الجنرال الذي هزم العدو حياً ولاحقه ميتاً
بعبارة"انتقام سخت"، شعرت بالتصميم والقسوة التي تحملها العبارة، رغم أني لم أعرف معناها بدقة، والأهم رغم أنّ هذا الـ"سخت" لست مستهدفاً به، وتساءلت حينها عن وقع هذا الـ"سخت" على المعنيين به والموجه لهم، وفي الردّ الأولي حين قامت إيران بقصف قاعدة عين الأسد،
ايهاب زكي – كاتب وباحث فلسطيني
خاص (اسلام تايمز) – تعتمد”إسرائيل” على دوائر أمان متتالية ومتراصة، وتعتبر أنّ دوائر أمانها تمتد حتى باكستان، حيث تقسيم الجغرافيا إلى دوائر قريبة فبعيدة فالأبعد، ولم تكن تتوقع في أشد كوابيسها حلكةً، أنّ هناك شخصٌ يستطيع اختراق هذه الدوائر، أو حتى تراوده نفسه عن ذلك، مهما أوتيّ من قدرةٍ على التفاؤل والحلم، فكيف وأنّ شخصاً أحال دوائر الأمان هذه إلى أحزمةٍ من صواريخ، وجعل من قواعد الأمن”الإسرائيلي” خرافة، غير قابلة للصمود أمام أول اختبارٍ حقيقي.
فقد كانت”إسرائيل”تدرك خطورة عالمها، وتعرف كم هو عالمٌ قاسٍ وموحش بوجود الجنرال قاسم سليماني، وتدرك في ذات الوقت أنّ الاقتراب من دمه، مجازفة أشبه بعلاج الصداع بقطع الرأس، لذلك كان التهور الترامبي هو خشبتها الأخيرة للخلاص، فأصبح عالمها كما تظنه أفضل وأكثر أماناً، ولكن يبدو أنّ”إسرائيل” التي كانت معجبةً بإصرار الحاج قاسم سليماني، تعيش الآن آثار إصراره على أن يظل عالمها مخيفاً ومخضباً بالرعب الأسود.
لست ممن يتقنون اللغة الفارسية، ولكن حين رأيت الشعار الذي رفعته إيران لثأر الحاج سليماني، بعبارة”انتقام سخت”، شعرت بالتصميم والقسوة التي تحملها العبارة، رغم أني لم أعرف معناها بدقة، والأهم رغم أنّ هذا الـ”سخت” لست مستهدفاً به، وتساءلت حينها عن وقع هذا الـ”سخت” على المعنيين به والموجه لهم، وفي الردّ الأولي حين قامت إيران بقصف قاعدة عين الأسد، ودخل ترامب إلى الإجتماع بجنرالاته مزمجراً ومهدداً بالرد، خرج كالحمل الوديع ليعلن أنّ الأمر انتهى، ويبدو أنّه شعر بالـ”سخت” خلال الاجتماع من تقارير جنرالاته، حيث دقة الإصابة وحجم الدمار، وأنّ الجنرالات فهموا أنّ إيران ليست نمراً من ورق، وأنّ القواعد الأمريكية لا تستطيع مجابهة من لديه القدرة على فعل هذا بعين الأسد، وأنّ إصرار ترامب على الردّ، سيجعل من الجيش الأعظم في العالم مجرد أضحوكة، وستخسر الولايات المتحدة هيبتها، والهيبة بالنسبة للإمبراطوريات هي حجر الزاوية لديمومة الهيمنة، لذلك فهي الخسارة الأشد من خسارة الجنود والعتاد، فعودة جنودها أفقياً مع هيبة، أفضل ألف مرةٍ من عودتهم عمودياً بلا هيبة، فكيف بالعودة أفقياً وبلا هيبة، وهذا فقط ما جعل ترامب يخرج موادعاً مع محاولة لملمة الهيبة، وهو يقف بين جنرالاته يتكللهم الخزي.
كان ما يسمى الربيع العربي أشبه بحصان طروادة الذي تسللت”إسرائيل” من خلاله، وكان الهدف من إسقاط سوريا، هو قطع حلقة الوصل وعمود خيمة محور المقاومة، فتصبح سوريا دولة مطبعة، ويتم قطع خطوط إمداد حزب الله والمقاومة الفلسطينية، ويفقد لبنان عمقه الاستراتيجي وتفقد غزة داعمها الاستراتيجي، وتنعزل إيران ويتم محاصرتها داخل حدودها، ولكن صمود الجيش العربي السوري اضطر دول العدوان للانتقال إلى الخطة”ب”، وهي افتعال ما أطلقوا عليه”حرب المئة عام”، حيث تدخل المنطقة في صراعٍ مذهبيٍ دمويٍ بلا أفق، يمزق الجغرافيا كما يمزق النفوس كما يمزق المصير، واختلقوا داعش وكل أشباهها لهذا الغرض، فكانت همجيتهم صادمة ومرعبة، فسيطروا على أجزاء واسعة من العراق وسوريا، وقال أوباما في حينها”إنّ القضاء على داعش يحتاج لثلاثين سنة”، وهذه القناعة لا تنبع إلّأ من ثقة الصانع بصنعته قطعاً، ولكن يبدو أنّ أوباما حين كان واثقاً إلى هذا الحد، لم يكن يعرف الجنرال سليماني، وحين تمت صناعتها لم يأخذوا بالحسبان جحيم سليماني، فالمواصفات الأعلى التي وضعوها في هذا المنتج، لم يكن يخطر في بالهم أنّ هناك فوة على وجه الأرض، قادرة على الصمود فكيف بالانتصار، وخلال ثلاث سنوات كانت داعش تلفظ أنفاسها الأخيرة، لتكتشف الولايات المتحدة وتعرف”إسرائيل”، أنّ هناك رعباً متجولاً اسمه سليماني.
إنّ استراتيجية دحر الولايات المتحدة عن المنطقة، والتي أعلنتها إيران على سبيل الانتقام لدماء الحاج قاسم سليماني، هي عمل يحتاج إلى وقت لكن تحقيقه سيؤدي لتغيير الخرائط العالمية، فالرجل ليس شخصيةً عابرة ليكون ثأره عابراً وانفعالياً، فالولايات المتحدة لطالما اعتبرت أنّ الشرق الأوسط هو قلب الإمبراطورية الأمريكية، وإخراجها من هنا يعني انتزاع قلبها، بكل ما يمثل ذلك من أفولٍ للعصر الأمريكي، فأخطر ما في الانتقام الإيراني ديمومته، على عكس ما يظنه الكثيرون، من أنّ ردّ الفعل كان باهتاً، فالإبقاء على الحساب مفتوحاً وسيف الانتقام مسلطاً، هو استنزاف للعدو من خلال حالة الاستنفار الدائمة، وحالة إرباكٍ دائم تجعل من الإنتقام السريع والمباشر مجرد نزهة، وحين تقول إيران أنّ كل من أمر ونفذ جريمة اغتيال سليماني سيدفع الثمن على لسان المرشد الأعلى، فإنّ من أمر ومن نفذ يعرفون الإصرار الإيراني، فقد عاينوه واختبروه في شخص الحاج سليماني، كما يعرفون أنّ الصبر الإيراني لا حدود له، ويعرفون أنّه ليس حيلة العاجز بل صبر الواثق، لذلك فأعتقد أنّ التاريخ سيكتب عن رجلٍ هزم العدو حياً ولاحقه ميتاً، وسيؤرخ أنّه في يوم استشهاده بدأت الإمبراطوريات بتحسس رأسها، وبدأت الجغرافيا بتحسس حدودها وأطرافها.