لحساب من يعمل الإعلام “اللبرالي” في روسيا؟
حبيب فوعاني | كاتب واعلامي مقيم في موسكو
يصف المفكر الإسرائيلي-الروسي، المعادي للصهيونية إسرائيل شامير الإعلام “اللبرالي” الروسي بـ “الأداة الطيعة بيد الطابور الخامس، الذي يعمل ضد مصالح روسيا الوطنية”.
ولعل ذلك بدا جليا خلال تغطية هذا الإعلام للحرب الأخيرة على غزة مخالفا بذلك سياسة بلاده بنعته الفلسطينيين بالإرهابيين. وقد حازت قصب السبق في ذلك إذاعة “صدى موسكو” وصحيفتا “نوفايا غازيتا”، و”أرغومينتي نيديلي”.
بينما اكتفت وسائل إعلام أخرى بوصف الفلسطينيين بالمتطرفين، ومنها مثلا:
وكالة الأنباء الرسمية الروسية “تاس”، وصحف “إيزفيستيا”، “روسيسكايا غازيتا، “إر بي كا”، وقناة “إن تي في” و”فيستي”، وموقع “لينتا.رو”، وغيرها.
ذلك في حين أن موسكو تقيم علاقات مع عدد من فصائل هؤلاء “المتطرفين الفلسطينيين”، ومن بينها حركة “الجهاد الإسلامي”، التي قامت بآخر زيارة لها إلى روسيا في 12 شباط/فبراير من سنة 2019 لبحث ملف المصالحة الفلسطينية. وكذلك حركة “حماس”، التي التقى رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف في العاصمة الروسية في 02 آذار/مارس من سنة 2020.
جدير بالذكر أن سيرة حياة إسرائيل شامير نفسه شائقة مثيرة الاهتمام: فقد هاجر من الاتحاد السوفييتي في سنة 1969عندما كان يهوديا إلى إسرائيل، بعد أن بهره “الانتصار” الإسرائيلي على ما يبدو في سنة 1967. وشارك في حرب “الغفران” سنة 1973 بصفة مظلي على الجبهة المصرية، ثم عمل في صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية. وفيما بعد في نهاية السبعينيات خابت آماله نهائيا في الفكرة الصهيونية، وانتهى به الأمر إلى اعتناق المسيحية وتعمده على يد رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس في القدس المحتلة المطران عطا الله حنا في سنة 2004، ثم عودته للإقامة في روسيا، حيث أصبح من أشد المعادين للصهيونية ومن أشد المؤيدين للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولا سيما أنه ألف عنه كتابا بعنوان “هجمة بوتين السورية”.
غير أن حديثنا هنا ليس عن هذه الشخصية المميزة، بل عن الإعلام “اللبرالي” الروسي، الذي تحتل فيه إذاعة “صدى موسكو” الروسية المرتبة الأولى بتطرفها ومعاداتها سياسة الكرملين، حيث إن بعض صحافيي هذه الإذاعة لا يزالون منذ سنة 2014 يسمون عودة القرم إلى الوطن الروسي الأم احتلالا، ويسمون منذ سنة 2015 العملية العسكرية الروسية في سوريا عدوانا.
ولا تزال هذه الإذاعة تمارس دورها البغيض، بالترويج في روسيا لسياسة اليمين الإسرائيلي، وتنعت الفلسطينيين وحركة “حماس” الفلسطينية و”حزب الله” اللبناني بالإرهاب، ذلك رغم أن هذين التنظيمين غير مدرجين على القائمة الروسية الرسمية للتنظيمات الإرهابية، الأمر الذي يثير استنكار بعض ممثلي النخبة الروسية اليهودية نفسها.
يجب القول إن الأوليغارشيين “الليبراليين” الروس بدأوا بالسيطرة على وسائل الإعلام السوفييتية في عهد الزعيم السوفييتي ميخائيل غورباتشوف، حين لمع نجم الصحافيين اليهوديين: فيتالي كوروتيتش رئيس تحرير مجلة “أغونيوك”، التي ارتفع عدد قرائها إلى 5 ملايين شخص، وألكسندر ياكوفليف رئيس تحرير صحيفة “أنباء موسكو” الأسبوعية النافذة، التي كانت توزع في 54 بلدا بلغات العالم الرئيسة، قبل إلغاء ياكوفليف النسخة العربية منها، بذريعة عدم حاجة الاتحاد السوفياتي إلى صحيفة سوفييتية باللغة العربية.
