كتاب الموقع
تجّار الأزمات والثّقب الأسود
الدكتور نازك بدير | كاتبة واكاديمية لبنانية
ماذا ينتظر اللبنانيّون من الغد؟ هل لا يزالون يعوّلون على أيّ حلّ خارجيّ؟ هل ثمّة ما يشي بانفراج الأزمة بعد هذا المخاض؟ يبدو أنّ الأمور تسير نحو المزيد من التضخّم، وتاليًا إلى درجات أعتى من التّصعيد، ولا سيّما بعد ازدياد {حفلات الجنون} المتنقّلة في المناطق اللبنانيّة التي باتت تشهد بشكل شبه يوميّ أحداث شغب وعنف بسبب استغلال غياب الأمن، وانعدام الاستقرار.
ينشط في مثل هذه الظروف تجّار الأزمات، ولا ينحصر عملهم في بقعة محدّدة، إذ يشتدّ وقْع خلاياهم خلال العُسر، فيحكمون الخناق أينما حلّتْ أيديهم المتخثّرة بالدم.
تراهم ينتقلون خلال صفقاتهم من على جثث ضحاياهم، كلّ منهم يحمل حقيبة ملأَها من بكاء النّاس، وسِنيِّ
انتظاراتهم.
تجّار الأزمات ليسوا من الجيل الخامس، لا بل هم من جيل سابع، أو ربمّا عاشر لم تشهد له البشريّة إلى اليوم مثيلًا في
قبحه.
منظومته قائمة على ما يشبه الثّقب الأسود؛ كلما أشِير إلى باب من أبواب الفساد، اختفى، وكلما عُرِف أحد المتورطين في عمليّة من عمليّاته، سرعان ما يتمّ ختْم الموضوع، وكأنّما تُحال الملفّات جميعها باتّجاه الثّقب الأسود، لا أحد يعلم آليّة اشتغالها، ولا القوانين التي تحكمها.
وكأنّ كلّ ما يحصل هو ضمن دائرة محبوكة بإحكام، من الصّعوبة بمكان اختراق جدرانها، أو المسّ بأنظمة تشفيرها. لكن، هل يكفي تحويل المسار إلى الثّقب الأسود من دون المحاسبة، ويبقى المرتكبون أحرارًا يعيثون فسادًا في الفضاء؟ لعلّ ما يحدث هو أشبه ما يكون بتضييع مسارات، وتغيّير اتجاهات، وانقلاب معايير من دون رسْم قواعد جديدة، كأن تفجّر عمارة على رؤوس ساكنيها، بعد ذلك، من أشلاء الضّحايا تعيد رسْم الجدران، وتعليق المرايا ليروا بأمّ العين، وفِي كلّ لحظة، موتَهم المنعكس
مع الشروق.
ثمّة سؤال آخر: هل الثّقب الأسود قادر على استيعاب الفاسدين؟ أم أنّه هو الآخر سيلفظهم، ويطرحهم إلى خارج حدوده؟ لا شيء يمكن أن نجزم به الآن، لكن ما يمكن قوله إنّ هؤلاء الفاسدين يمتلكون قدرات التحوّل والتحوّر إلى درجة قد يمكنهم التكيّف على العيش وإشاعة الفساد حتّى داخل هذا الثقب الذي لن يسلم من غطرستهم.
وعلى الرّغم من ابتلاع السّاسة لكلّ ما في لبنان من أنوار، إلا أن هذا الأخير سيعود، يومًا ما، إلى انحنائه وتعديل الحقول المغناطيسيّة حول نفسه.