هـل ربـح جـعـجـع شـعـبـيـاً مـن أحـداث الـطـيـونـة؟
غسان سعود | كاتب واعلامي لبناني
غير صحيح أن المسيحيين في لبنان يمثّلون حالة انفعالية وغير عقلانية، تندفع بحماسة نحو المجهول.
وهم لا يُظهرون، أقله منذ عام 1990، واحداً في المئة من هذا السلوك الأحمق، على الرغم من كل التعبئة والإعلام الموجَّهَين منذ عام 2005.
جـعجـع أنـهـى نـفسـه بـنـفسه
في السياسة، هناك دائماً انعكاسان لكل حدث: الأول فوريّ وعاطفيّ وانفعاليّ، والثاني بعيد الأمد وهادئ وعقلانيّ.
مَن انشغلوا في القول، في الأيام القليلة الماضية، إن أحداث الطيونة وما تلاها من مواقف أدّت جميعها إلى تكريس زعامة رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع.
هم أنفسهم مَن كانوا يقولون، في مثل هذه الأيام التشرينية قبل عامين، إن التيار الوطني الحرّ انتهى وما على رئيسه النائب جبران باسيل سوى الفرار من دون أوراق ثبوتية، براً أو بحراً أو جواً، إلى جزيرة مهجورة لا يعرفه فيها أحد.
ليتبيّن بعيد تشكيل الحكومة الأخيرة أن باسيل ما زال يحصل على شروطه الحكومية كاملة، بينما الرئيس سعد الحريري يسوح بين الجُزُر.
أمّا “ثوار 17 تشرين” فيستمتعون برفاهية الإقامة الذهبية بمنتجعات دبي وأبو ظبي بعيداً عن لبنان ومتاعبه.
وحتى التغريدة باتوا يستصعبونها، مع التأكيد دائماً أن هناك في البيئة المستهدَفة مَن ينهزمون نفسياً، وينساقون مع دعاية الخصم، بل يلاقونها في منتصف الطريق، ويُثْنون عليها، ويساعدون على انتشارها.
وبين هؤلاء مَن يجدون الماكينة الإعلامية المناوئة لهم، عَبْر تلفزيوناتها الثلاثة، تعرض تقريراً أو خبراً أو إحصاءً، لا يهدف في النهاية إلاّ إلى الإيقاع بينهم وبين حليفهم، أو تقليبهم عليه، أو إقناعهم بتضرُّرهم منه.
فإذ بهم يُجارون هذه الماكينة بدلاً من أن يستنفروا من أجل دحض كل ما يصدر عنها، والتدقيق في خلفيّاته، لأن كل ما يصدر عنها من دون استثناء (بما في ذلك نشرة الطقس وبرامج الطبخ والبرامج الفنية) مُعَدّ بذكاء، وعن سابق تصوُّر وتصميم، للنيل منهم.
مع العلم بأن العودة إلى 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 تبيّن أن كثيرين من العونيين (الذين يتعاملون اليوم مع الأحداث الأخيرة باعتبارها تخدم جعجع) خُطِفت أنفاسهم أيضاً في 17 تشرين الأول/أكتوبر، وغابوا عن الوعي، وانكفَأُوا إلى النحيب بدلاً من المواجهة.
بعكس رئيس تيارهم الذي كان واضحاً في خطابه الأخير، وأكد أنه في مكان، بينما انهزامية المناصرين في مكان آخر.
علماً بأن كثيرين من التّياريّين يُصرون على خوض الحروب الافتراضية من دون أن يُزعجوا خاطرهم في قراءة بيانات التيار الرسمية الأسبوعية ليَبنوا على الشيء مقتضاه.
أو أقله سماع خطاب رئيس تيارهم بدقة من أجل تحديد المكان الذي يقفون فيه.
المؤكَّد في هذا السياق، أن الحُكم السريع على أيّ حدث في لحظة وقوعه، بناءً على ردود الفعل العاطفية والانفعالية المتسرّعة، ومن دون إحاطة الحكم بمجموعة كبيرة من الاعتبارات، لا يمكن أن يوصل أبداً إلى تقييم جِدّي أو صائب أو دقيق.
