التقرير الاستراتيجي الأسبوعي : بين الحزب والقاضي والقوّات …سرٌ أميركي؟
الدكتور سامي كليب | رئيس تحرير موقع لعبة الأمم
كان من المُنتظر أن يعيش حزب الله أفضل لحظاته بعد شبه اختفاء صوت داعش في العراق وسوريا، وتقدّم أنصار الله الحوثيين في اليمن، ومشارفة الحرب السورية على الانتهاء، وتربّعه على عرش القرارات اللبنانية بلا منازع حقيقي، لكنه منذ انقشاع غبار المعارك الكُبرى في الإقليم، وجد نفسه مطوّقا بالمشاكل الداخلية اللبنانية، فصار في قفص الاتهام عند البعض منذ انتفاضة 17 تشرين وتفجير المرفأ وانهيار الوضع الاقتصادي، وواجه معارضة شرسة أو اشتباكات مُسلّحة من قبل البعض بأبعاد مذهبية أو طائفية (مع العرب السُنّة في خلدة، ومع الدروز في شويا الجنوبية، وأخيرا مع المسيحيين في الطيّونة).
فهل ثمة محاولة أميركية فعلية لإغراق الحزب بمشاكل داخلية قبل الانتخابات وترسيم الحدود واتضاح افق التفاوض الأميركي-الإيراني؟
تفجير المرفأ وأحداث الطيّونة:
تفجيرُ مرفأ بيروت ليس أمراً عابراً، وكذلك مجزرة الطيّونة قبل أيام، هذان الحدثان الأمنيان الخطيران، صارا محور الاشتباك العنيف بين الحزب والولايات المتحدة الأميركية، لذلك يعتبر الحزب أن إقالة القاضي طارق بيطار انتصار له في معركته ضد واشنطن وهو سيُكمل اقصى الضغط باتجاه اقالته مهما كلّف الأمر، ويبدو أن تهديده للقوات اللبنانية بألف مقاتل رسالة الى الاميركيين وليس الى القوات فقط.
ماذا في المعلومات حول تفجير المرفأ أولا
الحزب مقتنع بأن واشنطن دخلت على خط التحقيق وأن لها تأثيرا كبيرا عليه، رغم كل ما يقوله عارفو قاضي التحقيق عن صلابته وعدم خضوعه لأي املاءات تاريخيا. فحين يُسأل المقرّبون من الحزب عن ذلك يقولون ” حتى لو أن القاضي كان صلبا وشريفا في الماضي، فلكل انسان ثمنه بالنسبة للخارج وعلى الأرجح فالقاضي تغيّر “.
يتم تناقل معلومات تفيد بأن السفيرة الأميركية في بيروت قالت في أحد لقاءاتها هذا الصيف:” سأكون منزعجة تماما لو لم توجّه أصابع الاتهام على الأقل لمسؤول واحد من حزب الله”
الحزب الذي لا شك يتابع تحرّكات القاضي عن قرب، يسرّب معلومات تفيد بأن بيطار التقى مسؤولين أميركيين وكذلك السفيرة الأميركية. وحين سُئل القاضي بيطار من قبل مؤسسة قضائية لبنانية عن حقيقة هذه الاتصالات، قال انها طبيعية في إطار الاستماع الى المعلومات الأميركية بشأن الانفجار.
تسرّبت معلومات تفيد بأن جهاز استخبارات أوروبي فاعل في لبنان نقل عبر وسيط معلومات الى إحدى الرئاسات اللبنانية تقول ان امتناع الدول عن تسليم صور الأقمار الصناعية الى لبنان رغم توجيه اكثر من 13 استنابة قضائية، انما يأتي بضغوط أميركية، وهو ما حمل هذا الجهاز الاستخباراتي الى الحديث عن شكوك بشأن دور أميركي ما منذ التفجير، وهذا يتطابق مع ما يقوله بعض المقرّبين من الحزب حين يتحدثون عن عملاء الاف بي أي الذين جاؤوا الى المرفأ بعيد التفجير.
