سقوط مدوّ لنظرية «خطة أميركية منسّقة وراء الانسحاب»
ناصر قنديل | كاتب وباحث لبناني
– سادت نظرية لدى بعض المتابعين والمحللين للحدث الأفغاني مع بدايات الانسحاب الأميركي، تقوم على تقديم فرضية وجود خطة أميركية منسقة ومتفاهَم عليها مع حركة طالبان، تجعل الانسحاب الأميركي جزءاً من خطة تسليم وتسلّم لأفغانستان، وترتكز هذه النظرية على اعتبار أنّ الأميركي استبدل السعي للسيطرة على أفغانستان وموقعها الاستراتيجي، باستخدام هذا الموقع عبر تجييره لحركة طالبان لتتولى إرباك المشهد الإقليمي، وتحويل أفغانستان الى مشكلة لجيرانها وخصوصاً إيران وروسيا، وساق أصحاب نظرية الخطة الأميركية لتدعيم منطقهم التاريخ المشحون بين طالبان وموسكو منذ زمن الإتحاد السوفياتي، والتنابذ المذهبي الذي سيفجّر حرباً بينها وبين إيران، كما ساق هؤلاء لنظريتهم حججاً من نوع أن الإنهيار السريع للحكومة الموالية للأميركيين وجيشها جاء بقرار وبُني على عدم إبلاغ وتهيئة هذه الحكومة وقواتها لنوعية التحديات التي تنتظرهم، مقابل التسهيلات الممنوحة لطالبان لتحقيق تقدم سريع نحو العاصمة كابول، مستعيدين نظرية قوامها انّ واشنطن كانت وراء إنشاء طالبان.
– كنا منذ البداية وقبلها نخالف هذه النظرية، ونرى فيها تعبيراً فكرياً عن فوبيا القدرة الأميركية، التي يعجز المصابون بها حتى من خصوم أميركا ومن مؤيدي مقاومتها، عن تقبّل فكرة انّ أميركا يمكن ان تهزم وتذلّ بهذه السهولة التي ظهرت بها مشاهد أفغانستان، خصوصاً انّ تداعيات الهزيمة كبيرة ولن يكون سهلاً حصرها في أفغانستان، واذا كان ممكناً لأصحاب النظرية إبقاءها في التداول مع الساعات الأولى للحدث فإنّ تطورات الساعات الماضية تجعله هلوسات سياسية غير قابلة للتفكير، فأمامنا وقائع تجعل هذه الفرضية ضرباً من التخيّل الأقرب الى فرضيات الخيال العلمي، فتداعيات الهزيمة المدوية بدأت تهزّ أميركا نفسها، وتضع حلف الأطلسي كله على المحك كما قال الأمين العام للحلف، والحديث عن أول هزيمة من نوعها في تاريخ الحلف، كما تلاقى كلّ شركاء واشنطن الذين تلاقوا على تحميلها مسؤولية المهانة التي لحقت بمكانة الحلف الدولية، وخرج الرئيس الأميركي جو بايدن يرسم عناوين وخلاصات للخبرة الأفغانية عنوانها، التخلي عن نظرية تعميم النموذج الأميركي للحكم بالقوة العسكرية، وهو ما كان عنوان الحروب الأميركية للعقدين الماضيين تحت شعار تعميم نموذج الديمقراطية وحقوق الإنسان، وكلّ هذا الانهيار الفكري والنفسي والسياسي، والانهزام الإعلامي، والإحباط الفلسفي لا يمكن ان يشكل فصولاً من مسرحية تمّ توزيع الأدوار فيها، إلا إذا افترضنا انّ أميركا وحلفاءها خططوا للانتحار؟
– بالتوازي مع الإنهزام المسيطر على المقلب الأميركي، خرج قادة حركة طالبان، لتقديم خطاب تصالحي نحو الداخل الأفغاني والخارج الدولي وخصوصاً الجوار، وأعلنت موسكو وطهران إرتياحهما للضمانات التي تلقوها من قيادة طلبان، وبادر هؤلاء القادة الى تظهير خطوات إيجابية تجاه البعد المذهبي لعلاقتهم بشيعة أفغانستان عبر رفع رايات عاشوراء والمشاركة في إحياء لياليها، وهنا لا بدّ من تقديم بعض المعلومات التي تجعل تخيّلات البعض لمشهد دموي بعيدة عن الواقع، فطالبان حركة سياسية عسكرية ينحصر نفوذها وإمتدادها في قومية واحدة من قوميات أفغانستان، وهي قومية البشتون التي تمثل أكبر القوميات لكنها تقارب نصف السكان، والحركة تمثل القوة الأوسع نفوذاً في قبائل البشتون، لكنها محاطة بحضور تنافسي مع نخب وقيادات وزعماء قبائل، فأغلب قادة الإغانستان يتحدّرون من البشتون، وهم في كابول أقلّ من نصف السكان، ومثلما هناك الأوزبك والطاجيك، هناك الهزارة الذين يمثلون نصف نسبة تمثيل البشتون أيّ أقلّ بقليل من ربع سكان أفغانستان الأربعين مليون، وهم من الشيعة المقرّبين لإيران، ويشكلون ثلث سكان العاصمة، وفي إيران أربعة ملايين لاجئ أفغاني أغلبهم من أنصار طالبان، والتبادل التجاري بين أفغاستان وإيران يعادل ثلث التبادل التجاري لأفغانستان مع الخارج المقدّر بعشرة مليارات دولار سنوياً، وأفغانستان تعتمد على إيران بالمحروقات وجزء أساسي من الكهرباء واللوم والخضروات، وتخيّل المناخ التصادمي الدموي فيه الكثير من التجاهل لتعقيدات ضخمة تنتظر طالبان ستحتاج فيها لإيران سياسياً واقتصادياً وأمنياً، أكثر من العكس، ومهمّ أن نتذكر انّ قائد فيلق القدس الحالي الجنرال إسماعيل قآني كان مسؤولاً عن إدارة الملف الأفغاني قبل استشهاد الجنرال قاسم سليماني، وأنّ الأميركيين كانوا يتهمونه بالوقوف وراء تصعيد عمليات طالبان ضدّ القوات الأميركية بعد اغتيال سليماني، والبيان التنديدي باغتياله الذي أصدرته طالبان.
