هل من ضوابط لحرب باردة تلوح في الأفق؟
نضال بركات | كاتب وباحث سياسي سوري
انعقد مؤتمر موسكو التاسع للأمن الدولي في ظل ظروف امنية دولية متوترة تسببت بها الولايات المتحدة لفرض رؤيتها على العالم بأسره ، لتعود بنا بالذاكرة الى أجواء الحرب الباردة التي كانت سائدة خلال الفترة ما قبل انهيار الإتحاد السوفيتي ……
إن هذا المؤتمر الذي شارك فيه أكثر من ستمئة ضيف يمثلون أكثر من مئة دولة وبينهم وزراء دفاع أو نوابهم وقادة جيوش ، لم يكن كما في المؤتمرات السابقة منذ انطلاقتها عام 2012 ولم يقتصر أيضا على نظريات و خطابات بل أسس لمرحلة جديدة واعدة للتعاون العسكري ، وشكل أيضا لحظة الإنقلاب الحاسم في ميزان القوى من خلال اقرار مفاهيم جديده للمذهب العسكري لروسيا الاتحادية وضرورة تعزيز التحالفات الجديدة المناهضة للهيمنة الغربية ومواجهة الناتو ، عبر تحالفات جديدة مثلما كانت سابقا عبر حلف وارسو ، وهذا ما تخشاه واشنطن ليزيد قلقها بعد تعزيز التحالف العسكري الروسي الصيني خلال المؤتمر التاسع للأمن الدولي وما تم التوافق عليه في المؤتمر السابع عام 2018 ، وهذا التحالف فرصة لموسكو وبكين لمواجهة التصعيد الغربي ضدهما وفق ما جاء في بيان قمة مجموعة السبع وفي قمة الناتو…
ان التحالف الجديد كان محور النقاش في مؤتمر موسكو واعتبر وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن الوضع في أوربا قابل للإنفجار وبالتالي يجب اتخاذ إجراءات لتخفيف التوتر كما اعتبر أن زيادة الإنفاق العسكري يعكس تصاعد النزعة العسكرية في أوربا محذرا من سباق تسلح متصاعد ، أما وزير الدفاع الصيني واي فين جي فقد اتهم واشنطن بفرض سياسة الاحتواء والهيمنة ومفاهيم من جانب واحد واعتبر أن العالم ليس آمنا وأن البيئة الأمنية الدولية غير سليمة وأن النزاعات الإقليمية تزداد…..
الوزيران الروسي والصيني أكدا أن الولايات المتحدة هي من تتسبب في النزاعات والتوترات الأمنية في العالم ، وهذا ما يشير إلى التفاهم والتحالف بين الدولتين ، ليزيد ذلك من قلق واشنطن وينعكس ذلك على حلفائها في العالم خاصة من خلال تحركات الناتو بأسلوب يعيد أجواء الحرب الباردة كتحركاته في أوربا الشرقية وفي البحر الأسود والحادث الاخير للمدمرة البريطانية ديفندر واختراقها الحدود البحرية الروسية قبالة جزيرة القرم الذي أكّد النيات المبيتة للناتو ضد روسيا ، لكن موسكو سارعت للرد واتهم نائب وزير الخارجية الروسية سيرغي ريابكوف بريطانيا والولايات المتحدة بمحاولة إثارة صراع في البحر الأسود وقال إن بلاده ستدافع عن حدودها بكل الوسائل الممكنة بما في ذلك العسكرية ….
حاول الرئيس بوتين تخفيف هذا التوتّر عبر دعوته لتجديد الشراكة مع اوربا لكن الاوربيين هم من رفضوا وكان واضحا من خلال تصريح للمستشارة الألمانية انجيلا ميركل التي قالت إن قادة الإتحاد الأوربي رفضوا لقاء قمة مع الرئيس بوتين ما يثبت الضغوط الامريكية على أوربا لمنع اي تفاهم مع روسيا ، وهذا ما يشير الى فقدان الثقة الروسية بأوربا وفق ما أكده الرئيس بوتين خاصة عندما قال ان تمدد الناتو شرقا أفقد موسكو الثقة بأوربا ، وهذا دليل على أن غياب الإرادة السياسية الحقيقية سيبقي على شبح حرب باردة وسباق تسلح جديد بالرغم من دروس الماضي السيئة…
إن كل هذه الأجواء الأمنية المتوترة وفقدان الثقة تؤكد بأن الحرب الباردة عادت رغم المخاطر التي تسببت بها الولايات المتحدة في العديد من دول العالم نتيجة تفردها بالزعامة العالمية وفرض هيمنتها لأكثر من عقدين من الزمن , لكن هذا الوضع لم يعد موجودا بعد عودة روسيا بقوة الى الساحة الدولية بزعامة الرئيس فلاديمير بوتين وأيضا الصين التي باتت تزاحم هيمنة الولايات المتحدة كأكبر قوة اقتصادية على العالم لتنتقل المواجهة الى العلن ما بين الغرب بزعامة الولايات المتحدة من جهة وروسيا والصين من جهة ثانية ،تبين ذلك خلال الأشهر الستة الأولى من رئاسة جو بايدن للولايات المتحدة ليتوج ذلك في جولته الأوربية خلال قمة السبع في بريطانيا وقمة الناتو في بروكسل إضافة الى القمم الثنائية مع عدد مع قادة الناتو التي فرض عليهم الرؤية الأمريكية لمواجهة الصين وروسيا ، وهذا ما تحدث عنه الأستاذ بمعهد العلاقات الدولية بجامعة الصين للشؤون الخارجية، لي