هل نستطيع مواجهة التطبيع بذاكِرة مسلوبة؟
عمر معربوني | باحث لبناني في الشؤون السياسية والعسكرية
بدايةً اعذروا اعتمادي على سردّية قصيرة لأنّها برأيي تُشكّل مدخلاً لفَهْم المسألة برمَّتها.
وأنا أنوي كتابة هذا المقال تذّكرتُ موقفين أحدهما يعود إلى ثمانينيات القرن العشرين والآخر يعود إلى مُنتصف شهر رمضان الحالي.
أمّا الموقف الأول فكان حين كنتُ أقرأُ بحثاً للمُفكّر الفرنسي روجيه غاروديه يتعرَّض فيه لصناعة الإعلام، حيث أورد حواراً بين أدولف هتلر والذي أسماه غاروديه في النص “سيّد التلاعُب بالعقول” مع وزير الدعاية حينها جوزف غوبلز، حيث أمره هتلر بعد انتهاء النقاش مُتوجّهاً له: “جوزف، إصنعوا برامج تُخاطِب أتفه الناس وأسفل ما فيه، غدده الدمعية والجنسية”، وهذا يعني أنّ البرامج وكانت حينها مُقْتَصِرةً على الصحف والبيانات والإذاعة والسينما، إضافة إلى ابتكار “غوبلزي” إن صحّ التعبير لا يزال قائماً حتى اللحظة رغم كل التطوّر التِقني لوسائل ووسائط التأثير وهو مُكبّرات الصوت الجوّالة.
هذا بالنسبة إلى وسائط ووسائل التأثير، وأمّا بالنسبة إلى النوعية فكان المَقْصَد بالتركيز على أتفه الناس ومُخاطبة غدده الدمعية والجنسية التأثير على الأبعاد العاطفية والنفسية للبشر، وهو لا يزال قائماً حتى اللحظة حيث اَلْكَمّ الكبير من المُسلسلات التي بدأت بالموجة المكسيكية وتستمر بالغزو التركي بمُوازاة الإنتاج الخليجي والمصري واللبناني المليء بالتسطيح والعَبَث والتفاهة وتحريض الغرائز.
أمّا الموقف الثاني فحصل مع إبني حيث عاد إلى المنزل قبل أيّام وكان غاضِباً ويبدو عليه الإنزعاج الذي لم يستطع إخفاءه، وعند سؤالي له عن سبب إنزعاجه قال إنّه كان مع عددٍ من رفاقه يُلبّون دعوة صديق على مائدة الإفطار وصودِف وجود صديق لصديقنا كان مُمتعِضاً من الواقع الاقتصادي المُزري وهي حالنا جميعاً، لكّن موقفه كان صادِماً حين قال “وما ذنبنا نحن لنتحمّل العقوبات الأميركية بسبب سلاح المقاومة؟ فليسلّموا السلاح ولنَعِش بسلامٍ وآمان، فليس بيننا وبين “إسرائيل” أيّة مشكلة وليس مسموحاً بعد الآن أن يكون السلاح سبباً لتجويعنا”.
وكان ردّي على إبني إبتسامة وتذكيراً بأنّ رِهاننا هو على أبنائنا الذين يتسلّحون بالوَعي قبل السلاح.
أمّا ونحن نخوض هذه المواجهة منذ أكثر من 100 عام بكل أشكال المقاومة، فإنّ إستمرارنا بها ووصولنا إلى مراحل مُتقدّمة من حيث اَلْكَمّ والنوعية في أدواتها وآليّتها لا يعني أنّنا قد أنجزنا المُهمّة ولن نتعرَّض لإنتكاساتٍ في حال لم نوفّر إضافات كبيرة لساحات المواجهة عبر تحديد دقيق لطبيعة المعارك وحاجاتها.
أمّا بالنسبة إلى الموقف الأول فهو الآن كما منذ بدء الحرب على سوريا يعتمد على عشرات الفضائيات التي تبثّ السموم والأكاذيب والأضاليل، ومئات المواقع الإلكترونية ناهيك عن العديد من غُرَف العمليات التي تُدير الحرب الإعلامية والنفسية.
وبالنسبة إلى الموقف الثاني فهو أبلغ تعبير عن حال الإنقسام التي نعيشها وهو انقسام عامودي بات واضحاً وبيّناً لا لبس فيه، فمنّا مَن لا يزال مع فلسطين ويعتبرها قضيّته المركزية، ومنّا مَن يعتبر الكيان الصهيوني أمراً واقعاً لا بدّ من التعايُش معه، لا بل هناك مَن بدأ بالترويج أنّ الأصل هو “إسرائيل” وأنّ فلسطين هي كذبة نلوكها ولا أساس لها من الصحة.
وفي الموقفين هناك حقيقة لا نستطيع تجاهُلها أو القفز عنها أنّ العدّو قد استطاع أن يُحدِث في شعوبنا شَرْخاً وإنقساماً، هو على المستوى الموضعي إيجابيٌ لأنه أحدث فَرْزاً وحَسَم التموضعات، ولكنه على المستوى الإستراتيجي كارثة نعيشها، نقلت المعركة إلى جبهاتنا الداخلية فكرياً وعسكرياً بعد أن كانت حتى أواخر التسعينيات خطوط تماس حدودية مع الكيان الصهيوني في لبنان وسوريا بشكلٍ أساسي، وكانت كذلك حتى أواخر الثمانينيات على الجبهة المصرية.
وفي سَرْدٍ ثالثٍ تعود بي الذاكِرة إلى مثل هذه الأيام في 27 أيار/مايو من سنة 2000 بعد يومين من تحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة في الجنوب والبقاع الغربي، حيث تمّ تنظيم موكب لغنائم المقاومة انطلقت من البقاع الغربي نحو مدينة بعلبك وسلكت شريطاً كاملاً من القرى ذات الغالبيّة السنيّة على امتداد عشرات الكيلومترات، حيث كان الموكب يتوقّف في كل قرية وبلدة لتقديم التحيّة له من الأهالي على وَقْعِ أغانٍ ثورية أطلقتها مُكبّرات الصوت، وذَبْح خِراف وعِناق للمُجاهدين ورَقصٍ وأهازيج وصوَر للسيّد مرفوعة في الساحات وفي صدور المنازل.
وقتها كنتُ على يقينٍ أنّ المشهد على جماله ووجدانيّته لن يروق للصهاينة ولا للكيانات الوظيفية الأخرى القابعة بين الرمال والنفط، وكان خوفي أكبر أن الإنتقام سيكون بتمزيق هذا المشهد الذي شاهدنا مثله احتفاليّات بالعشرات في أنحاء الوطن العربي والعالم الإسلامي.
بدأ المشهد يتغيّر مع زيارة كولن باول للرئيسين بشّار الأسد وإميل لحود بعد شهرٍ من احتلال القوات الأميركية للعاصمة العراقية بغداد. هذه الزيارة التي كانت مليئة بالإملاءات والتي يمكن إختصارها بضرورة نَشْر الجيش اللبناني في الجنوب وإنهاء نشاط حزب الله ووقف سوريا لدعمها الحزب والفصائل الفلسطينية، وقطع العلاقة مع إيران مقابل الاستقرار، وهو ما رفضه الرئيسان الأسد وإميل لحود لنكون بعدها مباشرة أمام إقرار الكونغرس الأميركي قانون محاسبة سوريا بتاريخ 12 كانون الأول/ ديسمبر 2003، والذي ينصّ على محاسبة سوريا وسَحْب قواتها من لبنان والحفاظ على سيادة لبنان.
ترافق القانون مع حملةٍ إعلاميةٍ غير مسبوقة لشَيْطَنة سوريا والحزب انتهت بإصدار القرار 1559 في 2 أيلول/ سبتمبر سنة 2004 الذي يدعو صراحة إلى سَحْبِ الجيش العربي السوري من لبنان ونزع سلاح المقاومتين اللبنانية والفلسطينية تحت عنوان حل الميليشيات ونزع سلاحها.
التحوّل الأخطر كان بعد إغتيال رئيس حكومة لبنان السابق رفيق الحريري حيث تفجّر الوضع بأبعادٍ مختلفةٍ، وتمزّق المشهد الجميل للإحتفاليات التي واكبت مواكب المقاومين وحلّت مكانه مشاعر مذهبية مقيتة واتهامات لسوريا والمقاومة لتبدأ مرحلة من الشَرْخِ والإنقسام خاضت فيها المقاومة المواجهة سنة 2006 في أجواء من العداء الخليجي والداخلي في لبنان، ومن ثم حصل الأمر نفسه مع بدء الحرب على سوريا، وما تمزيق صوَر السيّد في درعا مع بداية الهجمة، رغم أنّ الحزب لم يكن قد أعلن موقفاً بعد، إلاّ مزيداً من الإمعان في تمزيق المشهد الجميل لالتحام اللبنانيين والعرب والمسلمين مع المقاومة بعد التحرير سنة 2000.
المسألة الأخطر أنّ فصلاً عن تاريخنا وطًمْساً لذاكِرتنا بدأت فصولها تظهر تباعاً بعد التحرير الذي كان الإرغام الأول لجيش الاحتلال على مغادرة أرضٍ احتلّها، وكَسْراً لهيبة الجيش الذي لا يُقهَر.
أما ونحن نعيش مرحلة مُتقدمّة جدّاً من مراحل الهجمة بدأت بالأدوات العسكرية مُتزامِنة بحربٍ إعلاميةٍ ونفسيةٍ ضروسٍ، وحصار شديد وعقوبات غير مسبوقة، علينا أن نستعدّ في الأيام والشهور القادمة لخوض جولة سيعتمد فيها عدوّنا على مزيدٍ من الضغوط الاقتصادية ومزيدٍ من الحملات الإعلامية يجب مواجهتها وكَسْرها لأنها هذه المرّة تختلف في شراسِتها عن المعارك السابقة، ما يعني ان تحصين الأمن السياسي والإقتصادي هو ضرورة يجب أن تأخذ بعين الإعتبار الطُرُق والأساليب غير التقليدية وإبداعية، محورها الأساس إيجاد حلول مالية واقتصادية تحافظ على الناس الذين شكلّوا خميرة الصمود والإنتصارات حتى لا تتحوّل إنجازاتنا إلى رُكامٍ وأطلال.
ومَن يستسهل المعركة القادمة عليه أن يراها في أبعادها الإستراتيجية وهدفها خلق أجيال بلا انتماء عبّر عنها ما أوردته في الموقف الثاني من خلال ما أبلغني إيّاه إبني عمّا حصل معه، والأمثلة أمامنا كثيرة من الإعلام الخليجي إلى مسلسل “أمّ هارون” وكل دُعاة التطبيع في كل أقطارنا سواء سرّاً أو عَلَناً. وحتى لا يُفْهَم توصيفي إحباطاً أؤكّد أن هذه المُقاربة في إضاءتها على الموقف تهدف إلى ضرورة الإستعداد للمواجهة وليس الإستسلام لمصاعب وضغوط المرحلة.