطقة منذ عام 2011، إنما تقف وراءها إدارة الحزب الديمقراطي في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، الذي أشرفت إدارته على تفجير ما سُمّي بـ «الربيع العربي» في سياق خطة لاستغلال الأزمات التي يعاني منها الجمهور العربي، نتيجة سياسات الحكام التابعين لواشنطن، بهدف تجديد شباب هذه الأنظمة، بطاقم جديد غير مستهلك ويحظى بشعبية، قادر على خدمة السياسة الأميركية والصهيونية… فكانت جماعة الإخوان المسلمين هي الجهة التي تولّت، بالاتفاق مع الإدارة الأميركية، هذه المهمة، ومساعدتها على الوصول إلى سدة السلطة وقطف ثمار الانتفاضات والاحتجاجات الشعبية في مصر وتونس وليبيا…
فيما كان دور الإخوان بالاتفاق مع حكم مثيله حزب العدالة والتنمية في تركيا بقيادة الرئيس رجب أردوغان، العمل على إثارة احتجاجات في سورية بغطاء «الربيع العربي»، بغية إسقاط وتدمير الدولة الوطنية السورية بقيادة الرئيس بشار الأسد، وتفكيك مؤسساتها الأساسية، وخصوصا مؤسسة الجيش العربي السوري، وإعادة تركيب الدولة السورية على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، على غرار ما فعل المحتلّ الأميركي في العراق، عبر وضع دستور جديد يؤسّس لهذا النموذج من الانقسام والتفكك بما يخدم السيطرة الاستعمارية ومخططاتها على مدى طويل.
الحقيقة الثانية، انّ التنظيمات الإرهابية لا سيما داعش والنصر، وهما جزء من تنظيم القاعدة، إنما هي من صنع إدارة أوباما وفريق إدارته الذي عاد ليكون أساس فريق إدارة بايدن الذي كان أيضاً نائباً للرئيس أوباما.. على أنّ دور إدارة الديمقراطيين في عهد أوباما في الوقوف وراء تأسيس داعش والنصرة كشف عنه ترامب، واعترافات وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون…
الحقيقة الثالثة، انّ إدارة أوباما أقدمت على توقيع الاتفاق النووي مع إيران عام 2015، بعد أن وصلت إلى قناعة بأنه لا يوجد خيار آخر أمامهاً، خصوصاً في ضوء التحوّل النوعي في مسار الحرب الإرهابية في سورية، لمصلحة الجيش السوري وحلفائه، والذي تعزز نهاية عام 2014 مع المشاركة العسكرية الروسية النوعية بدعم الجيش السوري في الميدان، بواسطة الطيران الحربي الروسي المتطور، ومنظومة الدفاعات الصاروخية الجوية والبرية..
الحقيقة الرابعة، انّ التحوّل في موقف إدارة أوباما الذي تمثل في التوقيع على النووي من ناحية، والامتناع عن الذهاب إلى التورّط العسكري في شنّ الحرب ضدّ سورية وحلفائها من ناحية ثانية، لم يكن إلا نتيجة إدراكها بأنّ موازين، التي تشكلت على ضوء انتصارات سورية وحلفائها والحضور العسكري الروسي النوعي، أوجدت توازناً عسكرياً استراتيجياً في مواجهة القوة الأميركية، يجعل من أيّ حرب مكلفة جداً لأميركا، وقد تتحوّل إلى حرب واسعة تعرّض النفوذ الأميركي ومعه الكيان الصهيوني لمخاطر كبرى، الى جانب عدم إمكانية الفوز فيها.
انطلاقاً من هذه الحقائق، اتجهت إدارة أوباما، بعد توقيع الاتفاق النووي، الى عقد اتفاق مع روسيا لتجنّب الاصطدام في الاجواء السورية، والموافقة على إطلاق مفاوضات جنيف لإيجاد مخرج سياسي للأزمة في سورية.. وكان التسليم الأميركي المتدرّج بالفشل في إسقاط الرئيس بشار الأسد وتغيير تركيبة وهوية الدولة الوطنية السورية، قد تكرّس بالموافقة على إصدار القرار الدولي عن مجلس الأمن رقم 2254 الذي أكد على وقف الهجمات ضدّ المدنيين، ودعم وقف النار، والجهود المبذولة لإطلاق مفاوضات للحلّ السياسي للأزمة، واستثناء داعش والنصرة، وبعض المجموعات الأخرى، من المشاركة فيها، باعتبارها مصنّفة تنظيمات إرهابية، ولهذا لم تشمل بقرار وقف العمليات العسكرية ضدّها…
انطلاقاً من هذه الحقائق، فإنّ إدارة بايدن، التي تشكل امتداداً لإدارة أوباما، تجد نفسها اليوم أمام تثبيت وتكريس لهذه الحقائق، بسبب أساسي وهو أنّ موازين القوى التي كرّستها، والتي أجبرت إدارة أوباما على التراجع أمام إيران، والتراجع تلو التراجع في سورية، إنما باتت اليوم أكثر اختلالاً لمصلحة حلف المقاومة والحليف الروسي، ما يدفع إدارة بايدن لتكون أكثر واقعية، وهو ما تجسّد بوضوح من خلال أمرين لافتين:
الأمر الأول، تعيين روبرت مالي مبعوثاً خاصاً للشأن الإيراني، وهو من أكثر المؤيدين للعودة إلى الاتفاق النووي، ومعارضة للانسحاب منه، وللعقوبات التي فرضها ترامب على إيران.. ما يعني انّ إدارة بايدن حسمت قرار العودة السريعة للاتفاق وعدم الإنصات لاعتراضات المحافظين الجدد، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، ورئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو…
الأمر الثاني، اعتراف الدبلوماسي الأميركي السابق جيفري فيلتمان والمرشح لأن يتولى المسؤولية عن الملف السوري، بأنّ سياسات إدارتي أوباما وترامب في سورية فشلت في تحقيق أهدافها، وأنه بات مطلوباً مقاربة جديدة أكثر واقعية في سورية، وفتح قناة للحوار مع القيادة السورية، وان كان قد ربط رفع العقوبات وتسهيل عودة اللاجئين والإعمار، بموافقة الرئيس الأسد على بعض الشروط الأميركية المتعلقة بالإصلاح السياسي، إلا أنه أقرّ بصعوبة النجاح في ذلك.
الخلاصة انّ واشنطن لا تتراجع إلا إذا وصلت إلى حالة من اليأس من إمكانية تحقيق أهدافها الاستعمارية، ووجدت أنّ الاستمرار في سياسات الحرب والحصار بدأت تؤدي إلى نتائج عكسية… لكن في اللحظة التي تشعر فيها الإدارة الأميركية، جمهورية كانت، أم ديمقراطية، انّ الظروف تبدّلت وصارت تسمح لها بمواصلة حروبها الناعمة والصلبة لتحقيق أهدافها فإنها لا تتوانى عن الإقدام على مواصلة وتصعيد هذه الحروب الإرهابية الاستعمارية المتعددة الأشكال.
بناء عليه فإنّ الضمانة الوحيدة لإجبار إدارة بايدن على التراجع والتسليم بالفشل والهزيمة، والتخلي عن مواصلة حروبها والعمل الحثيث لوقفها، إنما هي مواصلة المقاومة وعدم التراخي أمام الإدارة الأميركية، تماماً كما تفعل القيادتان الإيرانية والسورية برفض منح واشنطن أيّ مكاسب، أو تقديم أيّ تنازلات لها…