السعودية الجديدة!
الدكتور بسام ابو عبدالله | باحث سوري خبير في العلاقات الدولية .
عنوان مقالي اليوم مستوحى من كتاب جديد صدر في بيروت للصديق الباحث د. فؤاد إبراهيم بعنوان «السعودية الجديدة – لعبة الحافات»، ويبدو لي أن هذا الكتاب مهم لسبب أساسي أن مؤلفه من أبناء البلد، وكتبه بلغة علمية موضوعية وتحليلية، تبتعد عن اللغة التي عهدناها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أي لغة السب والشتم والإهانة، وهي لغة لا تجعل أي باحث موضوعي يفهم حقيقة التحولات التي تجري في السعودية، وهل هي حقيقية وعميقة، أم مجرد فقاعات إعلامية كما يروج البعض لذلك؟ ومناسبة تناول هذا الموضوع هو الحديث المطوّل لولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى قنوات تمولها المملكة، ونشرته صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية.
وإذا كنت لست من المعنيين بالشأن الداخلي السعودي، لأن أهل مكة أدرى بشعابها، لكنني معني بالتحولات في السعودية، وانعكاساتها على صعيد المنطقة، وسورية بشكل خاص، ويبدو واضحاً من حديث ولي العهد السعودي أن السعودية بدأت تبحث عن مخارج لمآزقها، ومنها ضرورة ترطيب، وترتيب العلاقات مع إيران في ضوء الخطوات المتسارعة التي تتم في فيينا لإنجاز عودة الولايات المتحدة الأميركية للاتفاق النووي، وهو أمر عارضته السعودية في مرحلة الرئيس باراك أوباما، وظهر ذلك من خلال توتر العلاقة السعودية الأميركية خلال تلك المرحلة، لكنها عادت مرة أخرى للبريق في عهد ترامب الذي حدد معادلة جديدة هي «المال مقابل الحماية».
المتغير الأهم، أنه بعد أكثر من 76 عاماً من لقاء الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت مع مؤسس السعودية الملك عبد العزيز آل سعود، على متن الباخرة كوينسي في شباط عام 1945، الذي أسس لمعادلة «النفط مقابل الحماية»، فإن أميركا نفسها لم تعد بحاجة كبيرة للنفط السعودي، فقد دخلت نادي المنتجين عام 2018 متجاوزة السعودية وروسيا، وستصبح عام 2023 أكبر منتج للسوائل النفطية في العالم، ومكتفية ذاتياً بحلول العام 2030، وهذا كله دفع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب للتعبير عن هذه المعادلة الجديدة، وبلغته الوقحة المعهودة قائلاً: «إن دولاً في المنطقة، وبعضها غني للغاية لن تدوم أسبوعاً واحداً من دون حماية الولايات المتحدة»، وأضاف: «نحن نحميهم، وعليهم الآن أن يكثفوا، ويدفعوا ثمن ذلك»، والحقيقة أن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما عبّر عن ذلك قبلاً بقوله: «إن الولايات المتحدة لن تقاتل بعد الآن نيابة عن أحد»، ومع سقوط ترامب الذي عول عليه ابن سلمان، ظهر بايدن بسيف مسلط آخر يتمثل بـقضية اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي، وحقوق الإنسان، ووقف الحرب في اليمن، والنتيجة المطلوبة هو ما قاله ترامب سابقاً «تسديد الثمن المطلوب»، وهو أمر حاول ابن سلمان التخفيف منه عندما قال في مقابلته قبل أيام «إن نسبة الخلاف مع الولايات المتحدة لا تتجاوز 10 بالمئة فقط»، وفي كل الأحوال نرصد من كلام ابن سلمان محاولة لتهدئة الداخل السعودي، وطمأنة الإقليم أي إيران، واليمن، وإبراز الإشارة لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وأهمها «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول»، واحترام سيادتها واستقلالها، وهو أحد أهم مبادئ ميثاق جامعة الدول العربية أيضاً.
إذا أردنا الآن أن نقرأ التحولات الجارية في المنطقة فسوف نرى ما يلي:
1- تحولات تركية واضحة من اتهام ابن سلمان بقتل خاشقجي إلى احترام قرارات المحكمة السعودية، مع سعي للتقارب مع مصر والإمارات.
2- مفاوضات إيرانية سعودية تجري في بغداد، وحديث ابن سلمان الودي تجاه إيران في المقابلة يوحي بأجواء جديدة تأخذ بالحسبان مفاوضات فيينا النووية، والتحولات الميدانية في اليمن.
3- أما سورية، فهي القطبة المخفية في كل ما يجري، ذلك أنه من الواضح أن الإمارات هي التي تقود جهوداً مع عُمان من أجل التمهيد للعودة لجامعة الدول العربية كجسر أولي للتسويات القادمة.
4- قيام السعودية بإغلاق مكاتب ما يسمى «الهيئة العليا للتفاوض» وتخفيف التمويل، لقناعتها بأن زمن استخدام هؤلاء قد انتهى، وعليهم البحث عن حلول، وخاصة أن السعودية كغيرها اكتشفت، أو هي تعرف أن وزن هؤلاء «الإمعات» في التسويات الإقليمية يساوي الصفر، وإذا كان رئيس النظام التركي رجب أردوغان قد أغلق فم «إخوان مصر» بعد أن وجد أن كلفة استثمارهم قد أصبحت أعلى من كلفة فائدتهم، فالاعتقاد أيضاً أن السعودية أدركت الأمر نفسه تجاه من سموا أنفسهم معارضة سورية، يعتاشون على موائد السعودية، وقيمتهم في الشارع السوري تساوي لا شيء.
5- إن ما أشار إليه ابن سلمان لضرورة احترام ميثاق الأمم المتحدة، وعدم التدخل في الشأن الداخلي للدول هو أمر جوهري، ففي الوقت الذي ننظر إلى رؤية السعودية 2030 على أنها شأن داخلي سعودي، بالرغم من إمكانية نشر الكثير عنها، فـعلى المملكة أن تتوقف عن الحديث على الشأن الداخلي السوري مثلاً، وخاصة من أولئك الكتبة الذين يكتبون بالأجرة لديها، والذين آن لهم أن يهتموا بدعم رؤية السعودية 2030، والتسويق لها أكثر من اهتمامهم بالانتخابات الرئاسية السورية، وشكل نظام الحكم في سورية، ومستقبل سورية، الذي يقرره السوريون بأنفسهم، الذين أنتجوا أول دستور لبلادهم منذ مئة عام.
ما أريد قوله باختصار، إن صمود الشعب العربي السوري وجيشه ورئيسه خلال سنوات عشر من الحرب الفاشية على بلادهم، هو درس يجب أن يقرأه الجميع، وإن الوهابية والتطرف والإخوان، أصبحت أداة قاتلة بيد من استخدمها، وخطرة على شعوب المنطقة، ووحدة مجتمعاتها، إذ آن الأوان لنفهم أن الاهتمام بمستقبل شعوبنا والتنمية والازدهار هو أساس للأمن القومي لأي دولة، وإذا كانت سورية قد وصلت قبل بدء هذه الحرب الفاشية عليها إلى أرقام مبشرة اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وصحياً، وكانت تسير في الاتجاه الصحيح، فإن فاشية الحرب والقتل، والتدمير أرجعتها للخلف، وفي الوقت نفسه تركت آثاراً انعكست على الأمن القومي لدول الخليج، حتى على السعودية نفسها.
من يعتقد أن أمنه القومي يبنى على الحماية الخارجية مخطئ، فالأمن القومي يبنى على استقرار الآخرين، والمحيط الإقليمي، والجوار، وعلى معادلات التنمية الداخلية، وهو ما حذر منه الرئيس بشار الأسد منذ بداية الحرب على سورية، إذ إن الزلزال الذي أشار إليه يحدث الآن، والكل يبحث عن مخارج للنجاة، وإذا كانت السعودية الجديدة تتغير فعلاً، لا أعتقد أن عربياً سيزعجه ذلك، لأن التحولات تجتاح العالم بأسره، وبحاجة لمقاربات ناضجة، وجديدة تجاه ما جرى، ويجري، وأول الأجندة، سورية الصامدة الصابرة القوية العزيمة التي على الجميع التعلم منها، ومراجعة مقارباتهم تجاهها، لأنها مركز العالم كانت وما زالت وستبقى، وإن غداً لناظره قريب.