هل تقرأون ما يكتبون؟
بثينة شعبان | المستشارة في الرئاسة السورية
بعد مغادرته منصبه كمبعوث أميركي إلى سوريا أتحفنا جيمس جيفري بمقابلات وتصريحات ومقالات كان أهمها ربما المقال الذي نشره في مجلة “الشؤون الخارجية” (فورين أفيرز) بتاريخ 15 كانون الثاني/يناير9 2021 وبعنوان: “لا يحتاج بايدن إلى سياسة شرق أوسطية: إدارة ترامب وضعت المنطقة على السكة”.
ولا شك أن هذا العنوان مؤشر هام للقراء عن توجهات نقاش جيمس جيفري وآرائه في المنطقة، وما حلّ بها من كوارث إنسانية بسبب سياسات حكومته الإجرامية من الإرهاب والحصار والعقوبات.
واللافت في المقال أمران: اللغة المضلّلة والتي تحتاج إلى ترجمة، حتى باللغة الإنكليزية، لتصل إلى المعنى الحقيقي المقصود والذي تحاول الألفاظ التعمية عليه، والمضمون الذي تجاوزه الزمن والذي لفظته الأحداث وكشفت زيفه.
يقول جيفري: “إن هدف سياسة الولايات المتحدة في إدارة ترامب كان احتواء إيران وروسيا والتخّلص من الحروب الصغيرة في العراق وسوريا وتسليم المهمة لعملائنا في البلدين، ولكن بعض مستشاريه رغبوا أن تبقى الولايات المتحدة منخرطة في سوريا والعراق لاحتواء إيران”.
كما يؤكد جيفري: “أن ترامب دعم إسرائيل وتركيا في سوريا وأن اعتماده الأساسي كان على دول الخليج والأردن والعراق وإسرائيل للوقوف في وجه طهران”، ويعترف بأن “هدف ترامب الأساسي في سوريا كان محاربة الدولة السورية وليس محاربة داعش، ومن أجل إحراز هذه الأهداف فقد تجاهلت إدارة ترامب تصرفات الشركاء المهمين داخل بلادهم، بمن فيهم مصر وتركيا والسعودية رغم مقتل الصحفي جمال خاشقجي. كما كان الدعم العلني لإدارة ترامب لإسرائيل تغييراً حقيقياً في سياسة الولايات المتحدة بالنسبة للجولان والقدس والصحراء الغربية من أجل إنضاج وإخراج اتفاقات إبراهيم المهمة لإسرائيل”.
يقول جيفري: “إن هدف ترامب الأساسي من احتواء إيران هو الحدّ من وجودها في المنطقة لأن ترامب رأى إيران كخطر إقليمي على إسرائيل واعتبر كلّ الملفات الأخرى بما فيها الملف النووي أقلّ أهمية من هذا التمدّد الإيراني في المنطقة المهدّد لإسرائيل. أما بالنسبة لسوريا فقد اعتمدت سياسة ترامب على عاملين: محاولة التخلص من الأسد بواسطة المعارضة المسلحة والإرهاب وتدمير البنى التحتية وفرض الحصار والعقوبات لخنق الاقتصاد، والعامل الثاني التوصل إلى تسوية سياسية من خلال الأمم المتحدة وهذا يعتمد على إخراج إيران من المعادلة السورية والعراقية”.
وطبعاً يصف نهب النفط والقمح والموارد السورية: “بأن إدارة ترامب حرمت الحكومة السورية ومؤيديها من هذه الموارد (لتأليب السكان ضدّ حكومتهم)”، بينما ارتكبت إدارة ترامب سرقة إجرامية موصوفة لموارد الشعب السوري لا تختلف أبداً عن تدميرها لموارد البلاد ومقدراتها.
ولكنّ إحدى الحقائق التي يكشف عنها جيفري في هذا المقال هي: “أن تركيا وقسد والمعارضات الإرهابية المسلحة عملوا يداً بيد مع الولايات المتحدة وإسرائيل في سوريا”؛ أي أن ما يدّعونه من خصومات كردية تركية في شمال شرق سوريا هي خصومات على ما ينهبون، وليس على طريقة وهدف أعمالهم المشينة، كما يكشف أيضاً أن الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا تلقت العون من مصادر الاستخبارات الأميركية، وأن كل ما ينال الشعب السوري من عدوان وقتل وإرهاب وإفقار وسرقة موارد وحرمان من الوقود والغذاء والدواء كان منسّقاً بين إدارة ترامب وإسرائيل وتركيا ومن يسمون أنفسهم معارضات داخل أو خارج البلد مسلحة كانت أو غير مسلحة.
أي أن الهدف من كل ما قام به الأعداء هو النيل من الدولة السورية وإضعافها ومصادرة قرارها المستقل، وأن حرب الاستنزاف هذه ستستمر لأنها الوحيدة التي كانت ناجعة ضد السوفييت في أفغانستان، وأن قتل قاسم سليماني في العراق كان انتقاماً من القوى العراقية التي تؤيد طهران وتقف موقف العداء من الولايات المتحدة.
