كتب د . روني الفا | عزيزتي السيرلنكيَّة
الدكتور روني الفا | كاتب وباحث لبناني
قررتُ اليومَ وبعدَ تلكّؤٍ دامَ سنواتٍ أن أقدِّمَ الإعتذارَ الصادقَ من العاملةِ المنزليةِ السيرلنكيةِ في بلَدِنا . رجاءً أَحجِمي عن تنظيفِ بيوتِنا. نَظِّفي وجدانَنا فجنزارُهُ سميكٌ وكمخَتُهُ غليظة. ضعي المكواةَ جانِبًا وتوقّفي ولو برهةً عن ملاطَفَةِ جَحشِ الكَوي. مَرِّري المِكواةَ على وعيِنا الوطنيِّ المُجَعلَكِ بالغَطيطِ العَميقِ والملطَّخِ بالبُقَعِ المُستَعصِية. لا تَمسَحي الغبارَ عن نوافذِنا. إمسَحيهِ عن خوفِنا وبلادَتِنا بِفوطَةِ الحريَّة. أنتِ مِن جزيرَةِ سيلان ونحنُ مِن جُزُرِ لبنان. أنتِ خرجتِ من بشْرَتِكِ إلى بشريَّتِك ونحنُ خَرَجنا من عَرينِ الأُسود إلى قِنِّ الدّجاج.
اسمحي لي بأن أسرَّ لكِ أنَّ الشعبَ المظلومَ والمحرومَ مثلَكُم الذي يقتحمُ مقرَّ السُّلطَةِ ، يستحقُّ مِنّا، نحنُ الذينَ نمَنِّنُ الكَونَ بأننا جهابذةٌ في كل شَيْءٍ ، يستحقُّ انحناءةً وقبَّعةً مرفوعة. نحنُ عزيزَتي لم ندخُل مقرًا إلا لثلاثةٍ: النّميمَةُ على غيرِنا ونَظمُ المَدائحِ مع غيرِنا وتَنجيرُ الخوازيقِ في غيرِنا . نقبَلُ ظلمَ المستَبِدّينَ بِنَا إذا سَلَّطونا لنَستبِدَّ بِمَن هم دونَنا. فَقَّسَنا النِظامُ حشَراتٍ ضارَّةً على شكلِ خنافِس نسرَحُ ونمرَحُ فوق سجّادَةِ الزّعيم. أنتم في سيرلانكا تنشَّقتُم رائحةَ الحريّة ونحنُ في لبنان نتنفَّسُ نافتالين.
اعطِنا دليلًا يرشِدُنا كيف نصلُ إلى قصورِ الطُّغاة. كَمْ من الرِّجالِ والنّساءِ نحتاجُ لِنَهدمَ قصرًا وَنَبني وطنًا ؟ كَم شَهيدًا يلزمنا لنلوِّنَ عَلَمًا؟ شارِكينا طريقَةَ التحضير والمقادير ولو بالسيرلنكيَّة. لُغَتانا العاميّةُ والفُصحى تَعُجّانِ بالمفعولِ بِهِم فيما الفاعِلُ ممنوعٌ من الصَّرف. نطبخُ منذ خمسينَ سنةٍ وطنًا لم يخرجْ من طناجِرِنا إلا مُشَوشَطًا محروقًا. لا شيء طازَجًا في وَطَني سوى لحمُ الفقراء. دعيني اليومَ أخدمُكِ سيِّدَتي. سأُعِدُّ لك طعامَ الفطور. أقَدِّمُ لكِ فنجانَ شايٍ سيلانيٍّ إكسترا. أنتِ أيقونةٌ وأنا مِن أتباعِك.
اقتحمَ إخوَتُكِ الثوارُ السيرلنكيونَ مقَرَّ السلطةِ الرَّسمي في كولومبو . لا شكَّ تتابعينَ ذلك من غرفتكِ الصّغيرة وتبكينَ من الفرح على بعد آلاف الأميال من وجَعِ أَترابِكِ وأبناءِ جِنسِك. أصدقاؤكِ تسبّحوا في حوض سباحةِ المَقَرّ. غَطَسوا في ثيابِهِم. أضافوا على كلورِ الحوضِ القاتِلِ للبَكتيريا كلورَ عَرَقِهِم القاتِل للعبوديةِ فتأنسنَتِ المياهُ وصارت صالحةً لمعموديةِ الحرية. حوضُ سباحةٍ كانَ يُحَمِّمُ الزوّارَ المُتخَمينَ ويتحمَّلُ مرغمًا بَولَ زجاجاتِ الشامبانيا بعد منتصفِ الليل. في قصورِ الإستبدادِ تُبَوِّلُ قناني الخمر أكثرَ من البَشَر. سيِّدَتي السيرلنكيّة، نامَ مواطنوكِ في سريرِ المسؤول وأخذوا السِّلفي على لحافِه. بَحبَشوا في غرفة نومِهِ وأكلوا في غرفة طعامِه وتوزّعوا أغراضَه الخاصّة.
هَرَبَ المَسؤول. لم تستطع فرقُ الحمايةِ التي تطوِّقُ مقرَّهُ حمايتَهُ من شعبِه. مئاتُ الآلاف دخلوا البوابةَ الرئيسيةَ ففرَّ المسؤولُ من البوابةِ الخلفية. متى يهربُ الحَرامي من بوّابَةِ بيتِه الخلفية في بلَدِنا؟ علَّمتنا كولومبو أنْ ليسَ هناكَ أحدٌ أقوى من شعبِه. متى تُعَلِّمُنا بيروت؟ ما أن يتحوّلَ الجمهورُ في بلدٍ واحِدٍ إلى شعبٍ موحّدٍ يصبِحُ حكمُهُ أقوى من حكّامِ العالمِ قاطبةِ.
باستطاعَتِكِ اليوم يا عاملَتَنا المنزلية أن تتحوَّلي إلى قدوة. قدوَتَنا أنتِ. علِّمينا كيف ثارَ شعبُكِ منتقمًا لكرامتِه. كيف تَحَوَّلَ الرغيفُ إلى ترسٍ والتفّاحةُ إلى رمّانةٍ يدويَّةٍ وكيفَ استَحالَ السكوتُ صوتًا والحشرَجَةُ صراخًا والضعفُ جبروتًا والخمولُ صَهيلًا والخوفُ شجاعةً. بالمِمسَحَةِ المُبلَّلَةِ وسطلِ الماءِ الصّباحي بَلّلِلي صباحاتِنا بِمَسحَةٍ تُنَظِّفُنا. نحلمُ مِن زمان بمتعةِ السِّباحَةِ في حوضِ الزَّعيم. في التِقاطِ سيلفي فوق فراشِه. في مصادَرةِ أحذيةِ حورياتِه وزوجاتِه وخَليلاتِه وإهدائها إلى أرجلِ نسائنا الطاهرات. في خلعِ خزناتِه وتعدادِ ملايينِه وتَطويقِ مَعاصِمِ أيدينا بساعاتِ يَدِه. من زمانٍ نحلمُ في لبنان بنزعِ الطَّوق. زَوِّدينا سيَّدتي السيرلنكيَّة الفاضِلَةُ بسلّةِ مانغو وأناناس نصنع منها عصائر حريّة تفكُّ عَنّا الطَّوق.٠٢