كتب حسني محلي | المصالحة التركية – السورية.. لماذا ومن هو الهدف؟
حسني محلي | باحث علاقات دولية ومختصص بالشأن التركي
بعد أن حسم مصالحاته مع ابن زايد وابن سلمان والسيسي، وهم جميعاً حلفاء نتنياهو، حليف إردوغان الجديد، زاد الرئيس إردوغان ووزراؤه في تصريحاتهم المتناقضة والغامضة والخاصة بالمصالحة مع الرئيس الأسد.
أَولى الإعلام العربي والإعلام الدولي هذه التصريحات أهمية إضافية بعد تصريحات المسؤولين الروس، ومنهم لافرنتيف وبوغدانوف وبيسكوف، وتحدثوا معاً عن احتمالات قمة سورية – تركية يستضيفها الرئيس بوتين في موسكو، والبعض يقول سوتشي، لكن من دون تحديد الزمان.
وجاء خبر وكالة “رويترز” ليُثير عدداً من التساؤلات، بعد أن قيل “إن الرئيس الأسد رفض لقاء إردوغان قبل الانتخابات التركية”، في أيار/مايو أو حزيران/يونيو المقبل، حتى لا يستغلّ إردوغان هذه المصالحة في حملته الانتخابية ضد المعارضة، التي لم تستطع اتخاذ أي موقف عملي تجاه الأزمة السورية، وخصوصاً قضية اللاجئين. فبعد أن أرسل نائبه فاروق لوغ أوغلو إلى دمشق، حيث التقى الرئيس الأسد مرتين، في أيلول/سبتمبر 2011 وتشرين الأول/أكتوبر 2012، اتخذ زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كليجدار أوغلو، موقفاً عنيفاً جداً ضدّ سياسات إردوغان بشأن سوريا، الأمر الذي دفع إردوغان إلى مهاجمته في أكثر من مناسبة، متهماً إياه بـ”التضامن مع بشار الأسد لأنه علوي مثله”.
كان هذا الاتهام كافياً لكليجدار أوغلو، الذي تهرّب بعد ذلك من زيارة دمشق، على الرغم من زيارته بغداد في آب/أغسطس 2013، وإرساله فاروق لوغ أوغلو إلى القاهرة في تشرين الأول/أكتوبر 2013، بعد أن كان مقرَّرا لكليجدار أوغلو أن يقوم بهذه الزيارة، فتراجع عن قراره خوفاً من ردّ فعل إردوغان، الذي كان يشنّ آنذاك هجوماً عنيفاً ضد السيسي بسبب انقلابه على الإخواني محمد مرسي في تموز/يوليو 2013.
لكنّ هذا الهجوم لم يمنع كليجدار أوغلو، ومن معه في المعارضة، من التصدي لسياسات الرئيس إردوغان الخارجية، وبصورة خاصة “مغامراته الخطيرة في سوريا وليبيا والمنطقة بصورة عامة”، وكل ذلك بغياب الاهتمام عربياً ودولياً، إعلامياً وسياسياً، بموقف المعارضة هذا، كأنّ الجميع كان متضامناً، سراً أو علناً، مع إردوغان.
كما لم يحظَ كليجدار أوغلو بأيّ اهتمام من دمشق وطهران، اللتين رجّحتا التعاون مع زعيم حزب الوطن، دوغو برينجاك، في حين أن شعبيته لا تزيد على مئة ألف صوت في الانتخابات من أصل 55 مليون ناخب، وهو الآن حليف إردوغان.
حديث وكالة “رويترز” عن رفض الرئيس الأسد لقاء إردوغان قبل الانتخابات التركية، عدّته الأوساط الإعلامية والسياسية هنا رسالة واضحة من الأسد، أولاً إلى المعارضة التركية، في كل أطيافها، ليقول لها “إن دمشق معها وليست مع إردوغان”.
كما هي رسالة إلى موسكو، التي تتهمها المعارضة التركية بدعم الرئيس إردوغان في كل الوسائل، من أجل ضمان بقائه في السلطة، ما دامت علاقاته بالرئيس بوتين “مثالية”.
موقف دمشق هذا شجّع أحزاب المعارضة على التحرك تجاه دمشق، وأعلنت قياداتها، في أكثر من تصريح، أنها تخطط من أجل زيارة سوريا، مع تأكيد ضرورة الحوار المباشر مع الدولة السورية ورئيسها الشرعي بشار الأسد، من أجل الاتفاق معه بشأن مجمل القضايا التي تخص البلدين. ومن دون أن يكون واضحاً هل ستتعامل دمشق مع تحركات المعارضة هذه، وكيف، في الوقت الذي يعرف الجميع أن الأزمة السورية، في كل معطياتها الأمنية والسياسية والعسكرية، ستكون من أهم موادّ الحملة الانتخابية المقبلة، التي وضع إردوغان من أجلها عدداً من السيناريوهات، أهمها إبعاد حزب الشعوب الديمقراطي (الكردي) عن تحالف المعارضة، والعمل على سحب هذا الحزب إلى جانبه، وهو ما يتطلّب موقفاً أكثر وضوحاً تجاه الوضع شرقي الفرات؛ الموضوع الرئيس في الحوار السوري – التركي المستقبلي.
