كتبت د . نازك بدير | ما الذي لم يتبقّ من الكيان الإسرائيلي؟
الدكتورة نازك بدير | كاتبة وباحثة لبنانية
منذ بدايات المشروع الصهيوني وهو يحظى بدعم غربيّ شبه كامل. لم تتوانَ الأنظمة عن رعايته وتقديم مستلزمات الغطرسة الماديّة والمعنويّة إليه خدمة لأهداف معلنة أو غير معلنة في منطقة تشغل حيّزا استراتيجيًّا مهمًّا حيث تُشرق فلسطين ( من الإشراق) على ثلاثة بحور: البحر الأبيض المتوسط، البحر الأحمر، البحر الميّت. على مرّ العقود السابقة، تحالفت دول كبرى لدعم الكيان، وأعطته الضوء الأخضر لطرْد الفلسطينيين من أرضهم واحتلالها وإبادة من تبقّى منهم وأَسْرهم وتعذيبهم والتنكيل بهم.
الحرب التي تخوضها أميركا اليوم، بأداة إسرائيليّة، ليست من أجل مصالح اليهود وحدهم، بل هي محاولة للحفاظ على ما تبقّى من ماء وجهها في الشرق بعد سلسلة هزائم منيَتْ بها في أفغانستان وسوريا والعراق. تساقطت أوراقها السياسيّة في الدول العربيّة بعد أن فرض الصيني نفسه بديلًا دبلوماسيّا واقتصاديًّا. ثمّ جاء السابع من أكتوبر ليكسر المخطَّط الأميركي-الإسرائيلي القاضي بفرْض الطرف الأخير جزءا لا يتجزّأ من سيناريو التطبيع في المنطقة، وكانت الضربة مباغتة فأحدثت صدمة متعدّدة الأبعاد؛ البعد الأوّل تجلّى في سرعة تهاوي صورة إسرائيل وتداعي جبروتها وغياب القيادة، أمّا البعد الآخر فهو الخيبة الأميركيّة من الرهانات الخاسرة سواء أكان ذلك بسبب النقص في معلومات أجهزة مخابراتها في المنطقة، أم بسبب النفقات الهائلة التي تجد نفسها ملزمة بتأديتها إلى إسرائيل. إضافة إلى بعد ثالث يتمظهر باندثار أحلام حلفاء الولايات المتّحدة والساعين إلى التطبيع والداعمين له.” خريطة الشرق الأوسط الجديد” لن تكون كما تمّ وضعها، ثمّة أوراق أُحرقت وهي في المهد، بعضها الآخر انتهت صلاحيّته، نسِفت مفاوضات التطبيع، وترسَم خرائط من نوع آخر، بدم نقي. في هذه الحرب، أرض غزّة والحدود اللبنانيّة-الفلسطينيّة حبلى بالمفاجآت. سقطت أقنعة الغرب رافع شعارات حقوق الإنسان والمساواة والعدالة والحريّة، وظهَر وجه آخر للمقاومة في داخل فلسطين يكابد العدوّ ليطمسه، مختلف عمّا يصوّره الاحتلال والغرب، الوجه الإنساني الأخلاقي! في معادلة الأسرى استطاعت الدعاية الإعلاميّة- فيديوهات الأسيرات الإسرائيليّات المحرّرات- أن تنتزع المساندة الغربيّة للشعب الفلسطيني، إضافة إلى صور المجازر. لم يتبقّ للإسرائيليات من خيار سوى الاعتراف على الملأ بأخلاقيّات الفلسطينيين. نجحتْ المقاومة في إدارة معركتها الإعلاميّة والميدانيّة والاستخباراتيّة، وقبل ذلك كلّه، التنسيق التامّ، و”الصليات المعنويّة” العالية المزلزلة التي لا تقلّ تأثيرًا عن” فجر” و”رعد” و”زلزال” و”خيبر” و”ياسين”.
في المقابل، يستشعر المستوطنون تهديدًا وجوديًّا حقيقيًّا؛ الاختباء في الملاجئ لن يعيد إليهم ثقتهم برئيس وزرائهم وبأجهزة الأمن والاستخبارات وبالقادة العسكريين. هذه الهالة تلاشت دفعة واحدة ولم يتبقّ منها شيء. الإسرائيلي اليوم يستجدي الدعم المعنوي قبل العسكري، يصل قادة دول غربيّة معربين عن المساندة والتأييد للمحتلّ في إبادته المدنيّين. ممّا تقدّم يُفهَم سبب وصول خبراء حرب أميركيّين واستشاريّين عسكريّين ميدانيّين لمساعدة ربيبهم وهو يخوض معاناة” شلل نصفي” مُنِي به الكيان مستوطنين وقادةً وجيشًا وأمنًا واقتصادًا، في وقت هو مهدّد بالوصول إلى “شلل رباعي” متى ما انزلقت قوّاته إلى توغّل برّي فعليّ. ما جرى في السابع من أكتوبر قضى على فكرة إمكانيّة إيجاد ما يُسمّى “إسرائيل دولة آمنة”.
لئن نجحت الحركة الصهيونية، سابقًا، في استقطاب مئات الآلاف من يهود الشتات وأقنعتهم بالتوجّه إلى فلسطين والعيش فيها، غير أنّها اليوم، بعد ما أنجزته المقاومة من تدمير صورة إسرائيل وتعريتها وإظهار عجزها، من المنطقي أن يفضّل اليهود اليوغسلاف والفرنسيّين والبريطانيّين وغيرهم البقاء حيث هُم، وإدارة ظهورهم إلى نتنياهو وحكومته ومن لفّ لفّهم.
بعد انتهاء هذه الحرب، مهما كانت النتائج، سيكون من الصعب جدًّا على الكيان الإسرائيلي أن يستعيد النقاط التي خسرها قبل 7 أكتوبر في عيون مستوطنيه، قبل حلفائه من العرب والأميركيّين. الحروب جولات وانتصارات وخسائر لا فرار منها، لكن، في المعركة مع إسرائيل يبدو أنّ المعادلة مختلفة: إسرائيل تنهزم في النهايات.