كتاب الموقع

كتبت ليندا حمورة | أرض لا تشبه إلا نفسها

ليندا حمورة | كاتبة وباحثة لبنانية*
حين تأخذك قدماك جنوباً، فكأنك تعبر من بوابةٍ خفيّة، لا تُرى إلا بعين القلب، إلى جنةٍ مُعلّقة بين الأرض والسماء، كأنك تدخل فصلاً من أسطورةٍ كتبتها بابل، ثم نُسخت على جبين لبنان، الجنوب هناك ليس أرضاً، بل قصيدة نُقشت بالضوء على وجه الزمن.
في الجنوب، ترى ما لا تُبصره العيون، لأن الطبيعة فيه لا تُشاهد، بل تُحسّ. هضابه كأكتاف الفرسان، جباله كصدور الأمهات، وسهوله كأحضان العشاق. الأرض هناك خضراء لا بلون العشب، بل بلون النبض، بلون الحياة حين تُقاوم. والبيوت؟ ليست حجارة وأسقفاً، بل قلوب مشيدة من الطين والوفاء، أعمدتها رجال ونساء، إذا هبّت الريح ركعت، لا ضعفاً بل كي تنهض من بعدها أكثر شموخاً.
الجنوب ليس مكاناً، بل موقفاً ، ليس جغرافيا، بل كرامة تمشي على قدمين. حتى الغارات، حين تأتي، تبدو كنجمةٍ مرت في السماء ثم انطفأت، لأن في الجنوب من يسكنه الضوء، لا يخاف من ظلّ. في كل بيت قصة، وفي كل حجر ذاكرة، وفي كل طلعة شمس قسمٌ بأن الحياة تُخلق كل يوم من جديد.
أنا ابنة الجنوب، لا أقولها فخراً بل حقاً. أعتز بأرضٍ كلّ ما فيها يشبه المستحيل حين ينكسر، ويشبه الحياة حين تُنتزع من بين فكّين. أؤمن بالجنوبيين، أولئك الذين إن مشوا تركوا على التراب أثراً لا يُمحى، وإن صمتوا كتبوا في الصمت مجلدات. أقول لهم: لا تكونوا غير أنفسكم، فأنتم الحقيقة حين يختنق العالم بالزيف، وأنتم الأرض حين تُباع الأوطان.
ودامت الأرض لمن يعرف كيف يحملها في قلبه، لا في يده.
*نائب رئيس تحرير موقع المراقب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى