كتاب الموقع

كتبت ليندا حمورة | وطنٌ على ضفّة الغياب

ليندا حمورة | كاتبة وباحثة لبنانية*
صعبٌ جدًّا أن تكون العائلة كخيط من نور، متماسك الأطراف، ملتفًّا حول دفء واحد، ثمّ يأتي الزمان، بفأس من جليد، يضرب ذلك الخيط، فينفرط، وتتناثر أنجمُه في جهات الأرض. فجأة، يغدو كلُّ فردٍ في قارة، وتفصلنا المحيطات كما تفصل القبورُ بين الأحياء والموتى. لا نعود نلتقي إلا كما تلتقي الغيمات الهائمة في صُدَف الرياح، مرّة في العام أو أقل، ونكمل العمر غرباء إلّا عن الذكرى.
الغربة… يا وجعًا يُنبت في القلب صقيعًا لا يُذيبُه الحنين. الغربةُ تربةٌ سوداء، لا تُثمر إلّا الحنين، وتدفن في أعماقها دفءَ اللُّحمة، وعطرَ الأُلفة، وتذيب خيوط الترابط كما يذوب الشمع في مواقد الرحيل. نصبح كزهرة زنبقٍ مقطوعة، ملقاة على قارعة الطريق، لا أرضًا نُظلُّها، ولا ماءً يروينا، نذبل ونحن نبتسم للذاكرة.
ما أسعد من لا تزال عائلته تفيضُ حوله كجدولٍ دافئ! ذاك إنسانٌ اختارته الحياة ليعيش الفرح الحقيقي، والطمأنينة في وطنٍ مصغّر اسمه “البيت”. أمّا الوطنُ الذي يترك أبناءه يتسربون من بين أصابعه كما يتسرب الرمل من كفٍ مُرتجفة، فهو وطنٌ خاسر. ولا يستعيد ربحه إلا إذا جاهد ليستعيدهم، وضمّهم إلى صدره كأمٍّ تقاتل لتستردّ أبناءها من يد الغياب.
ولكن… هل يأتي ذاك اليوم؟
هل سيحتضننا الوطن يومًا كما نحتضن حلماً لا نريد له أن ينكسر؟
هل سيحمي أبناءنا من لهيب الغربة ويفتح لهم ذراعين من أمل؟
لست أدري… ولكنّي أرجو.
والرجاء، وإن طال، لا يزال نافذةً صغيرة تطلّ منها الشمس على قلوبٍ بردها النفي والشتات.
*نائب رئيس تحرير موقع المراقب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى