لبنان بين حيادين دون حياديين .
أحلام بيضون | أستاذة جامعية وباحثة في القانون الدولي .
ليست المرة الأولى التي ترفع فيها راية الحياد في لبنان، إن هذه الشعارات رافقت لبنان منذ نشوئه القريب، فما هي الأسباب وما هي النتائج؟ وما هو الحياد؟
أسباب شعارات الحياد
تم تركيب لبنان بصورته الجغرافية الراهنة في العام 1920 مع إعلان دولة لبنان الكبير من قبل الجنرال غورو، مقارنة بمتصرفية جبل لبنان. هي الأخرى خلقت عام 1860 بعناية أجنبية متعددة الأطراف. ولكيلا نبخس لبنان حقه، فإن بالإمكان القول أن حدود لبنان الكبير تتطابق إلى حد ما حدود الإمارة اللبنانية، زمن فخر الدين وبشير الثاني، التي سبقت ثورة الفلاحين التي اندلعت عام 1840، بين الأمراء الدروز آن ذاك والفلاحين، بأكثرية مسيحية. هذا ما أورده التاريخ، حيث لم يتم الكلام لا عن سنة ولا عن شيعة إلا عند ذكر ممثل لهم في مجلس المتصرفية، قد يعود السبب إلى قلة عددهم في الجبل، أو إلى عدم اشتراكهم في النزاع، أو ربما لأنه كان لهم شأن آخر، لا يتسع المجال لإثارته الآن. طبعا جرى أول الأمر تقسيم لبنان إلى قائمقاميتين إحداهما درزية والثانية مسيحية، وتضم كل منهما أقليات. لم يستتب الأمر، فقد استمر القتال بعد التقسيم، فعمدت الدول الأجنبية المتدخلة بالتكافل والتضامن على المصالح، إلى خلق المتصرفية المسيحية، بمجلس تمثيلين متعدد الطوائف. وتم نزع باقي المناطق اللبنانية عنها، والتي جرى ضمها إلى الولايات العثمانية، حيث كانت الإمبراطورية العثمانية لا زالت مسيطرة في ذلك الوقت.
إذن أصل النزاع اجتماعي-اقتصادي، ذو صبغة طائفية، بسبب طبيعة الطبقات الاجتماعية في ذلك الوقت. وقد استغلت القوى الأجنبية المتدخلة الوضع كي تكرس الطابع الطائفي. وبطبيعة الحال لم يكن ذلك غريبا تماما عن المركبات اللبنانية، والتي هي بمجملها أقليات، وكانت تستشعر بالخوف تجاه بعضها البعض، وخاصة تجاه السلطة الحاكمة المركزية الإقليمية، والتي كانت دوما سنية. طبعا، كان أكثر المتخوفين هم المسيحيون، لذلك استغلوا فترة إنشاء وتركيب الكيانات خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، لكي يطالبوا بكيان مستقل لهم، أو دولة مستقلة. غير أن المجاعة التي أصابت سكان المتصرفية المحصورة في جبل لبنان، جعلت من المنطقي إلحاق السهول الساحلية والبقاع والشمال والجنوب للجبل. هذا الإلحاق الجغرافي، قلب موازين التركيبة السكانية، وأهواءها، فسكان المناطق المضافة بأغلبية مسلمة، سنة وشيعة، تمسكوا بالاستقلال ضمن دولة عربية كبرى، تمتد من حدود إيران شرقا إلى حدود الأطلسي غربا، بحيث تشمل المشرق والمغرب العربيين، وتعيد للعرب مجدهم الغابر.
أصبح واضحا الآن للقارئ، خاصة الذي يستغرب ما يحصل، أساس مشكلة لبنان التركيبية. خاصة أن لبنان الكبير الجديد، الذي ظهر عام 1920، برَّز لبنان كبلد مسيحي في المقام الأول، أو على الأقل، شعر المسيحيون أنه كان لهم دور في إنشاء هذا البلد، والحقيقة هي بالفعل كذلك، فقد لعب البطاركة الموارنة خصوصا، دورا هاما في إنشاء دولة لبنان. غير أنه سهى عن بالهم هنا، أنه تمَّ ضم سكان من المسلمين لم يؤخذ برأيهم في تقرير المصير، والمتمثل في الاستقلال ضمن دولة عربية كبرى.
