رئيس تحرير موقع المراقب عمر معربوني لصدى الوطن : ” هل يبقى لبنان تحت سقف الفوضى المضبوطة أم ينفلت الشارع؟ ” .
وفيقة إسماعيل – «صدى الوطن»
عاشت مدينة طرابلس في اليومين الماضيين حالة من التوتر الشديد وصلت إلى حد الظهور المسلح وطرد الجيش من بعض الأحياء وسط احتقان شديد في الشارع تحت وطأة الأزمة المعيشية الخانقة.
التوتر في الفيحاء جاء بعد عدة أيام من قطع الطرقات في مختلف المناطق اللبنانية، إثر المزيد من التدهور الذي شهده سعر الليرة اللبنانية، في ظل فقدان العديد من المواد الغذائية والأدوية إضافة إلى أزمة الوقود المستمرة منذ أسابيع والتي لم يخفف من شدتها رفع الدعم جزئياً عن المشتقات النفطية، حيث استمر نشاط السوق السوداء ولم تغب عن المشهد «طوابير الذل» أمام المحطات.
كل هذا وأكثر، والتجاذب بين أفراد الطبقة السياسية على أشده، فيما الأجواء تشي بقرب اعتذار رئيس الحكومة المكلف مع وصول كل مساعي التقريب في وجهات النظر إلى حائط مسدود نتيجة تمسك كل طرف بموقفه، من دون الالتفات إلى المأساة التي يعيشها الشعب اللبناني، الذي بات ثلاثون في المئة من أطفاله ينامون ببطون خاوية وفقاً لمنظمة اليونيسف.
أزمة ثلاثية الأبعاد
يعيش لبنان اليوم أزمة ثلاثية الأبعاد. أولها الأزمة السياسية الناتجة عن المشاحنات الدائمة بين أفراد الطبقة السياسية والتي تعيش أزمة حكم، أما البعد الثاني فيتمثل بالوضع الاقتصادي المريع حيث وصل الاقتصاد الريعي اللبناني إلى مرحلة فقد فيها كل مقومات الاستمرار والوجود، وأخيراً، البعد الثالث وهو الأزمة المالية والتي هي السبب في كل الإشكاليات القائمة اليوم، والتي ترتبط بانخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار الأميركي.
أمام هذه الأزمات الثلاث نستطيع القول إن لبنان دخل مرحلة الانهيار المستمر والمتصاعد وكل القوى والشخصيات متفقة اليوم على أنه سائر نحو الانفجار أو «الارتطام الكبير».
هكذا يقرأ رئيس تحرير موقع «المراقب» الإلكتروني عمر معربوني الوضع في لبنان.
وعن السبب في عرقلة حل الأزمة يقول إن هذا الأمر يحتاج إلى تعريف طويل لطبيعة الكيان اللبناني، الذي أنتجته اتفاقية سايكس بيكو التي أعطته وكل الكيانات المحيطة وظائف محددة. لكن القوى نفسها التي حددت هذه الوظيفة سلبتها وأسقطتها اليوم.
ولا بد أن نذكّر هنا بزيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو للبنان في آذار 2019 حين التقى رئيس الجمهورية والقوى السياسية اللبنانية، وأعلن خلالها خمسة مطالب، أو «إملاءات»، أولها كان استجابة لبنان لكل شروط البنك والصندوق الدوليين عبر تخصيص القطاع العام وبيعه بالكامل للقطاع الخاص، وهي مسألة في غاية الخطورة. والشرط الثاني هو الطلب إلى لبنان التعايش مع الواقع الإسرائيلي عبر مشاركة اسرائيل في استثمار الغاز واستخراجه من الحقلين «8» و«9» وهو أمر لا يمكن للبنان أن يقبله. والشرط الثالث كان التوجه نحو دمج اللاجئين السوريين عبر منحهم إقامات طويلة الأمد كمرحلة أولى وكمقدمة لتوطينهم لاحقاً، والهدف طبعاً إحداث خلل ديمغرافي وطائفي.
أما الشرط الرابع فكان توطين الفلسطينيين في لبنان بشكل نهائي، وهو أيضاً يسهم في زعزعة وإخلال التركيبة الديمغرافية اللبنانية.