المسؤولون الأتراك يتحدثون باستمرار عن ضرورة القضاء على وحدات حماية الشعب الكردية، وهي الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني التركي، كما يتّهمون موسكو، بين الحين والآخر، بالوساطة بين هذه الوحدات ودمشق. وترى أنقرة في ذلك خطراً عليها، بحسب تصريحات المسؤولين الأتراك، بمن فيهم إردوغان، الذي اتّهم ويتّهم أيضاً حلفاءه التقليديين الأميركيين باحتلال شرقي الفرات، وتقديم كل أنواع الدعم إلى الميليشيات الكردية هناك.
ولا تتجاهل الأوساط السياسية والإعلامية الحديث عن دعم خليجي (إماراتي وسعودي وقطري) لإردوغان، من خلال ضخ المليارات من الدولارات في المصرف المركزي والخزانة في تركيا، التي تعيش أخطر أزماتها.
وتتحدّث الأوساط المذكورة أيضاً عن دعم واشنطن والعواصم الغربية لإردوغان، على الرغم من كل ما يصدر عنها من تصريحات ومواقف سلبية ضدّه بسبب تقاربه وتعاونه مع موسكو، التي تعتقد أنها ستستطيع أن تُبعد أنقرة عن حلفائها التقليديين في الغرب.
في جميع الحالات، وفي خضمّ هذه المعطيات المثيرة، تعود بنا الذكريات إلى بدايات ما يسمى “الربيع العربي”، عندما وقف الجميع في المنطقة وخارجها مع الرئيس إردوغان في سياساته المعروفة ضد سوريا، التي عادَتها أغلبية الأنظمة العربية، وما زالت، على الرّغم ممّا يصدر عنها بين الحين والحين من تصريحات تتحدّث عن “ضرورة لمّ الشمل العربي وحلّ الأزمة السورية”. وهو ما يتحدث عنه المصريون باستمرار، لكن من دون أن يمنع ذلك الرئيس السيسي من مصافحة عدوه اللدود إردوغان (بوساطة عدوه الأخطر تميم) بدلاً من مصافحة الرئيس الأسد، الذي قطعت القاهرة وتونس العلاقة به في عهد محمد مرسي وإخوان الغنوشي.
فعسى ألّا تكون هذه الذكريات بداية جديدة لتحالفات إقليمية جديدة، كما هي الحال في بدايات “الربيع العربي”، عندما كان الجميع معاً ضدّ سوريا، وبسببها، ضدّ إيران وحزب الله. وهم جميعاً الآن هكذا. وهذه المرة بفارق مهم، هو استسلام الأنظمة المذكورة للكيان الصهيوني بصورة مباشرة، بعد أن كانت حليفة لهذا الكيان في الخفاء طوال الأعوام الماضية.
يفسّر كل ذلك مصالحات إردوغان مع الإمارات والسعودية، بعد أن صالحت الإماراتُ والبحرين والسودان (البرهان زار أنقرة مرتين خلال هذا العام) والمغرب “تلَّ أبيب”، حليفة إردوغان الجديدة في المنطقة، التي حدّدت اتفاقيتا كامب ديفيد ووادي عربة مسارها، سياسياً وعسكرياً، منذ أكثر من أربعين عاماً.
ويبقى السؤال الأخير، وهو: “لماذا يتحدث إردوغان باستمرار عن مصالحته مع الأسد، والجميع يعرف أن عواصم المنطقة ما زالت تتآمر على دمشق وعلى إيران ولبنان والعراق واليمن والمنطقة، بصورة عامة، وكل ذلك وفق المسرحية التي أدّى الكلّ، وما زالوا، أدوارهم فيها بمهارة فائقة، وهم الآن يكرّرونها تحت شعار السلام والأمن والاستقرار، تحت مظلّة “اتفاقيات أبراهام”. ويعرف الجميع أنها لا ولن تحمي سوريا وحلفاءها من لهب الشمس الحارقة، كما كانت عليه طوال الأعوام الأخيرة.
فعسى ألّا يُلدغ المرءُ من جُحره مرتين أو ثلاثاً، ما دام التآمر مستمراً ضد حزب الله، مصدر الرعب الحقيقي للكيان الصهيوني وحلفائه، القدامى والجدد!