ولا بدّ، في هذا السياق، من الانتقال في تقييم ما يحدث مسيحياً من المدى القريب الفوري والعاطفي والانفعالي، إلى المدى البعيد، مروراً بأربع نقاط أساسية:
أولاً، مَن يفترض أن سمير جعجع ربح أكثرية مسيحية شعبية من الأحداث الأخيرة وما تلاها، فإنّما يفترض أن أكثرية المسيحيين تؤمن بوجوب الردّ على التظاهر والشعارات المستفزة وأعمال الشغب بالقتل.
قتل المتظاهرين وقتل غير المتظاهرين، الذين كانوا ينتظرون عودة أبنائهم من المدرسة، أو ينظّمون السير، أو غيره ذلك. وهذا غير صحيح طبعاً.
يفترض هؤلاء أن المسيحيين، في أغلبيتهم، إنّما هم انتحاريون يؤيدون السياسي الذي يأخذ مجتمعه من حرب خاسرة إلى أخرى.
لكنّ أي شخص يعرف المجتمع المسيحي جيداً، يعلم بأن ما سبق غير صحيح، من قريب أو بعيد.
غير صحيح أن المسيحيين يمثّلون حالة انفعالية غرائزية وغير عقلانية، تندفع بحماسة نحو المجهول.
وهم لا يُظهرون، أقله منذ عام 1990، واحداً في المئة من هذا السلوك الأحمق، على الرغم من كل التعبئة والإعلام الموجَّهَين منذ عام 2005.
بحيث بقيت مقاربتهم هادئة وعقلانية جداً على الرغم من كل التحريض.
ويمكن القول بثقة، في هذا السياق، إن عموم المسيحيين عقلانيون جداً، والمسيحي لا يسير أبداً “على العمياني” خلف أحد، وخصوصاً إذا كان هذا الأحد عاجزاً عن تقديم معطيات تُقنع عقل المسيحي، لا غريزته أو عاطفته، بأنه قادر على الانتصار أو تحقيق هدفه.
ويكفي، في هذا السياق، رصد المشاركة الخجولة جداً، حتى من أنصار حزبَي الكتائب والقوات اللبنانية، في جميع الاحتجاجات منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، لمجرد أن أغلبية أنصار هذين الحزبين لم تشعر بأن قطع الطرقات أو الاحتجاجات المتفرّقة يمكن أن تحقّق الأهداف المرجوّة.
والدليل أن حزب الكتائب، الذي يتجاوز عديد قاعدته عشرة آلاف، أقله في المتن الشمالي، لم يحشد في أكبر الاحتجاجات في المتن أكثر من ألف مؤيد.
وعليه، فإن مؤيد الكتائب ـ كما مؤيد القوات ـ لم يكبّد نفسه عناءَ النزول إلى تظاهرة تحت منزله في جل الديب أو أنطلياس، بسبب عدم اقتناعه بأنها ستغيّر شيئاً.
فكيف حاله مع حرب أهلية، أو اشتباك، أو غيره.
والفارق هنا هائل بين مسيحيّ يسعد بـ”فشّة خُلق” يدوم مفعولها بضع ساعات، ومسيحي يغامر بتعريض منطقته ومنزله ومتجره وأولاده ومدرسته وجامعته لخطر الحرب التدميرية.
هذا “المسيحي” الأخير ليس موجوداً إلا كقلّة قليلة جداً. وإذا خُيِّرَت الأكثرية، بالتالي، بين مشهد مار مخايل ومشهد الطيونة، فإن الانحياز المسيحيّ مطلَق إلى التفاهم والتقارب والانفتاح.
وإذا كان بعض الشبّان يحبّ العنتريات، فإن العنتريات جميلة جداً في تويتر، عبر أسماء وهمية، أو من بعيد لبعيد، أو في مخيّم ترفيهي مع الصديقات والأصدقاء ليومين أو ثلاثة، يتخلّلها بعض القفز على “التريمبولين” أو “تيريوليان” من شجرة صنوبر إلى أخرى.