وأخيراً الشرط الخامس، كان استبعاد «حزب الله» عن أي دور في الحياة السياسية ومؤسسات الدولة، وبالتأكيد هذا الأمر رُفض من قبل رئيس الجمهورية وكل القوى التي تدور في فلك المقاومة، ما دفع بالولايات المتحدة إلى تنفيذ تهديداتها بحصار لبنان وتجويعه.
وإذا تابعنا التصريحات الأميركية التي تلت زيارة بومبيو للبنان، سنلاحظ أن كل ما يجري في لبنان هو بأوامر أميركية واضحة ومباشرة، ولا سيما أن ديفيد هيل وخلال جلسة الاستجواب في الكونغرس اعترف بأن الولايات المتحدة دفعت للمنظمات غير الحكومية NGO مبالغ مالية ضخمة وصلت إلى 10 مليارات دولار، كان الهدف منها شيطنة« حزب الله» والذهاب باتجاه السيطرة على مقاليد البلد من خلال ضغط تنتجه «ثورة» لم تنجح إلا في إيجاد بعض الفوضى وتأزيم الوضع الاقتصادي.
بحسب معربوني، إن الإدارة الأميركية كانت منقسمة زمن ترامب، ولا يزال هذا الانقسام قائماً في إدارة بايدن، فهناك فريق يدعو إلى الفوضى المضبوطة على شاكلة ما يحدث اليوم في لبنان، والاستمرار في تصعيد هذه الفوضى لزيادة الضغط على «حزب الله» تحديداً، وصولاً إلى الانتخابات النيابية القادمة، وفريق آخر يدعو إلى الفوضى المطلقة.
الأول يعتبر أن الذهاب إلى الفوضى المطلقة سيمكّن الحزب من حسم الأمور لمصلحته ومصلحة حلفائه، وهو ما سيؤدي حكماً إلى خروج أميركا من لبنان وإضعاف كل أدواتها على الساحة اللبنانية. وحتى هذه اللحظة، كفة الفريق الداعي إلى الفوضى المضبوطة هي الراجحة، وهذا الأمر يتبدى من خلال المحاولات المحدودة للإبقاء على بعض مؤسسات الدولة كالجيش والقوى الأمنية، لمنع الانهيار التام أو على الأقل تأجيله.
وتعليقاً على الاجتماع الذي عقد على هامش قمة العشرين بين وزراء الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن والفرنسي جان إيف لودريان والسعودي فيصل بن فرحان، يشير معربوني إلى أن الوصفة الأميركية اليوم تتركز حول صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لا أكثر ولا أقل، وهو ما يعني مزيداً من الضغط مع عدم تجاوز مفهوم الفوضى المضبوطة، أي مرحلة ما قبل الانهيار المطلق.
وبالحديث عن المزيد من الضغط في ظل اقتراب الدولار من عتبة العشرين ألف ليرة، وفقدان والأدوية والمواد الغذائية وحتى حليب الأطفال والوقود، يلفت مدير موقع «المراقب» إلى أننا يجب أن لا نتجاهل طبيعة القوى السياسية وتركيبتها والتي هي كناية عن مجموعة «قبائل طائفية»، وهذه الطبقة هي أداة من أدوات الهيمنة. ويضيف أنه، على مدار خمس أو ست سنوات في المنطقة، يمكن القول إن الإدارات الأميركية المتعاقبة تجترّ سوء تقدير الموقف، وهو ما ارتدّ عليها هزائم متتالية سواء في اليمن أو العراق أو سوريا أو لبنان، حيث أصبحت المقاومة أقوى من أي وقت مضى، وباتت تشكل تهديداً استراتيجياً بل وجودياً لإسرائيل. ولا ننسى طبعا المقاومة في فلسطين وآخر إنجازاتها في معركة «سيف القدس».
ويشير معربوني إلى أن التقدير الأساسي للإدارة الأميركية هو أن هذه الضغوط المالية على لبنان وانهيار العملة وتدهور الوضع المعيشي فيه، عوامل يمكن أن تؤدي إلى تحقيق ضغوط جدية على «حزب الله» وإجباره على تقديم تنازلات حقيقية بما يرتبط بالصراع العربي الإسرائيلي. ولكن، وكرد على الادعاء، يستحضر معربوني كلام الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله في بداية حراك 17 تشرين، حين توجه إلى الأميركيين بالقول إن هذه الضغوط يمكن أن تؤثر على الدولة اللبنانية ومؤسساتها، حتى إنها يمكن أن تصل إلى مرحلة عدم دفع الرواتب، مستطرداً بالقول يومذاك، إن «حزب الله» لن يتأثر، وسيستمر في دفع رواتب عناصره، وبالدولار الأميركي!
