هل هي أزمةٌ سوريّة فِعلاً ؟
جعفر خضور | كاتب وباحث سوري
عشرُ سنواتٍ على الحربِ الإرهابيّة القذرةِ التي ألقت بثقلها ودعمها الإقليميّ والدوليّ على الدّولة السوريّة. فلم يكن السّلاح أداةَ القتالِ الوحيدةِ في رحاها، ورُكام البُنى التّحتيّة ما يزال شاهداً، بل ساندَه سلاحٌ أكثر فتكاً، حربٌ إعلاميّةٌ قوامها شبكةٌ تضمّ أكثرَ من 1600 صحفيّ ومؤثرٍ دوليّ على أقلّ تقدير “بحسب وثائق مسرّبة”، قنواتٍ، وشبكاتٍ عنكبوتيّة، في ظلّ ثورة رقميّة جامحةٍ، بررت التّدخل اللاشرعيّ في شؤون الدّول العربيّة تحت مسمّى “الرّبيع العربيّ”، حيث أسمَت من لا ينتمون إلى العقلِ الثّوري التّحرريّ من ظلالمِ الاستبدادِ والارتهانِ “ثوّاراً”، وكنَّتْ من عَمِلَ تحت لواء المشروع “الصّهيو – أميركيّ” المرتهن للإرادة الغربيّة المحرّكة له كما تشاء “معارضاً”. لتجعلَ من الجاني مجنيّ عليه، ألبست الجزّار ثوب الممرّض، وألصقت بيّنات البراءة، وشهادات حسن السّلوك على صدورِ عديمي الأخلاق، والممنهجين على القتلِ والفتنةِ، وشاهدي الزّور والبهتان الذين يقولون ما يكتبه لهم أسيادهم ملقّبين أنفسهم بـ “شاهد عيان”.
مثّلت “حرب المصطلحات” أحدَ أهمّ الأدوات المكثّفة في الحرب الإعلاميّة ضدّ سورية، والتي شكّلت حروفها الأبجديّة الأساسيّة للإعلامِ الدمويّ. وإن كانت المصطلحات علمًا قائمًا بحدِّ ذاتهِ، تعود جذورُه لأوائلِ القرن التّاسع عشر، وله وظائفه الجوهريّة المهمّة المتمثّلة في كلّ لغاتِ العالم، كما أنّه ناظمٌ للمفاهيم، وأداة للتّعاملِ مع المعارف، ووسيلةٌ للتّواصلِ، كما استخلص الفكرة معهد الأبحاث العلميّة في فيينا، بالقول: “لا معرفة دون مصطلح”، إلا أنّ توظيفه السّياسيّ كان الحاضر الأبرز إلى جانبِ المعارك، والمرادُ من خلالِه تغيير قناعات الرّأي العام، وتشكيل أخرى، لتتماهى وأهدافه ضمن أجنداتٍ غربيّة رسمتها غرف الإمبراطوريّة “الأنغلو – أمريكيّة”، وبالطّبعِ هذا لا يقتصر وفق خططهم وبرامج عملهم على مرحلة ما قبل الحرب المهيّأ لها، بل على مرحلة خضمّ الحرب لشرعنتها، وما بعدها، حتّى تبقى المفرزات الفكريّة المزمنة ماثلة في العقل لأجيالٍ وأجيال.
ولعلّ من أكثرِ المصطلحات حضوراً رغم كثرتها كما ذكرنا في بداية المقال، المتمرس في مَتنِ التّحليلات، وعناوين الدّراسات، ونصوص المقابلات، مصطلح: “الأزمة السّوريّة”. الذي لاقى رواجاً واسعاً كانت ركيزته برمجة لغة عصبيّة تعتمد على الفهم النفسيّ والعصبيّ للكلمات والعبارات التي يسمعها الجمهور، لتصبح جزءًا من حديثهم اليوميّ بشكلٍ غير إرادي، لجزالة لفظها، وإيجاز تعبيرها، لتمضي مفتاحاً لفهم الأحداث ومن الحقائق الواقعيّة المسلّم فيها.
