التسلسل العبقري في خطاب السيد: تصويب نحو “القلق الوجودي”
ايهاب زكي | كاتب وباحث فلسطيني
إنّ خطاب السيد حسن نصر الله في يوم الشهيد، كان جامعًا دون إطالة، ومختصرًا دون إنقاص، وهو نوع من الخطابات شديدة التكثيف، ولكن في ذات الوقت دون تعقيد، وهو يصلح كنموذج ليدرسه طلبة فن الخطابة، بذات القدر الذي يصلح لطلاب الدراسات العليا في العلوم السياسية، ويصلح أيضًا لطلاب علم النفس السياسي، بقدر ما يصلح لطلاب الإعلام والصحافة.
هذا في الشكل، أمّا في المضمون، فكان أشبه بخارطة طريق لمآلات الصراع القائم، حيث كان من اللافت أنّ يبدأ الحديث بعد كلمةٍ عن الشهداء أصحاب المناسبة، بما أطلق عليه القلق الوجودي، مع أنّ الأزمة المفتعلة مع لبنان سعودياً هي حديث الساعة، وهي الحاضرة دون سواها في السياسة والإعلام لبنانياً وعربياً، لكنه اختار الاستفتاح بالقلق الوجودي، الذي تشعر به “إسرائيل” من وجود وقوة حزب الله وقدراته، وكأنّ السيد أراد القول إنّ هذا القلق”الإسرائيلي” هو لبّ الاستهداف، وكل ما يتم افتعاله من أزمات، هي محاولاتٌ للتخفيف من ذاك القلق.
قال السيد نصر الله “إنّ القلق (الإسرائيلي) ليس من إطلاق صاروخ من لبنان أو قذيفة أو زرع لغمٍ أرضي، بل هو قلقٌ وجودي”. وقد قال السيد نصر الله ما قاله مستنداً إلى ما يتردد في “إسرائيل”، من استنتاجات وتحليلات على المستويين السياسي والإعلامي، وليس فقط استناداً لمعرفته بما يمتلك حزب الله من قوةٍ وقدرة، وهذا القلق يعتبره السيد نصر الله مُحقاً وفي محله، لأنّ خارطة المنطقة مستقبلاً ستكون بلا وجودٍ لهذا الكيان.
ومن ضمن محاور ذاك القلق، تحدث السيد نصر الله عن كثافة المناورات “الإسرائيلية”، التي تعكس يقينًا “إسرائيلياً”، باقتحام قوات المشاة في حزب الله لشمال فلسطين المحتلة، والسيطرة على آلاف أو مئات الكيلومترات، بكل ما لتلك السيطرة من آثار استراتيجية على مصير الكيان ووجوده، حيث اعتبر السيد أنّ الأمر ليس مجرد جغرافيا، وهذا يعود لطبيعة الكيان المصطنعة، ويبدو أنّ العدو وقياساً على تجربته مع حزب الله، واستلهاماً من تجربة الحزب في سوريا، لديه يقين بقدرة مقاتلي الحزب على اقتحام الجليل، لذا تبدو مناوراته لمنع تمركز قوات حزب الله وإقامة نقاط سيطرة حاكمة ودائمة، وليس منع الاقتحام أو صدّه، لأنّ العقل”الإسرائيلي” تطبّع مع فكرة الاقتحام، منذ اللحظة الأولى التي تحدث فيها السيد نصر الله عن ذلك، وكما قال السيد فإن العدو “يدرك صدق المقاومة وعلو شأنها وأهمية عقولها الاستراتيجية”.
ثم تسلسل حديث السيد نصر الله إلى فكرة التطبيع، الذي تمارسه بعض الدول العربية، واعتبره محاولة “إسرائيلية” للتخفيف من القلق الوجودي، وأكّد في ذات الوقت، أنّه طريقٌ مسدود، وأنّ كل تلك البلدان لا تستطيع حماية “إسرائيل”، والأهم أنّ السيد قال إنّ “إسرائيل” تدرك ذلك، أيّ إنّ العدو يدرك أنّ حمّى التطبيع لا تستطيع حمايته، وبما أنّه يدرك ذلك، نستطيع بسهولةٍ استنتاج أنّ العدو لا يملك الخيارات، وأنّ توجيه ضربة قاصمة لمركز ثقل محور المقاومة -حزب الله- كما سمّاه أحد باحثي معهد السياسات والاستراتيجيا في مركز”هرتسيليا”، وأوصى بالضربة القاصمة، هو أمرٌ شديد التعذر، لأنّ “إسرائيل” تدرك أنّها ستكون الحماقة الأخيرة، والتي ينتظرها الجميع بفارغ الصبر والتصبر.
من هنا وبهذا التسلسل اللافت، دخل السيد نصر الله إلى الأزمة السعودية اللبنانية، والتي أصرّ السيد على اعتبارها أزمة مفتعلة، افتعلتها السعودية من لا شيء، والحقيقة أنّها مفتعلةٌ وبشكلٍ مبتذلٍ أيضاً، لأنّ الدولة يأبى عقلها التصرف على هذا النحو، ولكن السعودية لا تتصرف باعتبارها دولة بل عائلة، وفي الفترة الأخيرة منذ تسلم ابن سلمان ولاية العهد، تتصرف كأنّها فرد في عالمٍ افتراضيٍ، في متجر الألعاب على الهاتف الجوال.
وبدأ السيد نصر الله بتفنيد فرية سيطرة حزب الله على الدولة اللبنانية، التي يتشدق بها عالم الافتراض السعودي وأتباعه محلياً، وساق شواهد على سبيل المثال لا الحصر، بأنّ الحزب الذي يسيطر على الدولة لا يستطيع التأثير على قاضٍ متجنٍّ مسيس، ولا يستطيع تفريغ حمولة بواخر النفط الإيرانية على الشواطئ اللبنانية، ولكن الحقيقة أنّ السعودية كما الولايات المتحدة كما كل من يتهمون الحزب بالسيطرة على الدولة محلياً وإقليمياً ودولياً، يدركون ذلك، ولكنهم لا يقصدونه، بل يقصدون أنّ وجود الحزب يمنع لبنان من التطبيع مع “إسرائيل”، وأنّ وجود الحزب يمنع”إسرائيل” من التغول على الحدود اللبنانية والمياه اللبنانية، وبالتالي يمنعها من الاستيلاء على الثروات اللبنانية، وأنّ وجود الحزب يمنع النفوذ الأمريكي من تحقيق كل ذلك، وهذا ما يقصدونه بالضبط، أمّا هم فأكثر من يدرك ما قاله السيد نصر الله” رغم أننا أكبر حزبٍ لبناني، إلّا أنّ نفوذنا في أجهزة الدولة، أقل من نفوذ أحزابٍ أصغر”.
ثم فنّد السيد نصر الله ما أُشيع عن حديثٍ تداوله البعض، عن توجه إيران للسعوديين بالحديث مع حزب الله، للتأثير على أنصار الله بوقف معارك مأرب، واعتبر السيد أنّ السعودي مشتبهٌ حين يعتقد بأنّ حزب الله في اليمن لذلك ينتصر اليمنيون، إنما هي انتصارات يمنية، “صنعها قادة يمنيون ومقاتلون يمنيون وعقول يمنية، وإيمان يمني وحكمة يمنية”، وأكّد أنّ الضغط على لبنان، لن يحل معضلة السعودية في اليمن، والتي تتبدى هزيمتها يوماً بعد يوم.
إنّ هذا التسلسل العبقري لحديث السيد نصر الله، يضع الواقع على شاشةٍ عملاقة، فلا تغيب أصغر تفاصيل الحقيقة؛ عدوٌّ “إسرائيلي” يعيش قلقاً وجودياً، لأنّ هناك حزبًا في لبنان يمتلك القوة والقدرة على تهديد ذلك الوجود، وخلفه محورٌ مقاومٌ شديد اليقظة شديد التصميم، وهناك مطبعون يفتعلون الأزمات، في خيارٍ يائس لطمأنة العدو القلق على وجوده، الذي يعني بالضرورة وجود العروش الوظيفية، لأنّها ما أُنشئت إلّا لهذا الغرض، ولكن الهزيمة في اليمن، هي هزيمة للمشروع الأمريكي “الإسرائيلي”، بما يُعتبر مقدمةً للهزيمة في عقر دار العدو، لذلك فمن يريد رؤية المستقبل عن كثب، ما عليه سوى مراجعة خطاب السيد نصر الله في يوم الشهيد للعام 2021.
العهد الإخباري