كتب د . احمد الدرزي | سوريا دولة حيادية.. هل هذا ممكن؟
تأتي المحاولات الدولية لإيجاد المخرج الملائم لتناقضات القوى الإقليمية وصراعها، عبر البحث عن صيغة حيادية الدولة السورية في غربي آسيا.
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
ما إن وقّع الرئيس المصري السابق، أنور السادات، على اتفاقية كامب ديڤيد مع “تل أبيب”، حتى بدأت الأبواب المغلَقة أمامها في أفريقيا بالانفتاح، ثمّ تسقط الحجب على نحو واسع، بعد توقيع الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات على اتفاقية أوسلو، الأمر الذي أوجد مبرِّراً واضحاً لكل عواصم العالم، التي كانت تلتزم الموقفَ من القضية الفلسطينية استناداً إلى عدالتها، بإقامة علاقات طبيعية بـ”إسرائيل”، ولَمْ تبقَ سوى عقبة وحيدة أمام الأخيرة كي تتسيَّد المنطقة بصورة كاملة، ولَم تكن هذه العقبة سوى دمشق، التي راهنت على عنصر الزمن وتحولاته، برفضها التوقيع على اتفاقية الاستسلام، على الرغم من كل المفاوضات غير المباشِرة مع “تل أبيب” بعد انهيار الإمبراطورية السوڤياتية. ولَم يكن هذا الموقف الرافض إلا يقيناً بأن ذلك سيقودها إلى الانهيار، عبر فقدانها دورَها الإقليمي، واعتقاداً مفاده أن فلسطين المحتلة، كلبنان والأردن ولواء إسكندرون، أرضٌ سورية سُلِخت منها.
لم يكن الملف السوري بعيداً عن لقاء الرئيسين رئيسي وبوتين في موسكو، فهما يقودان بلديهما معاً، في خِضم صراعات دولية وإقليمية، في مواجهة مشاريع الدولة العميقة في الولايات المتحدة، أياً يكُن ساكن البيت الأبيض. وهما خاضا تجربة القتال المشترك ضد المجموعات الإرهابية المهدِّدة للأمن القومي لكِلا البلدين، وقتالهما معاً في سوريا يصدّ عنهما انتقال هذه المجموعات إليهما في حال نجاح هذه المجموعات في تنفيذ المشروع الأميركي، الذي بُدِئَ العمل عليه منذ مطلع القرن الحالي، إلاّ أن الموقف تجاه مستقبل الأزمة السورية وكيفية حلها مؤجَّل، وخصوصاً ما يتعلّق بالموقف بشأن الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا.
على الرغم من احتياج طهران وموسكو، إحداهما إلى الأخرى، من أجل مواجهة التهديدات الأميركية المتواصلة، ومن خلفهما بكين التي تشترك معهما في مواجهة التهديدات، وخصوصاً بشأن سوريا والقوقاز وأفغانستان ودول آسيا الوسطى، التي تُعَدّ ساحات مشتركة للعمل، إحداهما مع الأخرى، عسكرياً وأمنياً، بالإضافة إلى اشتراك البلدين في النفط والغاز اللذين يُعَدّان الموردَين الأهم لاقتصاديهما، واستثمارهما في بناء البلدين ونهضتهما، فإن هناك اختلافاً وتبايناً واضحين بينهما، ومَسكوتاً عنهما حتى الآن، فيما يتعلّق بالموقف بشأن “إسرائيل” واعتداءاتها المتكررة، بالإضافة إلى الموقف بشأن الكُرد ومشروعهم القائم في منطقة الجزيرة السورية.
ينطلق موقف طهران من شرعيتين لا يمكنها التخلي عنهما، الأولى هي شرعية التأسيس بعد انتصار ثورتها، وتبنّيها القضيةَ الفلسطينية محوراً مركزياً لحركتها، سياسياً وعسكرياً. وهي لا يمكنها التخلي عنها، وإلاّ افتقدت أحدَ أهم أركان البناء الذي أسَّست عليه نفسَها نظاماً سياسياً مخالفاً بصورة كاملة للنظام السياسي الشاهنشاهي السابق. والثانية تنطلق من شرعية الدور الإقليمي الذي تستحقه وفقاً لتاريخها الإمبراطوري وثقافتها المجتمعية، وهي لا تستطيع أن تحقّقه في ظل وجود الدور الإسرائيلي المُصطَنَع غربياً، وتَقَوّى ذاتياً، ومن إيمانها بأن إسقاط الدور الإسرائيلي، الذي يُعَدّ وتر آخيل الغرب في غربي آسيا والعالم أجمع، سيدفع إلى انكفاء كل المشاريع الغربية المتلاحقة، خلال أكثر من قرنين من الزمان.
دخلت قوى منطقة غربيّ آسيا في صراع كبير على الأدوار الإقليمية وارتباطاتها الدولية، وتمحورت بين ثلاث قوى أساسية، عبر صراع دموي كبير من أجل ملء الفراغ المتزايد نتيجة الانكفاء الأميركي المستمر. فكان محور طهران دمشق بيروت صنعاء في مواجهة محور “تل أبيب” أبو ظبي الرياض بصورة أساسية، بعد غياب الدور المصري، ومحور تركيا قطر وقوى الإسلام السياسي المنتشرة في كل ساحات الصراع.
أتاح الدخول العسكري الروسي المباشِر في الحرب السورية، دوراً محورياً لموسكو في الحرب المحلية السورية، ذات البُعدين الإقليمي والدولي، وأتاح لها فرصة تاريخية في العمل على ملء هذا الفراغ القائم في منطقة غربي آسيا، ودفعها إلى العمل على إعادة تركيب نظام إقليمي جديد، بديل عن الانقسام الثلاثي بين المشاريع الثلاثة، من أجل أن تثبت قدرتها على إمكان الجمع بين المتناقضات التي لا يمكن لها أن تجتمع، وخصوصاً مع “تل أبيب”، التي عجزت حتى الآن عن اختراق المجتمعَين العربي والإسلامي، على الرغم من اختراقها الواسع لمعظم الدول العربية والأفريقية، وانفتاح معظم عواصم العالم عليها.
تختلف رؤية موسكو لـ”تل أبيب” عن رؤيتَي شريكتيها طهران ودمشق، فهي أول من اعترف بواقع وجود “الدولة” الإسرائيلية عام 1948، كمحاولة لاحتوائها من جهة، وبسبب وجود عدد كبير من المستوطنين الإسرائيليين، الروس الأصل، في “المجتمع الإسرائيلي”، من جهة ثانية، ووجود كبار المسؤولين من أصل روسي أو سلافي، بالإضافة إلى سيطرتها على احتياطيات هائلة من النفط والغاز شرقيّ المتوسط، ووجود تيار اقتصادي ضخم داخل روسيا مُسيطَر عليه من يهود متعاطفين مع “إسرائيل”، ويعمل على حمايتها.
يأتي التباين بين طهران وموسكو ودمشق بشأن تصوُّرات هذه الأطراف لمستقبل الدولة السورية. والأمر لا ينحصر في طبيعة العلاقة بـ”تل أبيب” فقط، بل يذهب بعيداً في نظرته إلى الشأن السوري الداخلي، وخصوصاً ما يتعلق بالقرار 2254، الصادر عن مجلس الأمن عام 2015، واختلاف الرؤى بشأن تفسير بنوده، بالإضافة إلى قضية السوريين الكُرد ودورهم في تركيبة الدولة السورية.
تنطلق موسكو في فكرتها بشأن إعادة تشكيل نظام إقليمي جديد، في أبعاده الأمنية والاقتصادية، من فكرة المشروع الأوراسي، الذي صاغه ألكسندر دوغين، واستعادة المشروع الإمبراطوري الروسي، وخصوصاً بعد الوصول إلى المياه الدافئة شرقيّ المتوسط في طرطوس وحميميم، والعمل على ضم سائر دول المنطقة إلى هذا النظام، بما في ذلك “إسرائيل”. وهي، في ذلك، تُثبت للجميع حُسن إدارتها للصراعات الحادة في المنطقة، وتحويلها إلى منطقة تعاون بين دوله، وتقديم الضمانات إلى الدول الغربية كافة بشأن توفير البيئة الآمنة لـ”إسرائيل”. وهذا ما كان واضحاً بشأنه قبل الاستجابة للتدخل العسكري في سوريا، وحصر مهمته في محاربة الإرهاب، والمحافظة على وحدة سوريا وسيادتها على كامل أراضيها، والامتناع عن الدخول في الصراع بين محوري طهران دمشق و”تل أبيب”، مع الحد من أضراره البشرية بالإنذار المُسبّق.
تدرك موسكو أن دمشق لا يمكنها أن تذهب إلى إقامة علاقة بـ”تل أبيب” في إطار معاهدة سلام مثل كثير من الدول العربية. فدمشق، أياً تكن، لا تستطيع التعاطي مع فلسطين إلا باعتبارهاً الجزء الأهم منها، بالإضافة إلى احتلال منطقة الجولان. ويُتوَّج ذلك باستعادة الدور الإقليمي، وهو العامل الأهم في حمايتها من أطماع المحيط الإقليمي، وخصوصاً “تل أبيب”، التي تُعَدّ في نظرها تهديداً وجودياً، وليس حدودياً.
من هنا، تأتي المحاولات الدولية لإيجاد المخرج الملائم لتناقضات القوى الإقليمية وصراعها، عبر البحث عن صيغة حيادية الدولة السورية في غربي آسيا. والأمر يتطلّب منها ألاّ تذهب نحو معاهدة سلام مع “إسرائيل”، وإنما التوقف عن الاصطفاف الفاعل في المحور المقاوم، في مقابل استعادة الجولان وسيطرتها على سائر الأراضي السورية المحتلة والأراضي خارج السيطرة، ومن دون قطع علاقاتها بطهران، كما كانت الشروط السابقة في بداية الحرب عليها، لكن بلا مخالب عسكرية، وكل ذلك في مقابل عودتها إلى جامعة الدول العربية، وتدفُّق الاستثمارات الخليجية والأوروبية من أجل إعادة البناء والإعمار، على نحو مترافق مع خروج الأميركيين من منطقة الجزيرة، وخروج قوات الاحتلال التركي من الشمال السوري المحتل.
تستثمر القوى، التي تعمل على إخراج سوريا من اصطفافها الإقليمي، الضغوطَ الاقتصادية الهائلة على السوريين في الداخل، وعدم القدرة على إيجاد مخارج من حالة الاستعصاء الداخلي، وتفاقم الأزمات واستمرار انحدار الخدمات، والمترافقة مع نقص الموارد، بالإضافة إلى تزايد عمليات إفراغها من قدراتها وخبراتها الشبابية.
على الرغم من كل الضغوط الاقتصادية، والرسائل المتعددة الأطراف، بالإضافة إلى المغريات المالية، فإن خيارات دمشق لم تُغلَق بعدُ. فهي لا تستطيع التحول إلى دولة حيادية، لأن الحياد، في مثل حالتها، هو اصطفاف مخالف في المحصِّلة، وهو أكثر تهديداً لها في المستقبل، وخصوصاً بخسارتها دورها الإقليمي الكامل، والذي لا يمكن أن تستعيده إلاّ باستمرار أداء دورها التاريخي من بوابة فلسطين، وليس من أي باب آخر، شرط أن تعمل بعمق على تغيير البيئة الداخلية بصورة جذرية كاملة. وأقصى ما يمكن أن تقدّمه هو هدنة تتيح لها فرصة استعادة البناء والدور، فهل تستطيع ذلك؟