إذن المشكلة كانت في التركيبة السكانية، ذات الأهواء السياسية المتناقضة، والتي جاءت الصيغة السياسية الطائفية المتناقضة أيضا لتغذيها، ونقصد هنا تحديدا تكريس كيانات طائفية من جهة، ووضع دستور يكرس تحاصصا طائفيا مؤقتا، بانتظار تعديله إلى دستور علماني يركز على المساواة بين المواطنين.
في النتائج
إذن التركيبة السكانية بداية، وعدم احترام إرادة المكونات في النظام الذي يريدونه، أو بالأحرى إقامة نظام طائفي لا يتساوى فيه المواطنون، أدى إلى خلق ثورات ونزاعات متكررة، تمت تسويتها أول الأمر فيما سمي الميثاق الوطني لعام 1943، وهو عبارة عن اتفاق شفهي بين رئيس الجمهورية الماروني ورئيس الوزراء السني، والذي تمَّ فيه التوافق على اعتراف كل من المسلمين والمسيحيين، بأن لبنان هو وطن نهائي لجميع أبنائه، واعتراف المسيحيين بموجبه بأن لبنان ذو وجه عربي. ويمكن اعتبار ذلك الاتفاق كأول صيغة من صيغ الحياد اللبناني. يجب الملاحظة هنا أنه لم يتم استفتاء الشعب أو أخذ رأيه بذلك الميثاق، ورغم هذه الثغرة الكبيرة، فقد وضع الميثاق حلاًّ مؤقتا للاختلاف على مستوى رجال الحكم، وهو المهم بالنسبة لهم.
أسس اتفاق عام 1943، لنوع من التفاهم بين المكونات الرئيسية في لبنان، لكنه لم يحل دون استجلاب تدخلا أجنبيا، في كل مرة كان يتم فيها رفع أي مطلب سياسي. إذ سرعان ما تتحول المطالب الإصلاحية الدستورية، أو المظالم الاجتماعية والاقتصادية إلى تحالفات خارجية للزعماء السياسيين للطوائف مع قوى أجنبية مختلفة، همُّها الأول حفظ مصالحها. لفهم ذلك، لا بد من التعريج السريع على طبيعة السلطة في لبنان. لقد استلم السلطة في لبنان مجموعة من الإقطاعيين أو العائلات المعروفة، أول الأمر، كما هي الحال في بقية البلدان المقسَّة أو المركَّبة، التي تمَّ إنشاؤها بعناية الدول الكبرى، الغربية بشكل رئيسي. وبدأوا يتوارثون السلطة داخل أفراد العائلة، بنسبة ستة للمسيحيين إلى خمسة للمسلمين، في ظل نظام ديموقراطي شكلي، يتمتع فيه رئيس الجمهورية الماروني بصلاحية واسعة ومسؤولية سلبية.
رغم تكرر الأزمات التي كان أغلبها يتعلق بمواقف من تحالفات إقليمية أو خارجية، تخدم مصالح الغرب أو تخدم مصالح الأنظمة في الإقليم، فإن أكبر الأزمات كانت تلك التي حصلت في السبعينات وأدت إلى الحرب الأهلية التي سميت حرب السنتين 1975-1976. وبتداخل المسائل الإقليمية، خاصة المسألة الفلسطينية، والخارجية، استمرت الحرب، التي اتخذت طابعا طائفيا ثم مذهبيا، حتى العام 1989، الذي شهد في نهايته اتفاق الطائف. بموجب ذلك الاتفاق حصل توافق جديد بين الأطراف اللبنانية المتنازعة، بإشراف إقليمي ودولي، خاصة سعودي وفرنسي، أنتج مناصفة للسلطة بين المسيحيين والمسلمين، ومنح رئيس الوزراء السني صلاحيات أوسع، مكرسا هذه المرة الهوية العربية للبنان. ورغم بعض الثغرات، فإن اتفاق الطائف نصَّ على وجوب إنشاء لجنة لإلغاء النظام الطائفي وإقامة نظام علماني. لم ينفذ القائمون الجدد على السلطة، ومعظمهم ممن قادوا المعارك، ما نص عليه الطائف الذي تم تكريسه كنص دستوري.