كانت رسالة واضحة للأميركيين لإنهاء هذه الضغوط لأن هدفها ساقط سلفاً، وهو حشر الحزب في الزاوية، وتأليب بيئته الحاضنة عليه. والواقع أثبت ذلك اليوم، بل وأكثر من ذلك، «حزب الله» قدم تحديات كبيرة عندما قال بلسان السيد نصر الله إنه لن يترك شعبه يجوع، وإنه إذا توقفت الدولة عن تزويد السوق بمختلف أنواع الوقود فسيفعل ذلك بنفسه وسيستورد من إيران كل أنواع المشتقات النفطية والأدوية والغذاء وكل ما يلزم لكسر الحصار والعقوبات غير المعلنة بوضوح كما هي الحال بالنسبة إلى سوريا، وفقاً لمعربوني.
وعن الدخول الصيني القوي على خط المساعدة في معالجة الانهيار الاقتصادي، يتحدث معربوني عن ثالوث قوي يملك كل المقومات اللازمة والمطلوبة لانتشال لبنان من القعر، عبر نقله من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، بعيداً عن المنهجية الغربية التي تشترط لمساعدة لبنان كفالة البنك والصندوق الدوليين، فيما الصين ووروسيا وإيران تشترط فقط كفالة الدولة اللبنانية.
الدول الثلاث أبدت استعدادها الكبير لدخول السوق اللبنانية بمشاريع واستثمارات ضخمة بشروط بسيطة غير معقدة وأكلاف معقولة جداً مع تسهيلات في السداد. ويلفت معربوني هنا إلى أن الروسي والصيني لديهما مصلحة اقتصادية كبيرة، فالروس تحديداً موجودون في سوريا ويعتبرون لبنان مجالاً حيوياً وامتداداً لنفوذهم، لذلك هم مستعدون حتى للدخول في مواجهة مع العوائق الأميركية.
وعن ارتباط أزمة لبنان بالمفاوضات النووية الجارية بين إيران والقوى العظمى في فيينا يقول معربوني إن لبنان هو جزء من المنطقة وليس جزيرة مستقلة، وما يحصل في الإقليم هو مواجهة بين قوى المقاومة والتحرر وأميركا كعنصر هيمنة، وبالتالي يمكن الربط، ولكن مع التأكيد أن لبنان حالياً ليس في جدول النقاش، لا في فيينا ولا في غيرها.
مسألة الموافقة على العرض الصيني أو الروسي أو الإيراني القديم الجديد، يرى معربوني أنها في عهدة الطبقة السياسية «الأميركية»، ولكن لم تتبلور حتى الآن حالة شعبية مغايرة للاصطفافات الحالية.
الانقسام العمودي الذي تشهده الساحة اللبنانية كان من إيجابياته أنه أجرى عملية فرز وحسم للتموضعات، ولم يعد هناك سوى أسود وأبيض.
والوضع في لبنان مرتبط بعملية تغيير حتمية في البعدين السياسي والاقتصادي ومتغيرات الإقليم، وإذا أردنا أن نكون موضوعيين وواقعيين علينا الإقرار بأن لبنان الذي نعرفه انتهى إلى غير رجعة، وأن الحل الوحيد هو أن تجتمع القوى الوازنة في لبنان وتعمل على تأسيس كيان جديد بوظيفة جديدة تراعي متغيرات الإقليم في الجانبين السياسي والاقتصادي، وكل ما عدا ذلك، سيدفع الأزمة نحو الانفجار الكبير وسينهي لبنان ككيان، وليس فقط كنظام ودولة.
ويختتم معربوني كلامه بالقول إنه حتى اللحظة لا يمكن لأحد التكهن بالوجهة التي سيتخذها مسار الوضع في لبنان، لكن من الواضح أن الفوضى ستتنامى.