جيك سوليفان ومحاولة التوازن بين إيران و”إسرائيل”
محمد علي فقيه | محرر في الميادين نت
يعتبر مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان من أهم الشخصيات المؤثرة في البيت الأبيض، إذ عمل سابقاً نائباً مساعداً للرئيس ومستشاراً للأمن القومي مع الرئيس جو بايدن عندما كان نائباً للرئيس أوباما. يوصف سوليفان بأنه “أصغر مستشار للأمن القومي في البيت الأبيض منذ أكثر من 60 عاماً”.
يطمح سوليفان إلى أن يأخذ المكانة نفسها التي خطَّها هنري كيسينجر وزبيغينو بريجنسكي ومن يسير على خطاهم في قوة التأثير في صنع القرار الأميركي، فهو يملك كلّ المؤهلات التي تجعله يطمح إلى أن يكون ضمن الدائرة الضيقة في فريق بايدن. وقد فاز بمنحة رودس للالتحاق بكلية ماجدالين في أوكسفورد، حيث درس العلاقات الدولية. وكان قد حصل أيضاً على منحة مارشال الدراسية في العام نفسه، لكنه رفضها لصالح رودس، وعمل محرراً إدارياً لمجلة “أوكسفورد إنترناشونال ريفيو”.
في العام 2000، تخرّج بدرجة الماجستير في الفلسفة. بعد ذلك، التحق بكلية الحقوق في جامعة ييل، وتخرج بدرجة دكتوراه في القانون في العام 2003. وفي جامعة ييل، كان محرراً في مجلة “ييل لو جورنال” و”ييل ديلي نيوز”، كما كان عضواً في جمعية مناظرات ييل، وحصل على منحة ترومان في سنته الأولى. كما كان أيضاً رئيس معهد بروكينغز ستروب تالبوت في مركز ييل لدراسة العولمة.
ينكر سوليفان أنّه ما زال صغيراً، فيقول: “لا أرى نفسي بتلك الصورة، فأنا أعتبر نفسي من الحرس القديم بصورة أو بأخرى، ودوري في ذلك وما تحتاجه أميركا هو أن نقوم بدور حلقة وصل تستوعب الأفكار الجديدة”.
من الواضح من تصاريحه المتكررة أنه حدد التحديات التي تواجه إدارة بايدن، وعلى رأسها العلاقات مع العالم العربي، والملف النووي ومفاوضات فيينا، والعلاقة مع “إسرائيل”، وملف روسيا وأكرانيا، والمواجهة مع الصين. ويبين ذلك بقوله: “قضية صعود النفوذ الصيني، تقوم على استطاعة أميركا أن تبني علاقات مستدامة لا تفترض امتثالاً تاماً من الصين لما يتوافق مع النظام السياسي الأميركي أو أن يكون البديل الوحيد هو الحرب الباردة”. إلا أنه يؤكد “أن الأمر الأهم الذي يجب التركيز على القيام به في هذه المرحلة، وخصوصاً بعد 4 سنوات من حكم الرئيس ترامب من سياسة خارجية عشوائية في التعامل مع ملفات رئيسية ومهمة كهذه، هو استعادة المسار الذي كانت تسير عليه السياسات الأميركية بصورتها الطبيعية”، ويطالب بوجوب “التدقيق في رسم نهج آخر متوازن من السياسات يختلف عما كانت تدار به الأمور من الإدارات السابقة”.
وعن سياسة بايدن الخارجية، يقول: “في إدارة بايدن – هاريس، وفي ما تقوم به الولايات المتحدة في ما يتعلّق بسياساتها الخارجية في أيّ دولة من دول العالم، يجب أن يكون هناك رابط في تصوراتنا حول انعكاساتها على الشعب الأميركي وعلى مسارات السياسات الداخلية على النحو ذاته أيضاً”.
يحاول سوليفان تجنيب الرئيس بايدن ما وقع فيه رئيسان ديمقراطيان هما كلينتون وأوباما، عندما اصطدما بسياسة نتنياهو المتعنتة، ولهذا تأتي زيارة سوليفان لـ”إسرائيل” لاعتبارات عديدة. وقد أكدت ذلك المتحدثة البيت الأبيض جين بساكي بقولها: “من الواضح أنّ إيران تحتل مكاناً مهماً على جدول أعمال زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان إلى منطقة الشرق الأوسط، لكن هذا ليس الموضوع الوحيد للزيارة.
ولهذا، تأتي زيارة سوليفان لـ”إسرائيل” لاعتبارات عديدة:
أولاً: مراعاة مصالح الجماعة اليهودية الأميركية التي لها تأثير قوي في المستوى المحلي في الولايات والمدن، وعلى مستوى كل مؤسسات الدولة، سواء في البيت الأبيض أو الكونغرس أو البنتاغون أو المخابرات الأميركية. ألم يضطر الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر إلى أن يعتذر عن كتابه “فلسطين: سلام لا فصل عنصري” بعد مضي 3 سنوات على إصداره في العام 2006 من أجل تجنيب حفيده صعوبات في حملته الانتخابية، إلى درجة جعلت رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي يومها تبتعد عنه، معتبرة أنه “لا يتكلّم باسم الحزب الديمقراطي”؟
ثانياً: نجح سوليفان في أن يعطي لنفسه صورة مميزة بين قادة “إسرائيل” ونخبتها، وأنه مستمع جيد ويتقن فن الإصغاء إلى كلّ المخاوف الإسرائيليّة.
وبحسب صحيفة “هآرتس”، يتحدث دينس روس الذي تولى منصب المنسق الخاص في الشرق الأوسط من قبل إدارة الرئيس بيل كلينتون، عن تعاطف “إسرائيل” مع سوليفان بقوله “إنه مستعد ومنفتح على سماع الطرف الإسرائيلي. هو شخص يصغي بشكل جيد. ثمة شعور بأنه أعطى للموظفين الإسرائيليين فرصة حقيقية للتعبير عن مواقفهم. في الحقيقة، هو لم يتفق دائماً معهم، ولكنه كان يتفهمهم. تبحث الشؤون الأمنية في “إسرائيل” ولو عن شعور بوجود أذن مصغية”.
وتعقّب “هآرتس” على قول روس إنّ “هواية الإصغاء لدى سوليفان تزداد إزاء الضعف السياسي الذي تنسبه إسرائيل إلى الرئيس الأميركي ووزير الخارجية الأميركي، ورغبتهما في حرف سياسة الولايات المتحدة الخارجية، والانشغال بالشرق الأوسط والصين وساحات أخرى”.
وقد شكّلت زيارة المبعوث الأميركي الخاص لشؤون إيران، روبرت مالي، إلى “إسرائيل” في 15 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وتجنّب رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت مقابلته، إشارة مهمة إلى أنَّ حكومة الاحتلال الإسرائيلية لا تتحمّل سماع وجهة نظر أخرى تخالف رؤيتها.
وقد برّر مصدر في حاشية بينيت قراره عدم استدعائه للالتقاء معه بأنّ بينيت “يعتقد أن العودة إلى المفاوضات ليست أمراً صحيحاً. ومالي يقود هذه المقاربة في الإدارة الأميركية”، وقد انحصرت زيارة مالي حينها بلقاء وزير الأمن بني غانتس ووزير الخارجية لبيد.
ويعلّق روس بقوله: “على الأغلب ينظرون (في إسرائيل) إلى مالي من وراء عدسات تجربته السابقة، فقد عمل في مجموعة الأزمة الدولية (آي. سي. جي). وهناك، كان مسؤولاً عن لاعبين كثيرين، من بينهم حماس. لذلك، كان هناك شعور، حتى بصورة منفصلة عن الاتفاق النووي، بأنهم يعتبرونه الشخص الذي يميل إلى محاولة حل الأمور بالدبلوماسية عندما آمنت “إسرائيل” بغياب أي حل دبلوماسي.
وتوضح “هآرتس” مكانة سوليفان بقولها: “إضافة إلى وظيفته الرسمية الرفيعة، تقدر إسرائيل أنَّ هذا الموظف الجاد والمجرب تحول إلى برغي رئيسي ومؤثر جداً في سياسة الولايات المتحدة الخارجية. يعد ساليبان في إسرائيل الشخص الذي سيحدث تغييراً في سياسة الولايات المتحدة حيال إيران”.
وقد شكّل تصريح سوليفان قبيل زيارته لـ”إسرائيل”، وبعد جولة المحادثات السابعة بين إيران والدول العظمى في فيينا، وقبل بداية الجولة الجديدة التي بدأت هذا الأسبوع، بقوله “إنها لا تسير على ما يرام”، حالة ارتياح في “إسرائيل”، لكنَّ الصحافي الأميركي المعادي للسياسة الإسرائيلية فيليب فايس وصف في موقع “موندويز” تصريحات سوليفان بأنها “متماشية مع الأكاذيب حين قال إنَّ برنامج إيران النووي يتقدم بوتيرة سريعة تهدد السلام والأمن في المنطقة والعالم”. وأشار إلى أنَّ “سوليفان يتعامل بلطف مع رئيس الوزراء الإسرائيلي اليميني، على الرغم من أنَّ الأخير يقوم بتدمير حل الدولتين ويتنمر على الولايات المتحدة بشأن إيران”.
ثالثاً: التشاور مع “إسرائيل” حول التهديد الذي تشكّله طهران والخطوات التي يجب اتخاذها. وقد علّقت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي على هذه الزيارة بقولها: “نحن نناقش هذا الأمر مع شركاء وحلفاء، بما في ذلك إسرائيل والعديد من الدول الأخرى، ونتوقّع أن يستمرّ ذلك في ضوء حقيقة أن المفاوضات متوقفة الآن”.
تعتبر زيارة سوليفان لـ”إسرائيل” بمثابة رسالة تهديد لطهران، مفادها “أنَّ البديل لمفاوضات فيينا جاهز، وهو الخيار الإسرائيلي الذي لا يؤمن بالحل الدبلوماسي”. وقد أكّدت دراسة لمعهد السياسة والاستراتيجية في “تل أبيب” أن موظفين كباراً من وزارة الخارجية الأميركية سرّبوا معلومات مفادها أنَّ الرئيس بايدن طلب قبل نحو شهرين من سوليفان مراجعة خطط البنتاغون لعمل عسكري في حالة فشل الجهد الدبلوماسي.
وفي إطار زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بني غانتس إلى واشنطن مع نظيره الأميركي (كانون الأول/ديسمبر 2021) نشر أنّه تم بحث مخططات هجومية مشتركة على مواقع النووي الإيراني في حالة فشل الجهد الدبلوماسي، وهو ما أكدته المتحدثة باسم البيت الأبيض بأنَّ “بايدن وجّه في وقت سابق تعليمات إلى مساعديه بإعداد مجموعة من السيناريوهات، بالتنسيق مع شركاء الولايات المتحدة وحلفائها، في حال فشلت المحادثات بشأن برنامج إيران النووي”.
استمع سوليفان في زيارته ولقائه الزعماء الإسرائيليين إلى موقفهم الذي يعارض الحلّ الدبلوماسي، ويدعو واشنطن إلى تشديد العقوبات والاستعداد لممارسة الخيار العسكري. وبحسب تقرير معهد السياسة والاستراتيجية، “تخشى إسرائيل من اتفاق انتقالي يتحقّق في فيينا، ثم تُجمد في إطاره أجزاء من البرنامج النووي مقابل تجنيد جزء من العقوبات، رغم أنَّ المسؤولين الأميركيين نفوا هذا الاقتراح”.
ويتابع التقرير: “يكرّر المسؤولون الإسرائيليون الرسالة بأنَّ إسرائيل تستعد لعملية عسكرية مستقلة وقت الحاجة، وأنَّها لن تقبل واقعاً من النووي الإيراني”، لكن فيليب فايس يعتبر أنّ قول “إسرائيل” بشكل متكرر إنها ستأخذ زمام الأمور بيدها ما لم يفعل العالم شيئاً هو كذبة كبيرة، وأنّ هذه التمثيلية تهدف إلى التلاعب بالولايات المتحدة.
وقال إن “إسرائيل” لن تبدأ حرباً مع إيران لا يعتقد أي من الخبراء بأنها ستكسبها، ولكنها من خلال التظاهر بخلاف ذلك، فإنها تثير المخاوف في واشنطن من أن حليفها الذي لا يمكن السيطرة عليها يتصرف بطرق مدمرة وخطرة للغاية، والقصد من ذلك هو دفع الولايات المتحدة إلى محاولة تغيير النظام في إيران أو تقليل فرص تجديد إعادة العمل بالاتفاق النووي.
هناك معادلة ثلاثية يلمّح إليها تقرير المعهد، ولا يمكن للولايات المتحدة الأميركية أن تتخطاها، وهي أن الولايات المتحدة تكرر التزامها بأمن “إسرائيل”، ولكنّ نهجها من المشروع النووي الإيراني يختلف في أساسه عن نهجها، وأنّ واشنطن قلقة من تقدّم إيران السريع في المشروع النووي، كما أشار مستشار الأمن القومي الأميركي جيك ساليبان، والثانية: يتساءل التقرير: هل ما ينشره الأميركيون عن “خيارات أخرى” يستهدف إرضاء “إسرائيل” وحمل إيران على قبول حلول وسط في المفاوضات؟ التقرير يؤكّد أن “الخيارات الأخرى لا تعبر عن استعداد أميركي لممارسة القوة العسكرية خوفاً من الانجرار إلى معركة أخرى في الشرق الأوسط”.
تبذل “إسرائيل” جهدها لتقنع واشنطن بشنّ هجوم على طهران، إلا أنَّ الولايات المتحدة لن تسمح لنفسها مرة أخرى بأن تقع في الخطأ الذي وقعت فيها عندما احتلت أفغانستان والعراق عسكرياً، وكانت النتيجة هزيمة جعلت كل الباحثين، وعلى رأسهم هنري كيسنجر وفرانسيس فوكاياما، يتحدثون عن بداية أفول الإمبراطورية الأميركية أو إرهاقها.
ويؤكّد تقرير المعهد أنَّ “الهجوم على القاعدة الأميركية في التنف (تشرين الأول/أكتوبر 2021)، إلى جانب محاولة اغتيال رئيس وزراء العراق (تشرين الثاني/نوفمبر 2021)، يجسدان الاستعداد الإيراني لأخذ المخاطر في ضوء الفهم بأن الولايات المتحدة لا تسعى للانجرار إلى تصعيد إقليمي”.
في الخلاصة، إن ما تخشاه “إسرائيل” ليس مجرد امتلاك إيران للسلاح النووي وتهديدها به، بل إنَّ واقع امتلاك إيران لهذا السلاح سوف يضع حداً للهيمنة الإسرائيلية كقوة عسكرية، ويعطي إشارة بأن هناك قوة إقليمية عظمى جديدة ولدت في المنطقة، وهو ما يقض مضجع “إسرائيل”.