كتبت ليندا حمّورة | كم نشتهي الحمام الزاجل
ليندا حمّورة | كاتبة وأديبة لبنانية
اصطحبتني فكرة هاربة من سجال الحاضر نحو الزمن الجميل، أخذتني معها لأستعيد شريط الذكريات، فتحت أوراق الطفولة الخجولة ولم أجد فيها ألواناً، تذكرت أننا كنا نعيش في زمن أبيض وأسود . ولكن كيف بزمان كهذا أن يترك بصماته في زوايا قلوبنا وكأنها تزهو بألوان الربيع ؟
استوقفتني صورة للعائلة يشع منها نور ابتساماتنا كما لو أننا كنا أمام مهرّج، لم تكن آنذاك تلك التطورات التكنولوجية قد طرقت أبواب مجتمعاتنا، ولم نكن نعرف سوى تلك السماعة المركونة على طاولة في زاوية الغرفة ترنّ مرة في الأسبوع وإذا ما سمعناها هرولنا مسرعين نحوها وكأننا في سباق نحو القمة ومن يصل أولاً سيربح الكأس ! كل هذا كي نستمتع بشخص من البعيد يقول ألو !
ما بين ” ألكسندر غراهام بل ” مخترع الهاتف و “مارتن كوبر ” مخترع الهاتف المحمول قرابة القرن وتحديداً ٩٧ عاماً، حقبة زمنية استطاع من خلالها الهاتف المحمول قطع حبال التوصيل وربط حبل التواصل بين العالم دون أشرطة وإمدادات، ولكن مارتن لم يكن يعلم بأنه سيوصلنا لحقبة تتقطع بها حبال الألفة والمحبة، لم يكن يعِ حجم التطورات التي ستشن على التكنولوجيا والكم الكبير من التطبيقات الإلكترونية التي ستتسبب بتهشيم الأجيال وتحطيمها !
لم تعد سهرات العائلة تتسم بالحميمية، افتقدنا لروايات الجدة عن الأشباح ، ومحادثات الجد مع الوالد عن حال المزروعات والحراثة ومواسم الحصاد، لم تعد الأم تعدّ عجينها كي يخمر لخبز الصباح، بات الهاتف المحمول في أيادي الجميع معلناً سطوته التي نرى آثارها في كل عائلة . جميعنا بتنا في انعزال تام عن التلاحم الأسري وأصبحنا نرغب بالعزلة التامة عن كل الأشخاص الذين يحيطون بنا رغبة بمتابعة لعبة ما على الهاتف أو الاندماج في عالم المواقع الالكترونية العديدة والتي كان آخرها تطبيق السخافة والمهزلة (تيك توك ) .
أين أنت أيها الزمن الجميل لتشهد على معركة الحاضر المميت بكل تفاصيله؟ أين أنت لتخبرهم عن تلك الشموع التي ذابت ونحن نحتضن كتبنا المدرسية بالقرب منها ؟ أين الساعات الطويلة التي كنا نقضيها في قراءة قصة أو إنشاء بحث علمي ؟ ليتك تزورنا أيها الزمن وترنو بطرف عينك على حاضر الفاست فود ! أجل نحن نعيش في عصر السرعة والطلبات الجاهزة والسريعة، لم تعد تغرينا صفحات لنتصفحها بل بتنا نكتفي ببضعة أسطر، حتى الموسيقى والأغاني التي كانت تستمر لساعات باتت محدودة اليوم، انظروا إلى حالات الواتس اب انها لا تتخطى الثلاثين ثانية وهذا دليل على أننا في زمن الاختزال والتقليص !
يؤسفني جداً أننا لم نعد أولئك المسؤولين عن تربية وتنشئة الأجيال وبعد أن كنا نؤثر بنسبة عالية في زرع المبادىء والأسس في أبنائنا، باتت لنا نسبة لا تتخطى العشرة بالمئة والمدرسة لها بالمثل أيضاً والباقي سلبته التكنولوجيا وفرضت نفسها على أجيال اليوم.
واجباتنا تجاه أبنائنا حمايتهم من كل ما هو خطير على مستقبلهم، ولكن علينا بإنشاء خطط مدروسة وناجحة للمحافظة على ما تبقى من مبادىء وقيم إنسانية وعدم الانجراف في مستنقعات آسنة ستغرق أجيال الغد في وحول الفساد، وستعريهم من كل أثواب الجمال والكمال الفكري والأدبي والأخلاقي والديني …