استراتيجيا

المعركة بين الحروب – الجزء الثاني

الدكتور احمد عز الدين | باحث مصري في الشؤون الإستراتيجية .

كان ” ريفرز ويلسون ” وزير المالية البريطاني في حكومة ” نوبار باشا ” هو صاحب مقولة ظلت تتنفس في خلايا العقل الاستعماري ، على امتداد عقود ، وكان نصها يقول : (لقد كان ظهور الجيش المصري المفاجئ على الساحة السياسية أسوأ ما حدث في القرن التاسع عشر ) ولهذا كان لابد من ضربه وتحطيمه ، وإطفاء شعلته المتقدة .
وقد جددت المقولة نفسها ، في منتصف القرن العشرين ، مصحوبة بدورها بأسلحة مشرعة ، وُظفت لضرب الجيش المصري ، وتحطيم وإطفاء شعلته المتقدة ، وأظن أن نصا مقاربا ، قد عاود التنفس ، في خلايا هذا العقل ، في السنوات الأخيرة يقول : (إن ظهور الجيش المصري المفاجئ ، على الساحة السياسية ، أسوأ ما حدث في القرن الواحد والعشرين)ٍ ، ولهذا فإن محاولة استخدام كافة الأسلحة لضربه ، وتحطيمه وإطفاء شعلته المتقدة مجددا ، ليست من قبيل الرجم بالغيب ، أو قراءة الطالع ، كما أنها ليست من قبيل المبالغة أو التوهم ، فهي تعبير عن قانون علمي ثابت ، فالقانون العلمي في تعريفه هو الكشف عن علاقة بين ثابت ومتغير أو أكثر ، ولذلك فالذين يتصورون أيا تكن نواياهم أو خياراتهم السياسية والفكرية ، أن الجيش المصري ليس هو الهدف الأكبر والأخطر والأهم ، الموضوع على إحداثيات المدفعيات الثقيلة الموجهة إلى مصر ، يجردون أنفسهم من الحسّ التاريخي ، والرؤية التاريخية ، أما الذين يشاركون بوعي أو بغير وعي ، في تحويل الجيش المصري إلى هدف ، فهم يضعون بأيديهم القنابل في أفواه هذه المدفعيات الثقيلة المضادة ، ويساهمون بحسن نية أو سوء قصد ، إلى دفع مصر إلى حالة من الاحتراب والفوضى .
غير أنني تخيلت معارضا غاضبا ، سوف يدفعني مستنكرا قولي بأن الجيش المصري ما يزال هو الجيش المصري ، وأنه أحد الثوابت الوطنية الراسخة ، التي لا تقبل تحولا ولا تغييرا ، كأقانيم الليل والنهار ، نعم في يقيني أن الجيش المصري ، ما يزال هو الجيش المصري ، وذلك عندي لا يتولد من الفراغ ، ولا يأتي من رؤية موروثة ، ولا من نزوع أيديولوجي أو نظري ، ولكنه يتطابق حرفيا ، على ما حدث ويحدث في الواقع ، وفي التجربة العملية المختبرة بمساراتها التاريخية الممتدة .
لقد خاض الجيش المصري في صمت ، خلال السنوات الأخيرة معركة لا تقل نوعا ودرجة عن معاركه التاريخية المشهودة ، ولا أقصد بذلك الحرب على الإرهاب ، وإنما معركة بناء قوة نيران ، تسعى جاهدة إلى أن تتكافأ مع التهديدات الحالّة والبازغة والمتوقعة والمنتظرة ، وذلك في ظروف شدة وعسر ، ووسط تراكم تسليحي غير مسبوق في الإقليم والعالم ، ووسط بيئة استراتيجية مشبعة بالمتغيرات والمخاطر ، مدركا منذ اللحظة الأولى أن مفهوم القوة ، يعود في العالم كله إلى معناها الاصطلاحي القديم ، وهو القوة العسكرية ، ولقد مثل هذا التوجه اتجاه المجهود الرئيسي للدولة خلال هذه السنوات ، بل استطيع القول أنه بحسابات الزمن ، فقد زاد استثمار الوقت ، على أن يكون مضاعفا ، والأمر نفسه في استثمار ما اتاحته الموازنة وغيرها من تمويل ، لا يقارن بكافة أغلب وحدات الإقليم ، فضلا عن العالم شرقا وغربا ، والبيانات موجودة ، والوثائق مطروحة للعيان ، بل أنني أزعم أن الجيش المصري وحده ، هو الذي حقق تراكما كيفيا ، لا مجرد تراكم كمي ، يمكن اخضاعه لحسابات جدول الضرب .
في هذه المساحة أيضا فإن الجيش ظل متمسكا بالقواعد الرئيسية للأمن القومي ، وبالأعمدة الراسخة لعقيدته القتالية ، وبكونه كما ظل عبر تاريخه الحديث والمعاصر ، تعبيرا بنيويا عن الوطن ، يمثل كافة خرائطه ، اجتماعيا وطبقيا وسياسيا ، وثقافيا ، وجغرافيا ، بديموقراطية فريدة ، هي ضريبة الدم ، فالجيش المصري في المحصلة النهائية ، هو صورة مصر الواقعية في مرآة الزمن ، كما هو صورتها في مرآة اللحظة .
أما ما يتعلق بظهور الجيش على ساحة السياسة ، الذي يراه البعض ومنهم من يرتدون قميص عبد الناصر ، يمثل خروجا من الجيش عن مهمته الأساسية ، وهي القتال دفاعا عن الحدود الوطنية ، فالجيش ليس معنيا فقط بصيانة الحدود الوطنية أو خفارتها ، فمن الممكن أن تكون الحدود مخفورة عسكريا ، ولكنها ليست محصّنة استراتيجيا ، ولهذا فإن جانبا جوهريا من وظيفة الجيش يتعلق في مجمله بالحفاظ على الكيان الوطني ، حدودا ووجودا واستمرارا ، ولعل هذا ينقلني إلى أدق تعريف لهذه الوظيفة ، أما صاحبه فهو جمال عبد الناصر نفسه ، فوفق كلماته نصا ( إن الجيش لا ينبغي أن يعمل بالسياسة ، ولكن ينبغي أن يظل قوة في السياسة ) وبمقدور الذين يفسرون بعقل مفتوح نصا مضيئا وناصعا ، على هذا النحو ، أن يتأكدوا أن الجيش المصري في كل ما يفعله ويقدمه ، إنما يجئ ترجمة صحيحة لمعنى أن يظل قوة في السياسة ، في ظل ضرورات ملزمة ، لقد تدخل الجيش فيما تدخل فيه ، من قطاعات ليعيد جانبا من التوازن المختل في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بل والفكرية ، وفي مواجهة جماعات ضغط منظمة مفتوحة على الخارج ، تريد أن تحتكر لنفسها كعكة الاقتصاد الوطني كاملة غير منقوصة ، ومن المؤكد أن الجيش المصري ليس مسئولا عن أي من الأزمات ، التي ترزح أحجارها فوق صدور المصريين ، في الصحة أو التعليم أو الإعلام أو الثقافة ، أو الأسواق غير المتوازنة ، والاحتكارات غير المبررة ، وكلها ظواهر غير قابلة للانكار ، وكلها منتوج حكومات ممتدة متعاقبة ، تغلغلت فيها روح البيروقراطية ، واختنقت روح السياسة ، وتلك زاوية صحيحة في توصيف ، أي من هذه الأزمات ، إلى جانب أن مفهوم الأمن السياسي ، لم ينظر إليه بالقدر الكاف ، كعنصر حاكم في حسابات تقدير الموقف في عديد من الخيارات .
لماذا الآن إذا يوضع الجيش في قلب لوحة التنشين باتهامات معممة بالتجاوز والفساد ؟ مع أن الهدف المباشر قد يبدو تخفيض الروح المعنوية للشعب تجاه قواته المسلحة ، إلى جانب التأثير في الروح المعنوية داخل صفوف هذه القوات .
أولا : لأن العقل المضاد يرى ، أن اللحظة مناسبة ، وأن تقدير الموقف عنده أن منسوب الحالة المعنوية العامة في المجتمع ، ليس في أفضل حالاته ، فالجسور التي تحمل الطبقات الاجتماعية المتوسطة والدنيا ، تأنّ تحت وطأة أثقالها ، والأعمدة التي تحمل هذه الجسور ، قد صارت مجهدة إلى حد بعيد ، وبالتالي فإن توجيه هذه الحالة المعنوية ، إلى ناحية الجيش ممكنة ، خاصة إذا ما اقترن خطاب التحريض بالمال تجاوزا أو فسادا .