– من الصحيح القول إنّ العلاقة بين طالبان والأميركيين كانت جيدة بين عامي 1979 و1989 خلال المواجهة مع القوات السوفياتية، لكن بشرطين، الأول إدراك أنها كانت تقاطع مصالح في مواجهة ما يسمّيانه عدواً مشتركاً، وهو ما يفسّر التصادم اللاحق بين الطرفين بعد الإنسحاب السوفياتي، والثاني انّ طالبان ليست القاعدة أو داعش، اللتين تمثلان حركات بلا أوطان، أسّسهما الأميركي وإستعملهما وقاتلهما عند الضرورة، لكن طالبان هي حركة قومية دينية أفغانية، مثلها طالبان باكستان، وهما حركتان تأسّستا من طلاب الشريعة الذين قرّروا الإنخراط في مشروع يقوم على قاعدتي رفض الإحتلال الأجنبي وإقامة حكم يستند الى الإسلام، والحركتان اللتان وقفتا ضدّ السوفيات حتى خروجهم من أفغانستان وقفتا ضدّ الأميركيين بسبب إحتلالهم لأفغانستان، ورغم الطابع المتطرف لفهم الشريعة الذي يؤمن به قادة طالبان، بسبب تأثرهم بالشراكة مع القاعدة خلال حقبة القتال ضدّ السوفيات، فإنّ الخلفية المختلفة لطالبان عن القاعدة وداعش ترتبط بكونها لا تنتمي للسلفية بفروعها المختلفة، فخلفيتها العقائدية المنطلقة من المذهب الحنفي تجلعها أقرب الى الواقعية السياسية، ورفض التكفير بين المذاهب، والتمسك بهويتها الوطنية والقومية، وتداخل مذهبها الحنفي مع الصوفية يفتح نوافذ كثيرة للعلاقة مع المذهب الشيعي وإيران، نظراً للمكانة الهامة للإئمة الشيعة عند الصوفية، ولرفض الحكم الأموي من قبل أصحاب الطرق الصوفية.
– يمكن براحة ضمير وبعيون مغمضة الجهر بالقول انّ أميركا تلقت أبشع هزائمها التاريخية في أفغانستان، وان الأيام المقبلة ستحمل المزيد من الهزائم التي تحملها مسارات أفغانستان وعلاقتها بالجوار، وفي المقدمة مع إيران كدولة إسلامية مناهضة للهيمنة الأميركية، تملك حدوداً مشتركة لقرابة الألف كيلومتر، تشكل فرصة لطالبان أكثر مما تشكل تحدياً، ولعلّ واحدة من الخبرات التي قدمتها تجربة حزب الله لبعض قادة طالبان كما يقولون هي الطريقة التي أرادوا دخول كابول عبرها بما يستعيد طريقة دخوله الى المناطق المحررة في جنوب لبنان عام 2000، بينما تقدّم تجربة طالبان خبرة جديدة لحركات المقاومة قوامها انه ليس ضروريا مطاردة العدو حتى الرحيل قتاليا ليتحقق النصر، بل أن الصمود وحده يمكن ان يصنع نصرا عندما يزرع اليأس في عقول العدو عن امكانية تغيير الواقع، كما لخص بايدن المعادلة، لو بقينا عشرين عاما أخرى فانّ شيئاً لن يتغيّر.
– سترتكب حركة طالبان الكثير من الأخطاء قبل ان تستقر على صورة نهائية لنمط الحكم وإدارة أفغانستان، لكن المخاض الذي بدأ للتو يجب ألا يسمح بالتسرع في إصدار الأحكام على المسار الذي سترسو عليه، وهذا يستدعي منح الفرصة للمراقبة والتفكير، والتقييم الهادئ كي لا نقع في فخ يصنعه التسرع عنوانه الحكم المسبق، والحكم الصحيح هو على كيف تقارب طالبان كأي حركة سياسية العلاقة بقضيتي الاستقلال والبناء، وقد فازت طالبان في إمتحان الإستقلال حتى الآن وهي رفضت بشدة أن يتسلم الأتراك مطار كابول، واعتبرتهم احتلالاً انْ فعلوا ذلك رغم التدخل القطري لتسويقهم بعدما كلفهم الأميركي بذلك كمكون في حلف الأطلسي، يبقى تحدي قضية البناء، وهو شائك ومعقد لكنه يستحق الإنتظار.