بين يسارالصفر ويسارالتلة
الدكتور فهد حجازي | كاتب وباحث لبناني
كلمة اليسار هي مصطلح فضفاض، يتوسع ليشمل تيارات عدة تتوشح هذا المعطف بدون تعقل. وابتداءً، وتحاشياً للغرق في تفاصيل شروحات ماهية اليسار، فإنني أقصد في هذه العجالة المثقفين والسياسيين الماركسيين، متحزبين كانوا، أو على تماس مع أحزاب شيوعية، أو يتبنون الفكر الماركسي أو يدانونه بحذر.
يسار الصفر، هو تيار انهزامي سوداوي في غالبيته، اعتبر مع هزيمة منظمة ياسر عرفات أمام لجيش الصهيوني، أن “الأشياء لم تعد ممكنة.. وأن الخصم لبس ثيابنا وجلس بيننا وأعادنا إلى نقطة الصفر”، أو المثقفون المحبطون الذين افترستهم الهزيمة، فلم يستطيعوا فهم حركة التاريخ، فـ”أدهشهم الغموض الذي يعبر به الناس عن تمسكهم بالحياة”، وأذهلهم خروج الناس إلى المقاومة! وأكثر ما زاد في غموض الأمور على هذه الفئة، عجزهم عن فهم جدلية الصراع ين الاحتلال والمحتل، فدعوا إلى “الوقوف في نقطة الصفر والتحديق في الصفر بعين الصفر ليروا الغامض في الآتي”(1)، ففاجأهم بروز قوى تمثل طوائف وفئات لا تحمل برامج سياسية واضحة -بالنسبة لهؤلاء المثقفين- لقيادة مقاومة المحتل وعميله الفاشي، بدل زراعة الخوف والإحباط عبر وصف الاحتلال الصهيوني بأنه “زمن الانحطاط.. أو الزمن الإسرائيلي”، والذي رد عليه مهدي عامل في نقد الفكر اليومي: “بل إنه زمن المقاومة”!
لا داعي للاستغراب في كيفية ضعف اليسار، وانتقال مناضليه إلى تيارات دينية، طالما أن الحظوة التي تمتع بها أصحاب هذا الفكر المتذبذب والسوداوي والصفري واللامبالي، يضخّون الإحباط والضبابية على مدار اليوم عبر صفحات فتحت نفسها لهم، وأقفلتها في وجه من أقلع على فذلكات الغموض، وتمرد على فلسفة الهزيمة، ومقولات “موت السياسة(2)، وفلسفة “اللامبالاة”(3)، وسلك طريق المقاومة. وفي مقدمة هذه الوسائل كانت جريدة السفير التي كان فرسانها من مثقفين وسياسيين وشعراء سوداويين وضبابيين أمثال، عباس بيضون، وحسن داوود، والياس خوري، وساطع نور الدين، وموسى وهبة، وحازم صاغية، وأحياناً ميشيل كيلو وجورج صبرا وكريم مروة وغيرهم، ممن يفرغون يأسهم وعباراتهم المبهمة, وخوفهم في رؤوس الأجيال التي تآكلها الضياع، فوجدت نفسها مع بداية الاجتياح الصهيوني أمام خيارات الاختفاء والخنوع كما أريد لها، أو ولوج المقاومة من بوابتها المتاحة، فقاوم من تبقى من كوادر أحزاب اليسار على أمل قيامة يسارهم المخترق، والتحق معظم الشباب في حركة المقاومة التي رفعت شعارات دينية أو قومية تدعو إلى المقاومة، ومارستها، فيما انتقل الكثير من مفكري اليسار إلى معسكر التشكيك والتخويف من المستقبل، خصوصاً مع انهيار المعسكر الاشتراكي، حيث تنصل الكثيرون من انتمائهم السابق دون تقديم أي مراجعة لتجربتهم!
اليسار الليبرالي: في الصراع مع هيمنة المركز الرأسمالي، اختار الكثير من اليساريين الوقوف في معسكر العدوان الإمبريالي بذريعة الديمقراطية وحقوق الإنسان، تماشياً مع خطة الفوضى الهدامة (الربيع العربي) التي يقودها الملياردير الأميركي سوروس عبر وكيله برنار ليفي، وانبرى الكثيرون منهم للتنظير لهذا الانتقال، وتبرير العدوان على الدول التي تصفها الماكينة الإعلامية الغربية بـ”أنظمة الاستبداد”. وقد أخذ هؤلاء المنظرون المشبوهون الكثير من المتأثرين بديماغوجيتهم التقدمية إلى المعسكر المعادي لطموحات أوطانهم في التحرر من براثن الهيمنة، وكان أبرزهم عزمي بشارة، وميشال كيلو.
أما يسار التلة، فهو بعض اليسار الذي بقي في موقعه الحزبي، أو على تماس معه، وهو يدعي الوقوف على الحياد، لأنه لن يناصر أنظمة استبدادية في حربها ضد منظومة النهب، بداعي أن الأمر لا يعنيه، وهو ينتظر نتيجة المعركة، ليعود إلى خوض معركته الحقيقية عبر الصراع الطبقي!
هذه المنظومة الفكرية المشبوهة التي تربعت على ناصية الضخ الفكري بدعم من مالية منظمة عرفات ثم الحريري ثم قطر والسعودية، لو أنزل تأثيرها، على أجيال الصين لأعادتها إلى القرون الوسطى، ولكن شباب أمتنا أظهر أن روحه الوطنية والقومية التحررية، أقوى من تأثيرات أصحاب الأوهام، والمهزومين والمتآمرين، والنصر حليف المقاومين لمشاريع التخلف والتجزئة والتبعية.
بيروت 22/9/2017
(1)الياس خوري, السفير: 6/1/85
(2)عباس بيضون, السفير 9/1/1979
(3)موسى وهبة، مجلة مواقف ع 39/1980