روسيا للغرب .. ولىّ زمن الإنذارات .
وسام متى | كاتب وإعلامي لبناني
اختارت الدبلوماسية الروسية تكتيك الهجوم خير وسيلة للدفاع، وذلك على خلفية الهجمات الغربية الممنهجة ضدها، والتي يبدو أنها في صدد العمل كفريق واحد، تحت راية اميركا البايدينية، على النحو الذي تبدى، بأبهى رمزيته، في طابور السيارات الدبلوماسية المتعددة الجنسيات امام إحدى محاكم موسكو خلال جلسة النطق بالحكم على المدون الروسي المعارض أليكسي نافالني.
بالأمس، حل مسؤول السياسات الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل ضيفاً على روسيا في زيارة اتجهت كل الانظار الدبلوماسية صوبها، لا سيما في ظل التوتر السائد على خط موسكو – بروكسيل منذ الصيف الماضي، حين تحول التسميم المزعوم لاليكسي نافالني الى مادة دسمة لتصفية الحسابات الجيوسياسية.
في مبنى وزارة الخارجية الروسية في سمولينسكايا، حضرت قضية نافالني بقوة على طاولة المحادثات التي أجراها المسؤول الاوروبي مع وزير الخارجية سيرغي لافروف، ولا سيما في فصلها الأحدث، بعدما قررت السلطات الروسية وأد كرنفال “الثورة الملونة” التي سعى المدون المثير للجدل لاستنساخها منذ اتخذ قرار العودة من مشفاه البرليني، او ربما قبل ذلك.
ضمن هذه الخلفية، لم يكن الاستقبال الذي لقيه بوريل في سمولينسكايا دافئاً: على نحو استثنائي تقريباً، خلع سيرغي لافروف بذة الدبلوماسية واستبدلها بالزي “السيلوفيكي”، موجهاً سهام كلامه نحو الانظمة الغربية من بوابة انتهاكاتها لحقوق الانسان، وزاوج بين الكلام الصريح وبين الفعل المباشر، من خلال طرد ثلاثة دبلوماسيين اوروببين “لمشاركتهم في أعمال احتجاجية” في روسيا، وهو قرار تلقاه رئيس الدبلوماسية الاوروبية عند اول طبق أثناء تناوله الغداء مع نظيره الروسي.
هذه الاجواء المتوترة لم تكن مفاجئة تماماً، فخلال اليومين الماضيين تواترت تسريبات دبلوماسية تفيد بأن بوريل تلقى نصائح بعدم الذهاب إلى موسكو في ظل مناخ التوتر القائم منذ أن اعادت السلطات الروسية القاء القبض على نافالني لدى عودته إلى روسيا، وما رافق ذلك من تظاهرات دعا اليها مناصروه، قبل تلقيه الضربة القاضية من خلال الحكم الصادر بحقه بالسجن ثلاث سنوات ونصف السنة لانتهاكه شروط وقف تنفيذ عقوبة جرم الاختلاس المدان به قبل عامين.
على نحو استثنائي تقريباً، خلع سيرغي لافروف بذة الدبلوماسية واستبدلها بالزي “السيلوفيكي”، موجهاً سهام كلامه نحو الانظمة الغربية من بوابة انتهاكاتها لحقوق الانسان
تلك النصائح لم تبق محصورة داخل اروقة مقر الاتحاد الأوروبي بل خرجت الى العلن بمسميات مختلفة: على سبيل المثال، حثّ البرلمان الاوروبي مسؤول السياسات الخارجية على الغاء زيارته الموسكوفية احتجاجاً على تعامل السلطات الروسية مع قضية نافالني، فيما راحت وسائل الإعلام الاوروبية تعبر عن آراء مفادها أن السلطات الروسية قد تنظر إلى الزيارة على أنها علامة ضعف او بالحد الادنى مؤشراً على الليونة.
على هذا الاساس، انتظر اصحاب الرؤوس الساخنة في أوروبا أن ينتهج بوريل سلوك الغرب الاستعماري التقليدي اذا ما اصر على الزيارة، وذلك بأن يحمل معه انذاراً صارماً: إذا لم يتم الإفراج عن أليكسي، فلا مفر من فرض عقوبات أوروبية جديدة!
في نهاية المطاف، لم يعدل المسؤول الاوروبي جدول اعماله، على أمل أن يوصل الرسالة بأقل قدر من الاضرار. على مسمع مضيفيه في مقر الخارجية الروسية، كرر عبارات من قبيل الجوار الروسي – الاوروبي، والشراكة التجارية، والروابط الاستثمارية… مع التشديد على أن العلاقة بين الجانبين لا يمكن ان تعود الى طبيعتها ما دام ثمة مسائل تعكرها، وآخرها قضية نافالني، مطالباً بالافراج عنه، والتحقيق في ملابسات محاولة تسميمه المزعومة.
كان بالإمكان ان يقول بوريل كلماته تلك، وان تنتهي المحادثات عند حد كلام “لا جمرك عليه”، طالما ان المسؤول الاوروبي بدا مدركاً ان زمن توجيه الانذارات الغربية إلى موسكو قد ولى، لا بل اشار صراحة الى انه في الوقت الحالي لا يوجد حديث على الإطلاق عن عقوبات، خصوصاً انه لم يتوصل أي من دول الاتحاد الأوروبي بعد إلى مبادرة محددة في هذا الصدد.
لكن سيرغي لافروف لم يفوت فرصة التعبير عن كيل موسكو الذي طفح جراء التدخلات الغربية الفاضحة في الشؤون الداخلية الروسية.
لم يضيع لافروف الوقت في تقديم الأعذار، بل تحدث بروحية عبارته الشهيرة إلى وزير الخارجية البريطاني الأسبق ديفيد ميليباند “من أنت لتلقي علي محاضرة؟”، كما لاحظت صحيفة “كومرسانت”، في معرض وصفها للتكتيك الجديد الذي قررت روسيا المخاطرة به لصد عاصفة الانتقادات الغربية في ما يتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان والديموقراطية على أراضيها.
وفق هذا التكتيك، بادر لافروف الى شن الهجوم المضاد من خلال الاضاءة على ما يجري في الغرب من قمع عنيف للتظاهرات واضطهاد للناس بدوافع سياسية.
قبل زيارة بوريل، جرّب لافروف هذا التكتيك مرة واحدة على الاقل مع وزيرة الخارجية السويدية آن ليندي، التي زارت موسكو يوم الاثنين، فعادت الى بلادها مزودة باسطوانة مدمجة تحوي لقطات مصورة لتفريق الاحتجاجات بالعنف في الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وهي الاسطوانة نفسها التي أُرسلت الى رئيس الدبلوماسية الاوروبية عبر بعثته في روسيا، حتى قبل زيارته الموسكوفية.
لم يكتف الجانب الروسي بتسليم بوريل هذه “الهدية”: خلال المؤتمر الصحافي المشترك، استفاض لافروف في شرح اللقطات المصورة في الولايات المتحدة حيث داست سيارة للشرطة المحتجين، او في هولندا حيث سمّرت متظاهرة بقوة دفع خراطيم المياه على حائط، قبل ان يذكّر ضيفه بأنه “لم يكن هناك شيء من هذا القبيل في روسيا الاتحادية”.
حين سئل لافروف عما إذا كان النهج الذي اختارته روسيا في مواجهة الانتقادات الغربية هو نسخة محدثة من سردية تعود الى الحقبة السوفياتية مفادها ان “السود في اميركا يُعدمون من دون محاكمة”، اجاب رئيس الدبلوماسية الروسية ان ما قاله مجرد تشريح بارع لمبدأ المعاملة بالمثل.
في القاعة الاعلامية، لاحظ الصحافيون كيف ان المتحدثة الرسمية لوزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا راحت تنظر إلى بوريل مترقبة رده على لافروف، لكن الضيف الاوروبي ظل صامتاً!
بعد المؤتمر الصحافي، كانت في انتظار المسؤول الاوروبي مفاجأة غير سارة. حين ذهب الوفدان إلى الغرفة المجاورة لتناول الغداء، أظهر أحد أعضاء الوفد الاوروبي لبوريل على شاشة الهاتف خبراً اورده “راديو ليبرتي”: تم طرد ثلاثة دبلوماسيين أوروبيين – ألماني وسويدي وبولندي – بسبب مشاركتهم في تظاهرة للدفاع عن أليكسي نافالني.
عندها بادر جوزيب بوريل إلى سؤال سيرغي لافروف عما إذا كان الخبر صحيحاً أم لا، فأجابه الأخير بأن كل شيء كان صحيحاً.
في المساء، أكد بوريل انه قدم “احتجاجاً شديداً” للبلد المضيف على خلفية هذا القرار، زاعماً ان الدبلوماسيين الأوروبيين لم يشاركوا في المسيرات، بل كانوا يشاهدونها فقط، وهو ما يحق لهم القيام به بموجب اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية.
غير ان وزارة الخارجية الروسية كان لديها رأي مختلف: تصرفات دبلوماسيي دول الاتحاد الأوروبي الثلاث غير مقبولة ولا تتناسب مع وضعهم الدبلوماسي. وتعتقد روسيا أن الدبلوماسيين المطرودين تدخلوا في شؤونها الداخلية، وهو أمر لا يحق لهم، وفقًا للاتفاقية ذاتها.
كسبت روسيا الجولة، ليس فقط لكون بوريل سيعود الى بروكسيل مطأطأ الرأس امام ذوي الرؤوس الحامية في اوروبا، وانما ايضاً لكون الزيارة قد احبطت “النافالنيين” الذين راهنوا على قدرة الغرب على لي ذراع روسيا، وهو ما عبّر عنه السياسي المعارض فلاديمير ميلوف حين وصف زيارة المسؤول الاوروبي بأنها “ضعيفة بشكل كارثي”، قائلاً إن سيرغي لافروف استخدم الضيف كمنصة “لإعطاء أوروبا محاضرة عن القانون الدولي”.