ثانيا : إن واقع التراكم التسليحي والتدريبي في القطاعات الرئيسية بالجيش ، قد وصل إلى مستوى سوف يؤدي في مرحلة وشيكة ، إلى صياغة واقع جديد بموازين قوى جديدة في الإقليم ، وهو أمر لا ينبغي السماح له بالمرور ، مهما تكن حسابات التكلفة .
ثالثا : أن جماعات الضغط المنظمة التي استقوت على الحكومات المتعاقبة ووسعت من أنصبتها في كعكة الاقتصاد الوطني ، مستعينة بضغوط الخارج ، قد أوصلت هذا الاقتصاد إلى حالة يتوجب معها ، أن تدفع ثمنا من عوائدها الهائلة ، وأن تحرير جزء مناسب من سطوتها واحتكارتها ، قد صار أمرا حتميا ، ويشكل ضرورة لصيانة هذا الاقتصاد والتوازنات الاجتماعية المحيطة به ، فضلا عن أن مواجهة الفساد ، قد أخذت طابعا يتسم بالحزم والجدية ، وهو ليس بعيدا عن مجمل أعمالها وأنشطتها .
إذا كان الجيش إذا مستهدفا ، فما هي طبيعة هذا الاستهداف ، وما هي ملامح استراتيجيته ، أحسب أن الاستهداف ومراحل استراتيجيته سابق التجهيز ، ولعلي لا اتجاوز إذا ضربت مثلا بواقعة خاصة ، مر عليها أكثر من عقد ونصف ، فقد استدعاني أحد قادة القوات المسلحة ، وبعض دقائق قليلة تضمنت حوارا قصيرا ، أجلسني مكانه على مكتبه ، وترك أمامي ، خطابا بالإنجليزية موجه من الاتحاد الأوربي إلى الرئيس مبارك ، ومحول من الرئيس مبارك إلى المشير طنطاوي ، وكان مضمونه ، يتعلق بطلب محدد وهو أن يسمح لجمعيات التمويل الأجنبي ، بإدخال أفرادها وأنشطتها ، إلى داخل وحدات القوات المسلحة لمراقبة حقوق الإنسان ، داخل صفوف الجيش المصري ، وكان المطلوب مني ، كما أُبلغت محددا ، أن أكتب ردا من المشير إلى الرئيس يتضمن ، ما يشكل قناعة صلبة ، بالأضرار الوخيمة ، التي ستصيب الأمن القومي المصري ، إذا ما تمت الاستجابة لمثل هذا الطلب ، الذي يتحتم رفضه ، وقد كتبت ما أعرفه وما أؤمن به ، وانقطعت صلتي بالموضوع تماما .
هل أريد أن أقول أن المطلوب الآن ، كسابقه ، قبل خمسة عشر عاما ، لا أعتقد ذلك ، فقد تجاوز الوضع والوقت ذلك بكثير ، لكن إذا كان الجيش المصري هو الهدف الاستراتيجي فعلا ، فقد يقول قائل ، هل يصلح ممثل رخيص ، ومقاول فاشل ، لأن يمثل قوة دفع رئيسية في هذا الاتجاه ، بمعنى آخر ، إذا كان المطلوب حفرة هائلة على مقاس جيش كبير ، فهل تصلح أبرة صدئة لاتمام حفر هذه الحفرة ، من المؤكد أنها لا تقدر ولا تصلح ، ولكن مهمتها بالضبط ، هي رسم حدود هذه الحفرة ، ثم يأتي من بعدها ، من يعمقون هذه الحدود ، ثم من يعمقون جنباتها ، قبل أن تدخل الآلات الثقيلة لاتمام عملية الحفر ، ثم الإزاحة .
فوق ممر استراتيجية مضادة ، متعددة المراحل ، لا تمثل هذه الأبرة الصدئة إلا مرحلتها الأولى ، ودورها وهدفها ، إشاعة مناخ من الإحباط والتشكيك والكراهية ، وخلخلة البيئة الداخلية ، على نحو يسمح ، بفاعليات واختراقات أكثر عمقا ، تتزامن معها ضغوط خارجية ، ذات عوائد مؤثرة على الداخل الوطني ، وأنماط من الإكراه السياسي والاقتصادي .
باختصار شديد ، تلك هي الطلقة الإشارية للحرب على مصر ، وقد بدأت ، لكننا في مرحلة أولى منها ، هي في حد ذاتها إحدى صور ( المعركة بين الحروب ) .
الخلود للشهداء ..
المجد للجيش المصري العظيم .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى