كتب د . احمد الدرزي | المعارضة السورية والحل السياسي.. بيئة إقليمية جديدة (1 – 3)
الدكتور احمد الدرزي | كاتب وباحث سوري
تسارعت أحداث منطقة غرب آسيا باتجاه جديد مخالف لكل ما سبق من أحداث كبرى على مدى أكثر من 100 عام، منذ أن استطاع الغرب، بالعنوان البريطاني والفرنسي، تحطيم المنطقة وإيجاد كيانات سياسية لا تنسجم مع تاريخ المنطقة وطبيعتها الجغرافية والديموغرافية، بما أوحى بأن زمن تشابك المصالح من باب التعاون أصبح مهيمناً على مسارات المنطقة، بعدما أصبح واضحاً للجميع أن السطوة الأميركية إلى تراجع على المستوى العالمي، وأن هذه المنطقة تشكل عبئاً على أولوياتها القصوى في منطقتي جنوب شرقي آسيا وفي أوراسيا.
تميّز تسارع الأحداث السياسية بأنه أدى إلى بداية تبلور نظام إقليمي جديد لم يكن بالإمكان تخيله، ففيه اصطفافات جديدة من خارج الاصطفافات الدولية المعهودة، وفيه انزياحات واضحة لدول كانت تحت هيمنة الإدارات الأميركية المتتابعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى وقت قريب، وقبل اندلاع الحرب في أوكرانيا منذ عام ونيف، وخصوصاً المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، اللتين وسَّعتا دائرة علاقتيهما مع روسيا، لتساهما معها في إفشال العقوبات الاقتصادية الأميركية عليها بعد بدء الحرب في أوكرانيا.
كان من نتائج هذه الاصطفافات الجديدة المصالحة السعودية الإيرانية برعاية الصين، في إشارة واضحة إلى حجم تراجع القدرة الأميركية وبدء ظهور بديل للقوى الآسيوية الناهضة، وخصوصاً الصين، التي بدأت تؤدي دوراً سياسياً ينسجم مع قدراتها الاقتصادية والعسكرية، والتي من المفترض أن تؤدي دوراً أكبر خلال السنوات المقبلة.
ألقت هذه المصالحة ظلالها الإيجابية على المنطقة، فالصدام السعودي الإيراني استمرَّ منذ نجاح الإيرانيين في ثورتهم عام 1979، وهو، وإن كان غير مباشر، فإن ساحاته تعددت زمنياً ومكانياً، وتنقلت من ساحة إلى أخرى، إلى أن ارتفع مستوى المواجهة في العقد الأخير في كلٍ من العراق وسوريا ولبنان وفلسطين واليمن، عدا عن المواجهات المباشرة الصامتة ذات الطابع العسكري الأمني في الخليج، وهي مواجهات يقف فيها الأميركيون خلف السعوديين.
وقد أصبح من الواضح أنَّ الروس والصينيين أدوا دوراً بارزاً في إعادة تشكيل منطقة غرب آسيا، فقد سبق ذلك تحول تركي نحو الاصطفاف الجديد بعد فشل محاولة الانقلاب على الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عام 2016، وما تلا ذلك من تشكيل منصة أستانة الثلاثية 2017، التي جمعت كلاً من روسيا وتركيا وإيران بعنوان إيجاد حل سياسي في سوريا بعد وقف إطلاق النار وإنهاء الصراع العسكري الحاد والمستمر، والفرصة أصبحت الآن مهيأة لاتساع أستانة الثلاثية إلى منصة رباعية وخماسية بعد الشراكة الروسية الصينية مع السعودية والإمارات.
هذا النظام الإقليمي الجديد يسعى لإخراج الولايات المتحدة من قلب الدول، ومن كامل المناطق في المحيط الإقليمي للدول، لإدراك الجميع بأن استقرار المنطقة وتنميتها لا يمكن أن يحصلا إلا بإزالة العوائق أمام التوافق المطلوب حصوله، فعدا العائق الأميركي، ومعه الإسرائيلي، فإن مجمل ساحات الصراع والمواجهة غير المباشرة يتطلب حلولاً مختلفة عمَّا سبق، ويحتاج إلى معالجات جديدة تعترف بعدم القدرة على حسم الخيارات العسكرية وضرورة تحقيق الأمن والاستقرار مع إعادة تأهيل هذه المناطق وتنميتها.
يعد حلّ مشكلة السعودية في اليمن أولوية، وتأتي سوريا في المرتبة الثانية، وهي لا تقل أهميةً عنها، ولكنها تعد أكثر تعقيداً، فالعوامل الخارجية المتداخلة مع العامل الإقليمي (السعودي الإماراتي) محدودة في اليمن، وتنحصر بالعاملين الأميركي والإسرائيلي اللذين لا يريدان دولة يمنية واحدة متواصلة مع عُمان وإيران، فيما مشكلة سوريا أكثر تعقيداً بكثير، فهي تتداخل مع أطراف إقليمية ودولية متعددة، وخصوصاً تركيا، التي احتلت 9% من الأراضي السورية.
كما أن قربها من الحدود مع فلسطين المحتلة، بعد احتلال الجولان السوري، يشكل عامل ضغط إضافياً، كما أنها تشكل عاملاً أكثر خطورة وفق محددات الجغرافيا السياسية، ما يجعل الأمن والاستقرار أولوية قصوى للإطار الإقليمي المستجد في غرب آسيا وبغطاء ودفع روسي صيني.
فرض حجم الكارثة السورية نفسه على كل اللاعبين القديمين – روسيا والصين وإيران- واللاعبين الإقليميين الجدد -السعودية والإمارات – بعد الاصطفافات الجديدة، فالانقسام السوري الكبير والمستمر، ومشكلة اللاجئين والنازحين الذين تجاوز عددهم 10 ملايين سوري، إضافة إلى المناطق الواقعة خارج سيطرة دمشق، وهي عملياً تتجاوز 33% من مساحة الأراضي السورية، وهي الأهم اقتصادياً وزراعياً، تجعل كلها تحقيق الأمن والاستقرار أولوية قصوى لهذا النظام الإقليمي والدولي المستجد.
هذا الأمر بدوره لا يمكن أن يتحقق من دون إطار للحل السياسي السوري، يوفر البيئة الداخلية الآمنة والجاذبة للسوريين للعودة إلى بلدهم ومناطقهم التي تركوها أو هُجِّروا منها.
يبدو أن الشيء الوحيد المتفق عليه ضمن الإطار الإقليمي الجديد هو التوافق على الحل السياسي في سوريا، وهو مصطلح متغير قابل للتمدد والتقلص تبعاً لكل دولة أو قوة سياسية إقليمية، فالسعودية والإمارات وإيران، رغم التباين بينها، لا وضوح لديها لحدود هذا الحل ومدى عمقه، فيما تركيا ومصر المتباينتان أيضاً تلزمان نفسيهما بتطبيق القرار 2254، وينظر حزب العمال الكردستاني -وهو قوة إقليمية عسكرية- إلى الحل السياسي من منظار تحقيق القضايا المطلبية للقضية الكردية.
ويظهر التباين أيضاً ضمن الدول العربية، فهي على الرغم من تباينها حول عودة سوريا إلى الجامعة العربية، وحول حدود الحل السياسي وضوابطه، اتفقت مع بعضها بعضاً على الهوية العربية لسوريا وضرورة عودتها إلى الجامعة العربية.
هذا الأمر يمكن تفسيره ضمن إطار الصراع والتنافس على الأدوار في الإقليم بين السعودية وتركيا وإيران، وأول المتضررين هم الكرد الذين يرفضون الهوية العربية، والذين أُضيف إليهم التركمان المستعربون، وهم شريحة ليست صغيرة ضمن المجتمع السوري، إضافة إلى بقية الإثنيات التي تلاشت عملياً خلال الحرب الأهلية السورية، بعد الهجرات الكثيفة لأقليات آشورية وسريانية وأرمنية اضمحلَّت في الأساس قبل الحرب، من خلال التسهيلات الغربية المقدمة لها للهجرة.
على الرغم من موافقة دمشق على الحل السياسي من قبل بعد قبولها المفاوضات في جنيف وفيينا، والذهاب إلى المفاوضات حول الدستور، وتشكيل اللجان الدستورية، إضافة إلى الموافقة الجديدة بعد لقاء وزيري خارجية سوريا والسعودية في جدة، وصدور بيان مشترك تم فيه إقرار الحل السياسي، فإنها تنظر إلى الأمر من زاوية مختلفة، من باب ما تمتلكه من أوراق قوة تتيح لها هامشاً كبيراً من المناورة كما تعتقد، لإعادة بناء البنية السياسية الحالية، وهذا ما يزيد تعقيد الموقف الإقليمي والدولي حول أي حل سياسي يمكن الوصول إليه.