أمّا عنتريات الحرب فشيء آخر مُغاير، ولّت موضته إلى غير رجعة من بيوت المسيحيين، بحيث يكاد لا يوجد واحدٌ من هذه البيوت إلاّ ودفع ثمناً باهظاً جداً من اللحم الحيّ في الحروب السابقة، من دون أن يتمكّن من تعزية نفسه بأن هذه الأثمان الباهظة لم تذهب هدراً.
هذا المجتمع أُخذ إلى حروب كثيرة، بعناوين كثيرة أيضاً، لم يرَ في نتيجتها النهائية إلاّ قَصْراً إمبراطورياً في معراب، مُحاطاً بأزلام يُوَزِّعون بكل عنجهية فُتاتَ الفُتات هنا وهناك.
علماً بأنه كان هناك في السابق ما يُوصَف بالقضية. أمّا اليومَ، فالحزبيّ قبل المستقل، وقبل الحزبيّ المنافس، يعلم بأنها مجرد تجارة مالية تُقايض دماءَ الشبّان بحقائب المال.
وعليه: هل توجد أكثرية مسيحية تؤيّد الخيارات الانتحارية التي يمكن لسمير جعجع أن يذهب في اتجاهها؟ طبعاً لا، وأبداً.
وحين تهدأ حفلة الجنون التي لا تستمرّ عادة أكثر من أسبوع، سيتبيّن لأيُّ متابع أن مَن يؤيّدون “الهَبَل” عند المسيحيين ما هم إلاّ أقليةُ الأقلية.
ثانياً، عملياً، كان التيار الوطني الحر يحاول، منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر، القول بجميع الوسائل إن مَن يقطعون الطرقات هُم من القوات اللبنانية.
نتيجة معرفته الأكيدة أن المعركة مع المجتمع المدني بالمفرق صعبة واستنزافية، بينما المعركة مع القوات سهلة وواضحة، لأنها تسمح بالعودة إلى المربَّع الأول لناحية الفرز التاريخي:
قوات و”ضد قوات” ورماديين، يمكن أن يؤيدوا في ظروف معينة نعمة افرام، أو ميشال معوض، أو بولا يعقوبيان، أو غيرهم، لكن لا يمكن أن يؤيّدوا القوات.
وعليه، لا يمكن هنا أن نفهم كيف أن توحيد هؤلاء خلف جعجع بسحر الطيونة الساحر يمكن أن يخدم القوات ويضرّ التيار الوطني الحر!
العكس تماماً، فمَن لم يحبَّ جعجع أو يقتنع به حين كان يدّعي الدفاع عن المسيحيين في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، لن يحبّه اليوم، ولن يحبه غداً أو بعده.
وسَحبُ بساط اللوائح الانتخابية من تحت المجتمع المدني وإعطاؤه لجعجع يُفيدان التيار، لا العكس، لأن المواجهة مع جعجع أفضل انتخابياً للتيار من المواجهة مع المجتمع المدنيّ.
ثالثاً، حتى ساعات قليلة قبيل أحداث الطيونة، كانت المعركة الحقيقية على استقطاب المموِّلين تحتدم بين مجموعات داخل المجتمع المدني.
مع تقدُّم كبير لثلاثي ميشال معوض – نعمة افرام – حزب الكتائب، على حساب سائر المجموعات التي تلقَّت صفعة كبيرة من بعض المموّلين، الذين دعوها إلى التواضع والتفاهم مع معوض – افرام – الكتائب، الذين اعتقدوا أنهم ربحوا المعركة،
وإذ بجعجع يدخل بقوة على خط مزاحمتهم، لتحتدم المعركة بين معوض – افرام – الكتائب مع المجموعات من جهة، ومع جعجع من جهة أخرى.
وهي معركة ستكون لها تداعياتها الانتخابية الكبيرة، علماً بأن تصريحات معوض وافرام والكتائب الأخيرة، بعد أحداث الطيونة، عبَّرت عن هذه الخشية الكبيرة والخوف على التمويل.
فجعجع لا يمكنه سَحب مؤيد واحد للتيار الوطني الحر، لكنه قادر على سحب مؤيدي هؤلاء ومموِّليهم، وهو ما يبشّر بمعركة مميزة داخل البيت الواحد.