بدأت لعبة المصالح بين أركان السلطة، وبدأت تظهر مصطلحات جديدة، من مثل الثلث المعطل، أو المثالثة، أي إدخال الشيعة كسلطة ثالثة إلى جانب المسيحيين والسنة، أو الميثاقية والمقصود النسب الطائفية، أو الوفاق الوطني أو التوافقية، والمقصود الإجماع على أي موضوع يطرح. واستمر الشعب اللبناني يعيش في ظل نتائج الحرب المتمثلة بالحرمان من الخدمات الأساسية، والخدمات العامة كالكهرباء والنقل العام، وإهمال القطاعات الإنتاجية. لقد تمَّ التركيز، خاصة مع عهد الحريري الأب على القطاع المصرفي بقصد جذب رؤوس الأموال من المغتربين اللبنانيين والودائع من دول الخليج، وعلى تخفيض الضرائب عن الشركات الأجنبية، بقصد تشجيعها على الاستثمار في لبنان.
ثلاثون سنة مضت على اتفاق الطائف، ولم يحصل أي تنفيذ جدي لبنوده. الشعب اللبناني المتذمر، كان طيلة الفترة صامتا، ليس لرضاه بذلك إنما لخوفه من أن تنزلق الأمور من جديد إلى حرب أهلية. إلى أن طفح الكيل، ولم يعد بد من التحرك، فكانت حركة 1919، (سبقها تحركات عام 2008)، ورغم تدفق المواطنين بالآلاف، مطالبين بتنحي المسؤولين، متهمينهم بالفساد، ورافعين المطالب المعيشية والإصلاحية، فإن المسؤولين، وكما دائما، استطاعوا البقاء في السلطة بكل صلافة، دون أن يحركوا ساكنا لتنفيذ الدستور وتلبية مطالب الشعب، ودون أن يأخذوا مبادرة جدية في محاسبة الفاسدين. وكما العادة، راحوا يحْرِفون التحرك الشعبي عن مطالبه المعيشية والإصلاحية، حتى يُلبسوا الأمور طابعا طائفيا، حيث يتمسك زعماء الطوائف بمكاسبهم. في ظل هذا الجو المشحون والجامد، تحرك البطريرك الماروني الراعي، مقتديا بأسلافه، مطالبا من جديد بحياد لبنان، حاصرا كل مشاكل لبنان بعدم الحياد، وبتحالفات يقيمها بعض الأطراف، والمقصود هنا خصوصا حزب الله بالخارج. ولعل البطريرك على حق، فإن الأطراف الداخلية لم تستطع التوافق على تشكيل حكومة على أقل تقدير.
إن طرح الحياد من جديد يجعلنا نتطرق إلى هذا الموضوع لمعرفة حسناته أو مساوءه، وكيف يستغل في غير الغرض الذي ربما رفع من أجله.
الحياد الخارجي والحياد الداخلي.
الحياد الذي يرفع لواءه البطريرك الراعي هو، كما يقول الحياد الإيجابي. وهو يعني حسب تفسيره ألاّ يتخذ لبنان أي موقف أو اصطفاف تجاه المشاكل الإقليمية أو الخارجية. جيد، ولكن لبنان بلد واقع في منطقة متفجرة، ومعرض للعدوان، السؤال كيف يمكن موضعة الحياد بين دولة معتدية على لبنان، وبين دولة تساعده كي يدافع عن نفسه؟
البطريرك يرفع شعار دولة لا دولتين، وجيش لا جيشين. السؤال هل قبل نشوء المقاومة الوطنية والإسلامية، كان لبنان قادرا أو مستعدا للدفاع عن نفسه؟ هل أن الجيش اللبناني يملك المعدات اللازمة لمواجهة عدو كالعدو الإسرائيلي؟ وعلى افتراض أن الجيش قادر على الدفاع عن لبنان، هل سيتفق المسؤولون اللبنانيون على اتخاذ قرا بالرد على العدوان في الوقت المناسب؟ الجواب معروف، لقد استمر لبنان عرضة لجميع أشكال الانتهاكات من قضم تدريجي لأرضه، واستباحة لسيادته، واقتراف لأبشع الجرائم منذ نشأة الكيان الصهيوني في العام 1948 وحتى وقتنا الحاضر. حيث تعرض خلالها لاجتياحين كبيرين، الأول عام 1978 لجنوب لبنان حتى صيدا، أي كل محافظة الجنوب، ثم لاجتياح أكبر حيث تم احتلال أكثر من نصف لبنان، وكانت بيروت أول عاصمة عربية يتم احتلالها من قبل الصهاينة. ولا نذكر المعارك المتفرقة التي كانت تستمر لأيام، يقترف فيها الجيش الصهيوني أبشع الجرائم. ولم تنسحب القوات المعتدية إلا في العام 2000 بفضل المقاومة والمقاومين والشهداء الأبرار. هذا رغم قرار الأمم المتحدة ثم 425 للعام 1978، الذي يطلب من العدو الانسحاب دون قيد أو شرط. وهو لم يفعل ذلك، بل تمادى أكثر، وكان اجتياح 1982، كما ذكرنا، وجرائم صبرا وشاتيلا، وحصلت بعد ذلك معارك متفرقة عام 1996 وعام 1998. أما حرب عام 2006، فكان ردا على محاولة المقاومة تحرير أسرى لبنانيين احتفظ بهم العدو، بعد انسحابه عام 2000 بفعل ضربات المقاومة وتضحياتها.
