جلسة مع أجيال الحزب الأربعة
غسان سعود | كاتب واعلامي لبناني
تجاوز “حزب الله” معضلة الأجيال الأربعة التي تحدَّث عنها ابن خلدون في الفصل الخامس عشر من الباب الثاني في مقدّمته الشهيرة؛ فإذا كان الجيل المؤسّس الأول يفاخر بانطلاقه في العمل بإمكانيات محدودة، مقارناً بين قدرات الحزب اليوم، إذ يتوفر كلّ ما يمكن أن تطلبه، وقدراته في تلك الأيام، حين كانت تنقل عدة العمل المتواضعة نفسها من عملية إلى أخرى، فإن الجيل الرابع يُذهل اليوم من سبقه بما يظهره من اندفاع وإبداع في التخطيط.
وإذا كان ابن خلدون يخشى من مخالفة الجيل الرابع لنهج أسلافه وقلبه رأساً على عقب، فإنَّ جيل الحزب الجديد يستفيد من وجود الأجيال الثلاثة السابقة، ويعمل معهم جنباً إلى جنب. وإذا كانت المعاناة هي محرّك الجيل الأول، فإنّ الانتصارات تحرّك جيل اليوم. وللمقاتل في “حزب الله” سنوات خدمة محددة (تتراوح غالباً بين 8 و12)، تسبقها وتتبعها من دون شك مهام حزبية أخرى، وهو ما يبقي التداخل كبيراً بين الأجيال الأربعة.
وقد بنى الحزب مؤسَّسة ضخمة جداً: دينية أولاً، ثم عسكرية وأمنية، ثم اجتماعية، ثم سياسية وإعلامية، وأخيراً اقتصادية، مع إدارة مالية منضبطة جداً. وخلال 15 عاماً، تطوّر الشّكل من حزب لبناني مع ذراع عسكريّة إلى حزب إقليمي يتقدم بأشواط جميع المتساوين في لبنان، وله تأثيره الكبير، سواء لدى مجموعات المقاومة داخل فلسطين المحتلة أو في دوائر صناعة القرار في كل من غزة وسوريا والعراق واليمن.
في لحظة الهجوم الأميركي والأوروبي والخليجي المكثّف والمتكرر لتغيير الأنظمة في المنطقة، فوجِئ هؤلاء بحزب لم يحسبوا له الحساب الجديّ، يضع العصي في دواليب الآلة الأميركية المدنية والعسكرية والتكفيرية والسياسية والإعلامية. ومن لبنان، إلى العراق، إلى سوريا، إلى اليمن، فـ”صفقة القرن”، وما تستوجبه من تكريس لمشاعر التطبيع، كان الحزب حجر الزاوية في بعثرة الطّموحات وتثبيت المعادلات السياسيّة في 5 دول على الأقل.
ولا بدَّ في هذا السياق من تخيّل 5 رسوم بيانية تظهر تطور الحزب منذ استنفار واشنطن في العام 2005 عسكرياً وأمنياً وإعلامياً ومالياً لتحجيمه، وصولاً إلى اليوم، وذلك على 5 مستويات: (1) جغرافيا انتشاره، (2) تأثيره، (3) قدراته البشرية، (4) معنوياته القتالية، (5) تجهيزاته اللوجستية.
على المستوى الجغرافي، كان الحزب يتحرك في رقعة محدودة جداً (نحو 2500 كلم مربع). أما اليوم، فهو يتحرك في مساحة هائلة (أكثر من 500 ألف كلم مربع). بوضوح أكثر، كانت مشكلة “إسرائيل” محصورة في 2500 كلم مربع، فيما هي اليوم موزعة على مساحة 500 ألف كلم مربع. كانت طائرات الاستطلاع تعجز عن ضبط مخيمات التدريب ومخازن الصواريخ والمصانع وغيره في مساحة 2500 كلم مربع، فيما يتوزع هذا كله في محيط من اليابسة تبلغ مساحته أكثر من 500 ألف كلم مربع، بعضه صحارى، وبعضه الآخر غابات وسهول ووديان ومدن مأهولة.