مع التذكير الدائم بأن معركة العونيين مع جعجع أسهل وأفضل، بالنسبة إليهم، من المعركة مع هؤلاء، أو معهم ومع جعجع في الوقت نفسه.
أن يكون في مواجهة العونيين قائدٌ واحدٌ اسمه سمير جعجع، هو السيناريو المثالي بالنسبة إلى العونيين.
وهذا لا علاقة له بالمشاعر والعواطف والتحليل والتخيُّل، وإنما بالأرقام والوقائع على الأرض.
رابعاً، خلال خمسة عشر عاماً، فعل جعجع المستحيل، سياسياً وإعلامياً وقضائياً، من أجل نزع صفة القاتل عنه، ملاحِقاً كلَّ من يذكّره بجرائمه السابقة، بسبب معرفته أن مستقبله السياسي كله رهن إزاحة هذه الصورة.
وهو نجح في ذلك نجاحاً باهراً، وخصوصاً بعد اتفاق معراب وتطويع قضاء المطبوعات.
وفجأة، وفي خطاب واحد، وخلال أقلَّ من ساعتين، حطَّم حزب الله كل هذا الإنجاز القواتيّ، الذي تطلَّب من القوات جهداً هائلاً، فعاد سمير جعجع “القاتل” و”السفاح” إلى ما قبل نقطة الصفر.
في المدى القريب، يمكن لجعجع أن يربح قليلاً، لكنّ الأهم، في كل فعل سياسيّ، هو المدى البعيد.
ما قاله جعجع في أحداث الطيونة أنه مستعدّ لتنفيذ عمليّ على الأرض لأجندة الاستخبارات السعودية أو الإسرائيلية أو الأميركية، ولا شيءَ محظورٌ بالنسبة إليه.
يمكن تظهير تنفيذ الأجندة في سياق بطوليّ مع طَبْل وزَمْر إعلاميَّين، لكنّ المعنيين أخذوا علماً، ولا يمكن لخيار كهذا الخيار إلاّ أن تكون له نتائج كارثية على جعجع في المدى البعيد، مهما تكن أرباحه اليوم أو غداً.
في المدى القريب، يمكن لهواة الاحتفالات أن يحتفلوا. أمّا في المدى البعيد، فلم يعد هناك شيء اسمه سمير جعجع، وهو ما بدا واضحاً من مقابلة جعجع الأخيرة، وظَهَرَ أنه يعرفه جيداً.
لقد أنهى نفسه بنفسه. وإذا كان جعجع قال، في مقابلته الأخيرة، إن المحكمة العسكرية تخصّ حزب الله، فإنه يعلم بأن نفوذ أصدقائه الأميركيين أكبر من نفوذ حزب الله كثيراً، سواء في المؤسسة العسكرية التي تتابع التحقيقات، أو في استخبارات الجيش التي يفترض أن تحقّق معه، أو في المحكمة العسكرية نفسها.
وما كان يمكن أن يصدر القرار باستدعائه من دون “أَبّة باط” من أصدقائه في السفارة، وهو ما يُضاعف قلقه، وخصوصاً أن من يبيع أصدقاءه أول مرة، يمكن أن يبيعهم مرة ثانية وثالثة ورابعة.
ومن المهم الإشارة إلى أن الاستدعاء، بناءً على إفادات الموقوفين، يعني ذهابه إلى تحقيق مجهول بالكامل، بحيث لا يمكن أن يعلم، حتى لحظة وصوله، ما يمكن أن يكون قد تضمَّنته هذه الإفادات.
وهو يعلم، في هذا السياق، بأن ثلاثة أشخاص يواكبون هذا التحقيق عن قرب جداً:
أولاً، قائد الجيش الذي يعلم جيداً من حاول إنقاذ نفسه، عبر توريط الجيش، وتوزيع فيديوهات من شأنها إدخال الجيش في أتون يتحاشاه منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر.
ثانياً، الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله.
ثالثاً، رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
في وقت لا تريد السعودية، بصفتها آخر أصدقاء جعجع، سوى حلّ يحفظ بعض ماء وجهها في اليمن، سواء كان الثمن جعجع، أو جعجع وغيره أيضاً.