شرق أوسط ما بعد ترامب: عودة لعقيدة أوباما؟
قد لا يكون ترامب خلال سنواته الأربع الماضية، ونائبه مايك بنس، تركا شيئا من ارث الثنائي باراك أوباما وبايدن، إلا أن ذلك لن يمنع الرئيس الأميركي العجوز من ارشاد نائبته المنتخبة كامالا هاريس إلى مكتبها الذي كان مكتبه، ليستقر في المكتب البيضاوي حاكماً جديدا للبيت الأبيض. في السابعة والسبعين سيكون التحدي ضخما لإعادة ترتيب الفوضى التي خلفتها سنوات ترامب، أكان في الداخل الأميركي أو في العلاقة الاستراتيجية مع أوروبا ودول حلف شمالي الأطلسي، أو في المواجهة مع الصين وروسيا وبطبيعة الحال النفوذ في الشرق الأوسط، الذي استحال في سنوات حكم ترامب الأربعة الماضية حالة منفصمة بكل ما للكلمة من معنى.
كان خطاب ترامب طوال سنوات حكمه يشدد على التحلل من أوزار المنطقة، لكنه بدا كالعالق في الرمال المتحركة، كلما أراد الهروب ازداد غرقا. لعل التناقض بين رؤيته ورؤية المؤسسات المعنية من وزارة الدفاع إلى وزارة الخارجية والأجهزة الاستخبارية سببا إضافيا للحالة الهجينة. مع ذلك لا يمكن القول إن حصاد ترامب كان فاشلا، فهو حقق جزءا كبيرا من مصالح الولايات المتحدة من خلال سياسة فجة وصلت إلى حافة الانفجار. حاصر إيران كما لم يفعل رئيس أميركي من قبل ونجح نسبيا في تكبيلها واغتال قائد عملياتها الخارجية وأسطورتها العسكرية، قاسم سليماني، دون أن يخسر جنديا واحداً في المقابل. بل هو في الواقع أعلن انتهاء قواعد اللعبة كما كانت عليه سابقا فاتحا الباب أمام المزيد من الاندفاع في إيلام خصمه.
في ملف الصراع العربي الإسرائيلي، غطى ضم الجولان ونقل السفارة الإسرائيلية إلى القدس في قرار لم يجرؤ عليه كل من سبقوه في الحكم، بل ذهب إلى أكثر من ذلك، قرر ترامب بدون تردد إنهاء مسارات التفاوض على قاعدة الأرض مقابل السلام وحل الدولتين بناء على قرارات الشرعية الدولية. مجددا حيث لا يجرؤ الآخرون خفف ترامب الإدارات القادمة في الولايات المتحدة من ثقل قرارات ومسارات كانت لتحسب ألف حساب قبل تبنيها. وفي الطريق، وتحت عنوان صفقة القرن واتفاقية إبراهيم لاحقا، صنع صفقات تسوية بين دول عربية وإسرائيل، مستخدما هذه الصفقات لهدف آخر أيضا، وهو زيادة الضغط الذي كان قد بدأه من قبل على إيران. لعل المساحة الوحيدة التي لم يتمكن فيها ترامب من صناعة فرق واضح كانت الساحة السورية بسبب إرث إدارة أوباما واكتظاظ اللاعبين، رغم أنه سجّل قيامه بتوجيه ضربات مباشرة لقواعد للجيش السوري إلى جانب تسجيله باسم أميركا عملية قتل أبو بكر البغدادي، خليفة تنظيم داعش.
مزيج الغرق والإنجازات الذي حققه ترامب سيرثه بطبيعة الحال الرئيس الجديد، لكن بإمكان بايدن البناء على إرث منافسه وسلفه لإعادة رسم المشهد في المنطقة برؤية مختلفة، الأرجح انها ستكون مبنية على ما عرف سابقا بعقيدة أوباما. ومن عجائب الأمور أن هذه العقيدة، التي وصفها أوباما يوماُ بالواقعية، ربما تثبت فاعلية أكبر في ظل ما أسس له الرئيس الجمهوري عبر خليط من السياسة التدخلية الهادفة للتحضير للانعزال، وهنا طبعا مربط فرس الحالة الهجينة لسياسة ترامب. لن يكون بإمكان إدارة بايدن بعد الآن نقل السفارة مجددا من القدس، أو على الأقل هذا ما يقول منطق الأمور، ومن الصعوبة في مكان أن تستطيع منع ضم مساحات من الضفة الغربية كما كان مقررا، كما أنها لن تستطيع أن تعود للاتفاق النووي مع إيران بشحطة قلم في ظل التحول الكبير الذي شهده الدور الإيراني في المنطقة ولاحقا نتائج سياسة الضغط القصوى الأميركية على طهران. ومن نافل القول إن اتفاقيات التطبيع التي جرت بين الإمارات والبحرين والسودان من جهة وإسرائيل من جهة ثانية لن يسعى الرئيس بايدن لتغييرها، لكنه أمام فرصة ذهبية، من المنظور الأميركي، لصناعة واقع جديد.
صنع ترامب صفقات تسوية بين دول عربية وإسرائيل، مستخدما هذه الصفقات لهدف آخر أيضا، وهو زيادة الضغط الذي كان قد بدأه من قبل على إيران.
في مقابلته الشهيرة مع الصحفي الأميركي جيفري غولدبرغ للأتلانتيك أواخر ولايته عام 2016، قال أوباما إنه يأمل أن يستطيع صناعة حالة من المشاركة السعودية الإيرانية للنفوذ في الشرق الأوسط. بناء على ما أسس له ترامب، يمكن لبايدن اليوم وبخطوات محسوبة أن يصنع ظروفا تؤسس لطاولة مستديرة مع طهران. وكما كانت ظروف ما بعد أحمدي نجاد في إيران عام 2013 مؤهلة للوصول إلى الاتفاق النووي عام 2015 مع مجموعة خمسة زائدا واحداً، فإن ظروف ما بعد ترامب قد تسمح بشيء مشابه على مستوى الإقليم يمهد لتسويات وحلول من اليمن إلى العراق إلى سورية ولبنان والأزمة الخليجية. صحيح أن ذلك لن يكون سهلاً على الإطلاق وقد يستنزف ولاية أو حتى ولايتين رئاسيتين والكثير من المعارك الجانبية، الصامتة والصاخبة، إلا أنه في حالة إعادة تعريف العلاقات والأدوار فقد تصل الأمور إلى نقطة التقاء غير مسبوقة. مع ذلك الواقعية السياسية تدعو للتريث في التفاؤل في ظل مستوى الخلافات التي لا تبدو سهلة الجسر أكان بين طهران وواشنطن من جهة أو بين طهران وخصومها الإقليميين أو بين دول الخليج العربية أنفسهم أو في سورية واليمن ولبنان، والأهم الخلاف في الرؤية الحالية بين الدول العربية القريبة من ترامب وإسرائيل من جهة، وبين الإدارة الديمقراطية العتيدة.
على مستوى القضية الفلسطينية من غير المعروف مجال المناورة المتبقي للإدارة الجديدة، فكما أسلفنا أعلاه لن يكون سهلا عليها التراجع عن خطوات بهذه الحساسية، لكن إعادة طرح حل الدولتين وفرضه على جدول أعمال المنطقة بشكل سريع سيعطي بايدن ورقة قوية لترتيب الأجندة وفقا لقواعد اللعبة السابقة، مع ذلك لا يمكن الاستهانة بموقف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنجامين نتنياهو الذي قد يقاوم بشكل كبير إعادة الساعة إلى الوراء، وهنا ربط آخر مع الملف الإيراني إذ أن نتنياهو كان على صفحة واحدة مع ترامب في مواجهة إيران، واليوم تحت إدارة بايدن سيكون الوضع مختلفا، ولعل تحذير وزير المستوطنات الإسرائيلي تساحي هنغبي بشن حرب إسرائيلية على إيران في حال فوز بايدن خير دليل على ذلك.
يحمل بايدن على كاهله إرث ترامب الخصم ومشروع أوباما الشريك، والواقع أن الرئيس الجديد وكما سيدخل البيت الأبيض مع كامالا هاريس نائبة له ورئيسة تحت التمرين، فهو سيعيد معه إلى المكتب البيضاوي عقل أوباما الذي سيكون بدوره حاضرا، كما في الجولات الانتخابية، في صناعة السياسات الخارجية وفي مسعى إعادة اللحمة إلى دولة لم تعد كما كانت عليه قبل أربع سنوات فقط. هذه الدولة حققت كما بات واضحا الكثير من الأهداف الميدانية، لكنها في الطريق وتحت قيادة ترامب، خسرت أهم ما كانت قد أسست له خلال عقود مضت، السطوة دون الحاجة لاستخدام الضغوط القصوى.
نعود الى طاولة ثيودور روزفلت التي ذكرناها أعلى القطعة. روزفلت الذي كان نائبا للرئيس ومن ثم تولى الرئاسة جاء إلى الشرق الأوسط برؤيتين، حينها لم تكن الولايات المتحدة تملك في المنطقة مربط خيل. نظّر للتدخل الاوروبي للحد من القوة التركية وفي آن عوّل على الجغرافيا السياسية والاقتصاد والثقافة لصناعة تأثير أميركي وكانت رؤيته للاستقرار بحسب إرثه المكتوب، دول متحضرة وحرة غير متورطة في أعمال عدائية ضد بعضها البعض. ربما على نائب الرئيس السابق، الرئيس العتيد، ونائبته الجديدة القراءة من كتاب خلفهم الراحل على مكتبه الذي يحمل شيئا من إرثه.
الكاتب : علي هاشم
الموقع :jadehiran.com
نشر الخبر اول مرة بتاريخ : 2020-11-07 06:40:46
رابط الخبر
ادارة الموقع لا تتبنى وجهة نظر الكاتب او الخبر المنشور بل يقع على عاتق الناشر الاصلي