ثم أحكم الأوليغارشيون قبضتهم على وسائل الإعلام الروسية في عهد الرئيس بوريس يلتسين، حيث أنشأ إمبراطور الإعلام الروسي والإسرائيلي ومؤسس المؤتمر اليهودي الروسي فلاديمير غوسينسكي إذاعة “صدى موسكو” في سنة 1990.
أما كاردينال الكرملين الرمادي وبارون النفط والإعلام والطيران حامل الجنسية الإسرائيلية بوريس بيريزوفسكي، الذي توفي في لندن في سنة 2013، فاستولى على 49% من أسهم القناة التلفزيونية الفدرالية الروسية “الأولى”، وكذلك على قناة “تي في-6” التلفزيونية وصحف “كوميرسانت” و”نيزافيسيمايا غازيتا” و”نوفيي إزفيستيا”، إضافة إلى مجلات “أوغونيوك” و”فلاست” و”دينغي” وغيرها.
واستولى أوليغارشيون آخرون على وسائل الإعلام الروسية بأسعار بخسة وبواسطة قروض منحتهم إيها الدولة نفسها، بينما كانت العصابات الروسية القومية تتصارع في هذه الأثناء على امتلاك المطاعم والمراقص والملاهي.
وعلى الرغم من أن بوتين سمى إذاعة “صدى موسكو” ذات مرة بـ “إذاعة الأعداء”، فإن “نظامه الدموي” لا يريد إيقاف نشاطها أو التأثير فيها، حتى بعد أن أصبحت تمولها شركة “غاز بروم” الروسية شبه الحكومية إثر فرار طاغوتي المال هذين من روسيا في سنة 2000، فالكرملين لا يريد “قمع” الصحافة، حتى لا يتعرض لسهام النقد من كل حدب وصوب.
وفي المقابل، بادر حينئذ رجال الأعمال الروس الموالون للكرملين إلى شراء معظم وسائل الإعلام الروسية. بيد أن صانعي الأخبار، الذين تربوا على يدي غوسينسكي وبيريزوفسكي، لم يبارحوا أماكنهم. وهم لا يكفون عن الترويج لما يعدُّونه قيما غربية سامية، والحط من قدر المقدسات الروسية. وتكاد تصبح مهاجمة العرب ميزة ثقافية جديدة في المجتمع الثقافي المخملي الروسي. ولم تعد مشاركة رئيس مكتب الاتصال الاستخباري الإسرائيلي السابق ياكوف كيدمي في البرامج التلفزيونية الروسية تثير استغراب أحد.
وكانت صحيفة “نوفايا غازيتا” قد ظهرت في سنة 1993، في عهد “انبطاح” يلتسين الأسطوري أمام الغرب، ومنذ ذلك الحين وهي تسبح بحمد الغرب بكل ما فيه من خير وشر، آناء الليل وأطراف النهار، ولا ترى أي إيجاب في روسيا.
وفي هذه الصحيفة بالذات يعمل الصحافي اللبناني وديع الحايك، الذي نعت الفلسطينيين بالإرهابيين في مقال أخير له (12/05/2021) حمل عنوان “من يصطاد القادة الفلسطينيين؟”، وتحدث فيه عن “النجاح الكبير للجيش الإسرائيلي في مواجهة “حماس”.
وهناك قناة “دوجد” التلفزيونية، التي لم تخجل من إجراء استطلاع للرأي في سنة 2014 عن مدى صحة رفض تسليم لينينغراد للنازيين وضرورة مقاومتهم في الحرب العالمية الثانية، وقد دعمت القناة التاسعة الإسرائيلية زميلتها الروسية بإجراء استطلاع بين الإسرائيليين عن الهولوكوست. ولو لم يدافع بوتين بنفسه عن القناة الروسية هذه، لأصبحت في خبر كان.
حسنا، وفي مقابل ذلك كله، ماذا عن العرب؟ إن النشاط الإعلامي العربي يكاد يكون معدوما، وغالبا ما يعرب أصدقاء العرب من الإعلاميين الروس عن دهشتهم لتقاعس غالبية الممثليات الرسمية العربية في روسيا عن أداء مهماتها، ولغيابها الكامل عن الميدان الإعلامي.
أما المسؤولون الروس فيتنصلون من أي مسؤولية، ويلقون باللائمة على العرب أيضا، ويشددون في أحاديثهم الخاصة على ضرورة أن يحذوا حذو الإسرائيليين، ويفعِّلوا نشاطهم الإعلامي في روسيا، التي لا تضع أي قيود على ذلك.