هايدونغ، من أن جولة بايدن الأوروبية هدفها تعزيز موقف الدول الغربية المعارض للصين ولم تضطر بكين إلى الانتظار طويلاً لتتأكد مخاوفها ، وبالتالي أظهرت قمتا مجموعة السبع وحلف الناتو المخاوف المتزايدة لدى الدول الغربية من رسوخ مكانة الصين العالمي ليزيد ذلك من قلق بايدن الذي لم يستطع فرض رؤيته على الرئيس بوتين المعروف عنه بأنه زعيم قوي ويعرف جيدا كيف يواجه المخاطر ، ورغم الأجواء الهادئة بعد نهاية القمة ، الا ان ما رشح عنها لم يكن كما أراد الرئيس بايدن الذي حاول دق أسفين ما بين روسيا والصين وفق ما أشار إليه الباحث في معهد دراسات روسيا وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى في أكاديمية العلوم الاجتماعية في جمهورية الصين الشعبية، يانغ جين، من خلال سعي بايدن إلى تخفيف التوترات مع روسيا ومحاولة إقناع موسكو بالوقوف ضد بكين. بينما الباحث في جامعة تشينغهوا، وو داهوي، شدد على أن لقاء زعيمي روسيا والولايات المتحدة لا يمكن أن يضر بمصالح الصين. فمن المهم، بحسبه، أن موسكو، حتى لو أثارت الولايات المتحدة معها خلال محادثات جنيف قضية الصين، فهي ستناقش بعد القمة مع بكين هذا الأمر. خاصة وأن هناك اقتراحات تم تداولها في وقت سابق عن اجتماع بين بوتين وشي جين بينغ قد يعقد في النصف الأول من تموز المقبل يلاحظون في الصين أن الولايات المتحدة ليس لديها ما تقدمه لروسيا لإقناع موسكو بالتخلي عن العلاقات مع بكين.
كان الاجتماع بين بوتين وبايدن، وفقا لأحد الآراء، نتيجة لتعب الولايات المتحدة من الصراع مع روسيا والصين في وقت واحد، ومع ذلك، يلاحظ حاليا أن بكين واثقة من أن روسيا لن تقدم على التقارب مع الولايات المتحدة في هذه المرحلة وبالفعل هذا هو واقع الحال بالنسبة للعلاقات الصينية الروسية وتحالفهما في وجه الغطرسة الغربية بزعامة الولايات المتحدة في مؤشر جديد على عودة حرب باردة أصعب من سابقتها التي كانت في ثمانينات القرن الماضي والتي كان فيها قواعد اشتباك واضحة، أما اليوم فإن الصراع بلا قواعد وهذا هو الأخطر، وبالتالي فإن التحرك والضغط الأمريكي على الحلفاء قد يزيد من مخاطر المواجهة مع روسيا والصين اللتين تستعدان لجميع أشكال المواجهة …فهل تستطيع الولايات المتحدة إخضاع الحليفين الروسي والصيني معاً ؟
يبدو أن الولايات المتحدة تتصرف حاليا وفق ما كانت تقوم به عبر سيطرتها على القرار العالمي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي قبل ثلاثة عقود وحتى الآن ، لكن ذلك لم يعد ممكنا بعد عودة روسيا وكسر الأحادية القطبية الأمريكية ومزاحمة الصين للولايات المتحدة على الزعامة الاقتصادية العالمية ، ما يؤشر إلى مرحلة جديدة تزيد من قلق أمريكا واحتمال خسارتها في أي مواجهة مع روسيا والصين وفق ما تحدثت عنه مؤسسة راند وثيقة الصلة بالبنتاغون ، وأكّدت دراسة أخرى صادرة عن “هيئة الدفاع القومي الاستراتيجي”، أجريت لصالح وزارة الدفاع الأميركية، ونشرت في تشرين الثاني 2018، احتمال “هزيمة الولايات المتحدة في حال اضطرَّت إلى خوض حرب طارئة ضد روسيا في منطقة البلطيق أو ضد الصين في حرب على (جزيرة) تايوان”، وأشارت إلى أنَّ الأميركيين قد “يواجهون هزيمة عسكرية ماحقة، بموازاة ذلك، حذر مدير أبحاث الأمن العالمي في “مختبر لورانس ليفرمور الوطني، التابع لوزارة الطاقة الأميركية، صنّاع القرار، من أنَّ مسألة هزيمة الولايات المتحدة أضحت احتمالاً مقبولاً في مواجهة مع روسيا أو الصين.
إن هذه التوترات مهما كانت مرتفعة لن تصل إلى حد المواجهة العسكرية لأنها ليست في مصلحة أي من القوى الكبرى ، لكنها قد تأخذ منحى آخر لتفاهمات ثنائية تخفف هذه التوترات ، وهذا ما شددت عليه موسكو وبكين في إطار القانون الدولي حيث طرحت جميع التوترات والنزاعات في العالم بأسره واجواء الحرب الباردة في مؤتمر موسكو للامن وكانت محور نقاش ما بين المشاركين في المؤتمر الذين شددوا على ضرورة الحلول السلمية لجميع هذه المشاكل ، لكن ما كان واضحا من خلال أجواء المؤتمر والتحالفات الثنائية يشير الى حقيقة واحدة وهي أن الأجواء تؤكد ضرورة تأسيس حلف شبيه بحلف وارسو الذي تفكك مع انهيار الاتحاد السوفيتي لمواجهة حلف الناتو الذي يهدد روسيا والصين ….فهل نشهد تأسيس هذا الحلف قريبا ؟ …