والأمر البالغ الأهميّة يكمن في تشريح المصطلح المذكور لبيان معناه الحقيقيّ الخادم لأهداف من صنعه.
إذ يحمل مفهومان: “تقنيّ وسياسيّ”.
التّقنيّ: ويقصد به ظهور خلل في الوظائف العامّة للمنظومة في الدّولة. أمّا السّياسيّ: فغالباً ما يُقصد به وجود خلل في الدّولة والمجتمع ذي منشأ داخلي حصراً، حتّى ولو كان له مسبّبات وآثار خارجيّة.
وقد استخدمت المراكز الغربية مصطلح “الأزمة” لإخفاء حقيقة الأمور بأنّ الأسباب كلّها خارجيّة، وفي هذا الأمر أهداف عدّة، أوّلها: خلق ضّبابيّة على المشهد الّذي يعمي عن المصادر الخارجية الحقيقيّة المسبّبة للحرب، وتصوير الخلل الحاصل في سورية أنّه ذو منشأ داخليّ بحت، ناتج عن عدم الرّضا الشعبيّ على الدولة، وبالتّالي ضروريّة وقوف العالم مع الشّعب وليس مع الدّولة.
أمّا ثانيها: هو ما يتضمّنه مصطلح “الأزمة” بعناصره بوجه أساسيّ، كتشابك مكوّنات الحدث، وعدم الوضوح، والتّعقيد، مما يمهّد إلى تهيئة الرّأي العام لتدخل دوليّ بحجّة أنّ الأزمةَ قاسيةٌ، ومعقّدةٌ، تهدّد الأمنَ والسّلمَ الدّوليّين، والإيحاء بأنّ هذا التّدخّل يتمّ من أجل حلّ الأزمةِ التي لا يمكن للسّوريّين حلّها وحدهم. وبالتّالي هي خدمة لهم وليست عدواناً عليهم.
واستخلاصاً لما سبق، يمكننا دحض هذا المصطلح بالبرهان القاطع متكئينَ على الأساس الّذي برهنته مجريات الحرب الدوليّة على سورية بعناصرها، وأطرافها، ومموليها منذ اندلاع الشرارة الأولى للحرب وتسويق روايات مضادة للوضع الحقيقيّ الّذي شهدته الساحة. وفي هذا الإطار، يحتّم بيان المقصود، طرح تساؤلات جوهريّة. هل مسببات الأزمة داخليّة فقط؟ ماذا عن آلاف المرتزقة؟
وما هو دور من تدخّل بذريعة الحماية (وهو مكشوف) يجعل من قواعدهِ مقرَ دعمٍ لوجستيّ للعصابات الإرهابيّة المسلّحة ويعيد تدريبها ويمارس اللصوصيّة للمقدّرات، وإلى جانبه منظمات مدنيّة مسيّسة تفبرك وتقلب الصورة؟ والكثير..!
لكن يبقى التساؤل المطروح بعد كلّ ذاك، هل أنّ التدخل الذي برروه “بالمساعدة” “لأزمة” تهدد الأمن والسلم الدّوليين خدمَ على أرض الواقع من صوّروه بغير راضٍ عن دولته؟ وليكن فرضاً، غير راضٍ عنها فلما لم تكن الإصلاحات ناجعةً معه؟ أليس لأنَّ من حرّكه البترودولار؟! بالطبع، الأجوبة واضحة، والأدلّة دامغة، عن الافتعال، لا الانفعال المطلبيّ.
وتأسيساً على ذلك، يمكن الجزم بأنّ مصطلح “الأزمة السورية” هو مطّاطٌ وظيفيٌّ، خادمٌ للأجندةِ، وما يزال يدور في نفسِ الفلك، لذا هناك تكليف تفرضه صحوة العقل، الأمر الذي يقضي مراجعةً وتقييمًا ونقدًا لكلّ ما يُقيم الشبهة ومظنّة التحيّز للمشاريع الفتنويّة الغربيّة، من افتعالٍ للأزمات في البلاد العربيّة على وجه الخصوص، لترميم هذا الدمار الذي سببه القصف الفكريّ المستهدِف للبُنى الفوقيّة.