كتبت ايمان بشير | من «40 عام سلام» إلى 40 المقاومة الإسلاميّة: هكذا بدّد الاجتياح آمال إسرائيل!

ايمان بشير | كاتبة لبنانية
بعد أسبوعين من الاجتياح، بدأت ثلة قليلة من المقاومين بجمع الأسلحة التي خلّفتها الأحزاب والقوى، منها القذائف غير المنفجرة والكلاشنات والجاتيرات والمدافع 60 والهاون. تحت غطاء صيد العصافير، تجوّلوا نهاراً في الأحراش والسهول. يخبّئونها تحت التراب، ويعودون ليلاً لنقلها إلى مكان آمن. لم يكن هذا السلاح كافياً لردع الاحتلال. زوّدهم الحرس الثوري الإيراني بأسلحة، نقلت بحذر، بسبب الحواجز الإسرائيلية، من البقاع إلى الضاحية فالجنوب. خضع المقاومون لدورات شعبية قتالية، مكّنتهم من التعرّف إلى أنواع الأسلحة والألغام. ثم بعد شهرين، خضعوا لدورات أكثر تقدّماً في البقاع، بقيادة «الحرس»، افتتحت بدورة شارك فيها الشهيد السيد عباس الموسوي. بدأت المقاومة صناعة المخازن الصغيرة للأسلحة، بعدد متواضع لم يتجاوز الثلاثة في الجنوب. وبما أن الاحتلال كان يلاحق أي تحرّك للمقاومين، أخفيت الخزانات المستندة إلى حائط بحجارة بدلاً من التراب الذي يمكن أن يشي بأي تحرّك أثناء الطمر أو الحفر لسحب أو وضع السلاح.
بدأ العدو باكتشاف دور حزب الله، باعتباره جزءاً من فصائل المقاومة الموجودة على الأرض، في الثلث الأخير من عام 1983
أمّا العمليات الاستشهادية، فكان لها وقع آخر. حاولت المقاومة بها التعويض عن خلل التوازن العسكري، وجعل وجود الاحتلال مُكلفاً، بحيث لا يطول، وإيقاع أكبر قدر من الخسائر في ضربة واحدة. بعد الاجتياح، وفي ذروة الإحباط، تلقّى العدو صدمة باستهداف مقرّ الحاكم العسكري في صور. كان لتلك العمليات دور استنهاضي للشعب الذي شعر حينذاك باليأس، إذ لم يشهد التاريخ سابقة لهزيمة إسرائيل. عمل العدو على لملمة آثار عملية الاستشهادي أحمد قصير. تذرّع بداية بانفجار أنابيب غاز، لامتصاص الغضب والتخفيف من وقع الخسائر على المجتمع الإسرائيلي، واحتواء الجانب الاستنهاضي في الجهة المقابلة. لكن توالي العمليات الاستشهادية كشف زيف ادعاءاته. وللعبه على وعي الجنوبيين وثنيهم عن دعم المقاومة، لم يتوقف عن توزيع بيانات كُتب عليها «باقون إلى الأبد» في جنوب لبنان.
من عجن العبوات… إلى الصواريخ الدقيقة والمسيّرات
لا تخفي السطور التي خطّها مؤسسو كيان العدو، منذ الخمسينيات، أطماعه في لبنان. وثّقتها بوضوح كتب المؤسس ديفيد بن غوريون، وثاني رئيس وزراء موشيه شاريت، ومذكرات رئيس أركان حروب إسرائيل الأولى موشيه ديان، وأبرزها اقتطاع أجزاء من لبنان لضمّها إلى «إسرائيل». دحضت تلك الاعترافات سردية تبرير الاجتياح عام 1982 وأي نيّة للسلام. وفق تلك المذكرات، أرسل بن غوريون، في الخمسينيات، إلى شاريت، رسالة يقول فيها إنه «الوقت المناسب للانقضاض على لبنان»، باعتبار أن انطلاقة «إسرائيل» يجب أن تكون من «حدود الليطاني». لكن الأخير اعترض على التوقيت إلى أن أتى عام الاجتياح. كان لبنان، «الحلقة الأضعف» -بحسب تعبيرٍ لبن غوريون- في سلسلة الدول العربية، بخاصة بعد أن حيّدت اتفاقية كامب ديفيد تهديد مصر، أكبر دولة عربية في مواجهة إسرائيل، ما هيّأ الظرف الإقليمي لاجتياح لبنان.
شكّل اجتياح لبنان ذروة صعود إسرائيل في تدرّج توسّعها، المرتبط بالطموح والقدرة والمتغيّرات الإقليميّة والدوليّة. ليس شعار «إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات» توصيفاً واقعياً. كان تصريح أحد جنرالات العدو أكثر براعة في وصف طموح الكيان التوسعيّ، عندما وصف حدود إسرائيل بـ«حيث تصل أقدام جنودها». في 20 آب 1982، نشرت صحيفة «معاريف» مقطعاً لرئيس وزراء الاجتياح مناحيم بيغن، من محاضرة لكلية الأمن القومي وهو يقول: «نستطيع أن نتوقّع الآن أن إسرائيل ستنعم بأربعين عاماً من السلام»، عازياً ذلك إلى «اتفاقية السلام مع مصر، وعدم توقّع أي استهداف من الأردن، إضافة إلى استنزاف سوريا بعد الضربات التي تلقّتها».
في أربعينيّة انطلاق المقاومة الإسلامية، يبدو حلم بيغن مبدّداً. لم يكن يتوقّع، هو ومن خلفه، أن ثلّة من المقاومين ستغيّر مجرى المنطقة. حطّمت المقاومة طمأنينتهم. دفعته عملياتها إلى الاستقالة متذرّعاً بوفاة زوجته. لكن الحقيقة أن «بيغن لم يستطع تحمّل الأخبار المتوالية عن مقتل الجنود الإسرائيليين في لبنان»، وفق الإعلام الإسرائيلي. وبعدما كان يأمل بعقود من السلام تَحوّل لبنان إلى «وادي الدموع»، كما سمّي، وقتذاك، في الأدبيات الإسرائيلية.
كانت بسمة أبو حسن بشارة النصر وثقة بتلك الثلة التي أصبحت 100 ألف مقاتل. من صواريخ 107 ومدفع الهاون 60 وعجن العبوات بوعاء البئر، إلى مصانع لصناعة الصواريخ الدقيقة والمسيّرات، هذه حال المقاومة في أربعينيّتها، وهذه حال عدوّها.
الأخبار