لقد أصبحت المقاومة اليوم قوة إقليمية، تحسب مع دول فاعلة أو كبرى. وهي قد لعبت دورا أساسيا في منع الإرهاب من دخول لبنان والبطش باللبنانيين وغير اللبنانيين، خاصة مسيحيين، وشيعة، كما حصل في دول أكبر من لبنان وأقوى من لبنان.
تتحالف المقاومة اليوم مع دول عربية ومع إيران، وهي الدول التي تمولها وتسلحها، وهي بذلك تتمكن من الاستمرار في الدفاع عن لبنان وحماية أبنائه دون تمييز. السؤال ألا يحفظ ذلك للمقاومة التي حمتكم من الإرهاب ومن انتهاك المقدسات؟
لا بد هنا من أن نلفت النظر إلى أن لبنان لا يستطيع حتى قبول المساعدات أو الهبات من إيران أو من الصين أو من روسيا مثلا، لأن أميركا وحلفاءها لا يرضون، ولأن اللبنانيين الذين يدورون في ذلك الفلك، يعرقلون أي توجه نحو الشرق، مفوتيين على الشعب اللبناني فرص التغلب على ما يعانيه من حاجة للطاقة أو غير الطاقة كالمصانع وبناء البنى التحتية.
وأخيرا، هل يعني الحياد اتخاذ نفس الموقف تجاه الظالم وتجاه المظلوم، كما يفعل مسؤولون رسميون لبنانيون اليوم، حيث نسمع مثلا إدانة لقصف “المدنيين في السعودية الشقيقة”، ولم نسمع ولو لمرة واحدة، استنكارا للجرائم التي تحصل بحق الشعب اليمني الشقيق هو الآخر، المعتدى عليه ظلما وعدوانا؟
ورغم ما تقدم، ولنسلم جدلا بفائدة الحياد عن المحاور الخارجية، فهل سيفيد هذا الحياد ما دام النظام اللبناني غير محايد تجاه مكوناته، بمعنى آخر ما فائدة الحياد الخارجي، ما دام يتم توزيع الشعب اللبناني ضمن طوائف ومذاهب، يستغلها أصحاب النفوذ والمصالح في الداخل، كما تستغلها القوى الخارجية لإشعال الفتن في لبنان والمنطقة متى اقتضت مصالحها ذلك؟
إن الحياد الخارجي يجب أن يقترن أولا، أو يجب أن يُسبق أو يترافق بحياد داخلي، أي بنظام ينظر ويتعامل مع جميع المواطنين اللبنانيين على قدم المساواة، دون أي تمييز مهما كان نوعه، وعلى الأخص التمييز الطائفي. الشعب اللبناني لا يريد نظاما طائفيا.
إن النظام القائم على تحاصص طائفي هو نظام غريب عن الدولة الحديثة. لا يعرفه القانون الدستوري العام، ولا يعترف به القانون الدولي العام.
إن النظام الطائفي هو سبب كل الويلات التي يعيشها الشعب اللبناني. هذا النظام هو الذي يجعل المسؤولين يتقاتلون على الصلاحيات، ويجعلهم يعطلون انتخاب رئيس حكومة أو رئيس جمهورية، ويعطلون المؤسسات، ويعطلون إقرار القوانين، أو تطبيقها، ويعطلون المشاريع. ويحول ذلك النظام دون محاسبة الفاسدين، وحتى المجرمين، هذا إذا اعتبرنا أن الفساد لم يلحق القضاء، بسبب تقاسم الحصص طائفيا في هذا القطاع، كما في غيره.
ننهي هنا لنقول، أن الحياد ليس قولا منطقيا إذا كان سيساوي بين الحق والباطل. إن قول الحق، والوقوف إلى جانب المظلوم، وفي وجه الظالم، هو ما ينبغي إقراره وتطبيقه.