على المستوى البشري، كان عديد مقاتلي الحزب قبل الحرب السورية محدوداً. أما اليوم، فتضخ المدارس التدريبية الموزعة على الحدود السورية- العراقية آلاف المقاتلين الشباب سنوياً، والذين يمكن أن يكونوا بكبسة زر في بغداد أو الشام أو الجولان أو صنعاء أو مارون الراس أو الجليل. كان الحزب يتكل في تطويع المقاتلين على نحو نصف أبناء الطائفة الشيعية في لبنان أو كلها في أفضل الأحوال. أما اليوم، فيفتح الباب لمن يشاء من شباب العراق وسوريا واليمن…
على المستوى اللوجستي، كان التحدّي في العام 2008 يتعلَّق بشبكة اتصالات خاصة بـ”حزب الله”، فيما نتحدث اليوم عن شبكة رؤوس ذكية وشبكة مسيرات وشبكة تشويش واختراق وشبكة صواريخ مخصصة لإسقاط الطائرات وشبكة دبابات وسلاح ثقيل يمكن لمح بعضه في وثائقي “أسرار التحرير الثاني” الذي أعدته قناة “المنار”، مع الأخذ بالاعتبار أن مشروع الدخول إلى الجليل في العام 2006 كان مجرد احتمال يطمح إلى خطف بعض المستوطنين لإنضاج تسوية في حال كان “حزب الله” مأزوماً في الحرب. أما اليوم، فدخول الجليل هو مشروع كامل متكامل يفترض أن يلاقيه الفلسطينيون في مناطقهم المختلفة في ثلثي الطريق.
أما على المستوى العسكريّ، فقد تحول ما كان يوصف بالذراع العسكرية لـ”حزب الله” إلى جيش نظامي يضم قيادة، ووحدات خاصة (أكثر من خمسة)، وقوات جوية (مسيرات وغيره)، ومديرية شؤون جغرافية، ومديرية إعلام حربي، ومديرية تدريس عسكري وتدريب وتوجيه، وقوات بحرية، وأكثر من 4 ألوية، وفوج هندسة، وفوجاً لوجستياً، وفوج تدخل، وفوج مدرعات، وفوج إشارة، إضافةً إلى جهاز استخباراتي ضخم، وجهاز دفاع مدني، وجهاز طوارئ صحية، وجهاز طوارئ غذائية، وجهاز دفاع مدنيّ.
وإذا كان هذا الجهاز العسكريّ ضخماً، فإنَّ الأضخم هو الجهاز التربوي الذي يعرف بـ”التعبئة التربوية”، وهي من حيث الحجم أكبر عددياً من كل الأحزاب اللبنانية مجتمعة، من دون الحديث عن القطاعات المناطقية والكشافة والمؤسسة الدينية والماكينة الانتخابية وغيره، مع العلم أنّ كلّ من يملك المال بوسعه بناء كلّ ما سبق، لكنَّ الفارق الرئيسي يكمن أولاً في الروحية القتالية التي أثبت الحزب أن ليس بين جيوش العالم من يضاهيه فيها، والانضباط الذي كان له الفضل الأكبر في الإنجاز السوريّ.
حزب كهذا الحزب يفترض البعض أنّه قادر على هزمه بهاشتاغ من ذبابه الإلكترونيّ (بحسابات وهمية بغالبيتها)، أو بمجموعة “أن جي أوز” تعزف على الطناجر وتعانق بعضها البعض لترفع معنوياتها، أو بمجموعة شتامين في وسائلهم الإعلامية ومواقع التواصل، أو بشعلة سمير جعجع وتغريدات فارس سعيد ونظريات نجل نهاد المشنوق.
ولا شكَّ في هذا السياق في أنَّ من يجالس نفسه فقط أو يستمع إلى جهابذة السفارات فقط يمكن أن يُغش. أما من يستمع إلى الفريقين ويلتقيهما ويرافق أجيال “حزب الله” بكل ما خبروه في العقدين الماضيين، فلا يمكن أن يُغش أبداً. هناك من خسر كل معاركه من دون استثناء، وهناك من ربح كل المعارك من دون استثناء. هناك من يتحدث عن وقائع ويستعرض الحقائق، وهناك من يراكم الأوهام فوق الشعارات فوق الأحلام.