ما يستنتجه القارئ من حصيلة كتابة وتصريحات جيمس جيفري هو ذاته الذي نشره مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي منذ سنتين وهو أن الحرب على سوريا قد أنتجت محوراً مقاوماً من إيران والعراق وسوريا وحزب الله، وأن الأولوية الأولى يجب أن تنصّب على ضرب وتفكيك هذا المحور الذي يعتبر تهديداً وجودياً لـ “إسرائيل” في الدرجة الأولى. وفي نظرة متأنية لكلّ ما تقدّم ليس من الصعب أن نتساءل عن الذين يناصبون العداء لإيران في العراق وسوريا ولبنان وعن أهدافهم التي يرجون تحقيقها؛ إذ من الواضح أنها أهداف تصبّ في مصلحة من يستهدفنا جميعاً في هذه المنطقة.
وليس من الصعب أن نعيد قراءة مطالبات تحت عناوين إثنية أو عرقية، إذ أن الاسم الوحيد الذي يطلقه جيفري على هؤلاء بمن فيهم المعارضات المسلحة والتابعة لتركيا أو الخليج يسميهم: “عملاءنا في المنطقة” والذين يكملون الدور الذي نقوم به هناك.
منذ زمن وأنا أدعو أن نقرأ ما يكتبون وأن نقارع أفكارهم وخططهم حيثما أمكن ذلك، ولكن وللأسف فإننا نغفل ما يكشفون عن أنفسهم ونجد أنفسنا في خضمّ مواجهة مخططاتهم ولا نتعب من أن نقول إننا فوجئنا أو أُخذنا على حين غرّة، بينما لو كنا نتابع ما يكتبون وما ينشرون لتمكنّا من استقراء جزءٍ من الأحداث التي تمّ تدبيرها لنا، ولاتّخذنا ربما بعض الإجراءات التي تخفف من آثار جرائمهم المرتبكة بحقنا.
فمع أن الناس بُهتت بأحداث ما أسموه بـ “الربيع العربي” من تونس إلى مصر وليبيا وسوريا، فقد كتبتُ أكثر من مرة أن الأبحاث التي أجروها عن المنطقة في العام 1997 والتي خلصت إلى ورقة هامة جداً بعنوان: “الاختراق النظيف؛ الاستراتيجية الجديدة للسيطرة على المكان” تصف بالتفصيل الأدوات والآليات التي تمّ اعتمادها في أحداث الربيع العربي وفي كافة الدول العربية، ولكننا ربما لم نقرأ، وإذا قرأنا لم نتخذ الخطوات الواقية من المخططات التي يرسمونها والآليات التي يحددونها لإنجاز أهدافهم في المنطقة.
صحيح أن الإعلام الغربي خاضع لشركات كبرى يملكها الصهاينة ولكن وفي عصر الإعلام المجازي ووسائل التواصل الاجتماعي هناك إمكانات متاحة لإسماع صوتنا ولوضع وجهة نظرنا ولتكذيب أقاويلهم وفرض رؤيتنا نحن.
والمهم في هذا الصدد هو رصد الداخل وليس رصد الخارج فقط، لأن خططهم وسيناريواتهم تعتمد على عملائهم وأدواتهم داخل البلدان وليس فقط على بضعة آلاف من الجنود يرسلونها هنا وهناك.
وفي هذا الصدد لابدّ من الحزم في التعامل مع الطروحات التي تصبّ في مصلحة الأعداء وعدم التسامح بالتشكيك بالأصدقاء والحلفاء أو تناولهم لأن الجبهة واحدة والمعركة واحدة، ومن الواضح من كلّ ما أدلى به جيمس جيفري ورايبورن وكل الذين تُوكل إليهم ملفات هذه المنطقة، أن تخطيطهم وتفكيرهم يشمل كل الحلفاء، لا فرق لديهم بين من يقاومهم في بغداد أو طهران أو دمشق أو بيروت، وهم يتجاهلون كل المسائل الصغرى في سبيل النيل من هذا التعاضد والتحالف الذي يرون فيه خطراً كبيراً على مصالحهم في المنطقة وخاصة على الكيان الغاصب التابع لهم.
وقبل مغادرة ترامب وضع “إسرائيل” عضواً في القوات المشتركة المسؤولة عن منطقة الشرق الأوسط، وهذا ينبئ بتحالفات مستقبلية أقوى بينها وبين تركيا وقسد في سوريا، وبين كل القوى المناهضة لمحور المقاومة في إيران والعراق وسوريا ولبنان.
يكشف ما قرأناه وفنّدناه كنموذج فقط عمّا يقومون به أن التصويب داخل بلداننا على شخصيات وطنية وعلى مسارات مقاومة من قبل بعض التجمعات ليس عفوياً ولا اعتباطياً، ولكنه يندرج ضمن خطة خدمة الأعداء وإلحاق الأذى ببلداننا وأصدقائنا وحلفائنا.
لم تعد المعركة اليوم فقط على الحدود، بل أصبحت داخل بلدنا وفي كل مؤسسة واختصاص وفي كل مفصل من مفاصل الفكر والعمل والتقييم، وعبر التاريخ كان أعداء الداخل والخونة والمخترقون أشدّ خطورة على القضايا والأهداف الوطنية من أعداء الخارج.
الميادين نت