مع بدء الأحداث في سوريا، كانت هناك وجهة نظر تقول إنها تشهد نمواً اقتصادياً متواصلاً منذ بضع سنوات. ولأول مرة منذ نشأة الدولة، تتأمن غالبية الأساسيات على صعيد الدواء والغذاء والكهرباء والمواصلات، ويصعب بالتالي تأمين وقود اجتماعي- اقتصادي للثورة، فيما لا يوجد بديل سياسيّ.
ومع ذلك، فإنّ المنظّرين للثورة كانوا يُستفزون جداً من هذا المنطق، معتبرين أنَّ الأساس عند الإنسان هو كرامته والحرية، لا رغيف الخبز، لكن هؤلاء أنفسهم يقولون اليوم للبنانيين إن الرغيف والكهرباء والمازوت والمواصلات أهم من الحرية والسلاح الذي يحميها، فيدعون هم أنفسهم – باستهزاء طبعاً – من يتحدّث عن الكرامة إلى أن يطعم أولاده عزّة، وهو ما يقود بيئة “حزب الله” إلى التأكيد أنَّ “معركة الخبز” مفتعلة جملةً وتفصيلاً، وما المشاكل المعيشية اليومية سوى أدوات ضغط في معارك جانبية كان يفترض أن تستنزفه، لكنها لم تفعل، تماماً كما كان يفترض بجموع التكفيريين الذين شحنوا إلى سوريا من كلّ أصقاع العالم أن يفعلوا، لكنهم لم ينجحوا، مع التأكيد أن من يربح هذه الحروب الاستنزافية الصغيرة لا يربح الحرب. أما الأساس الذي يسمح بربح الحرب، فهو السلاح والتمدد الجغرافي وتطوير القدرات.
وهنا، يبدو الحزب مرتاحاً جداً، فهو لم يعرف منذ نشأته سنوات أفضل من هذه السنوات الأربعة على صعيد تطوير قدراته وتأمين التجهيزات البشرية واللوجستية لقضيته الأساسية المرتبطة بالصراع مع “إسرائيل”، من دون أية متاعب تُذكر. وتكفي في هذا السياق الملاحظة أنَّ الجميع اليوم يتحدث عن البنزين والمازوت والمياه والكهرباء والغلاء المعيشي، لكن لا يأتي أحد على ذكر سلاح “حزب الله”، بعدما كان هذا السلاح قبل 4 أعوام الشغل الشاغل للجميع في الداخل والخارج، مع العلم أنَّ طرق الإمداد الخاصة بهذا السلاح (الذي يمثل الهدف الرئيسي لكلِّ ما تفعله الولايات المتحدة في المنطقة) لا تتأثر بانقطاع الكهرباء أو شحّ المحروقات أو تدمير العملة الوطنية.
عودٌ على بدء، حين يتعلّق الأمر بـ”حزب الله”، فإنَّ اللقاء مع البيئة الحزبيّة غالباً ما يشمل 4 أجيال. مجرّد رؤية هذه الأجيال الأربعة تتآزر في التفكير لمواصلة التقدّم هو أمر استثنائي لا يمكن رؤيته في أيِّ مكان آخر، إذ تطغى غالباً تناقضات الأجيال على كلِّ شيء آخر.
هذه الأجيال الأربعة تظهر تفاؤلاً كبيراً في الانتقال الواضح في المواجهة المباشرة من الوكيل إلى الأصيل. الحرب ليست مع “إسرائيل” أو مع رياض سلامة أو مع منظمات المجتمع المدني أو سائر الأدوات، إنما مع من يمول كلّ هؤلاء ويحرّضهم و”ينفخ الخسّ في رؤوسهم”.
وإذا كان الحزب حريصاً جداً على عدم تبني أي عملية من العمليات الموجهة ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا أخيراً، فإن الولايات المتحدة تعرف جيداً أن حجر الزاوية في صمود كل هذه المنطقة وإسقاط كل ما كان مرسوماً لها هو “حزب الله”، تماماً كما تعرف أن ما حققه الحزب تعجز عن تحقيقه ألف قنبلة نووية إيرانية. تعرف الولايات المتحدة جيداً كل ما سبق، وتعرف أنَّ “حزب الله” يعرفه أيضاً، وكذلك إيران وروسيا والصين.