يبدو ان حديث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مؤتمره الصحافي الأخير عن عزمه على تسليم صور الأقمار الصناعية الروسية ” في حال وجدت” كان في سياق رسائل الإنذار الى واشنطن بغية احراجها او جذبها الى مفاوضات حول ملفات مهمة.
يبدو كذلك ان المقرّبين من حزب الله صاروا أكثر ميلا الى احتمال ان يكون في التفجير عملٌ خارجي ربما حصل بصاروخ من بارجة عسكرية في عرض البحر، لكن الأمر ما زال في سياق الاحتمالات، وهو ما لم يكن في الاحتمالات الأولى للحزب.
لا يقدّم المقرّبون من الحزب أي معلومات مؤكدة حول ما لديهم من معلومات بشأن ملف التحقيق، لكنهم يعتبرون ان كل ما جرى حتى الان يستهدف حلفاءهم وبيئة واحدة فقط، ويعتبرون ان ذلك يصب في مصلحة الأميركيين وخصوم الحزب.
خصوم الحزب يقولون بالمقابل، ان هذا الموقف الصارم من قبل السيد نصرالله وقيادات الحزب ضد القاضي لا يُمكن تفسيرُه الا من خلال القلق من وجود معلومات ضد الحزب وحلفائه، والا لكانوا تركوا التحقيق يأخذ مجراه الطبيعي، ويؤكدون ان القاضي ليس بوارد التنحي مهما ارتفعت الضغوط، خصوصا ان اجتماعه مع مجلس القضاء الأعلى لم يتطرق مطلقا الى مسألة التنحي او إيجاد مخارج تبعده عن التحقيق. ويتساءل هؤلا، هل يحتمل الحزب نتائج اعتداء جسدي على القاضي، وهل لو تنحى سيصمت ؟ وهل يضمنون ان يأتي من ليس مثله أو اكثر تشدداً؟ وهل اتهام سمير جعجع الآن هو للمقايضة القضائية لاحقا بين التحقيق بالمرفأ والتحقيق بالطيّونة؟
ماذا في جريمة الطيونة ثانياً
الملابسات بشأن مجزرة الطيّونة كثيرة، ولا أحد يعرف تماما بعد كيف ولماذا سقط هذا العدد من الضحايا، فهل كان الأمر مجرّد ردة فعل طبيعية في بلد مُحتقن ؟ هل كان في الأمر فخٌ؟ ومن نصبه بالضبط ولماذا؟
تقول المعلومات:
إن حزب الله كان متردّدا لجهة المشاركة في أي تظاهرة، لكنه قَبِل ذلك بناء على رغبة حليفه الرئيس نبيه بري وحركة أمل. لكن بعد الجريمة صدر بيان مشترك من قبل الحزب والحركة، ثم تفرّد السيد نصرالله وبعض قيادات الحزب بالرد القاسي على القوات وبتمرير رسائل مبطّنة الى الجيش، بينما الرئيس بري سعى الى احتواء المشكلة، وشوهد نواب الحركة يصافحون نواب القوات في أول جلسة لمجلس النواب، بينما القوات ركّزت هجومها الخطابي على الحزب وتجنّبت الحركة، وهو ما بدا محاولة للفصل بين الحليفين. لعل هذا الصمت من قبل الحركة يُحرج الحزب ويُشعره بأنه لوحده في هذه المواجهة.
ثمة معلومات استخبارية كانت تتجمع لدى الحزب منذ فترة عن احتمال وقوع أحداث أمنية، وكان الفرنسيون يحذرون من تدهور أمني محتمل، وهم على علاقة جيدة بالحزب. فهل كان الحزب مطمئنا الى عدم حصول أي اشتباك ووقع بالفخ؟
أنذرت قيادةُ الجيش الحزب وحركة أمل من أن أي اقتحام للعدلية خطٌ أحمر، تماما كما كان أي اقتحام لمجلس النواب خطاً أحمر، وقالت بصراحة إن كل من يتخطى هذا الخط سيتعرض لإطلاق النار. وكان ردّ الحزب أن لا احد يفكّر مطلقا بالاقتحام وان التظاهرة ستكون لفترة قصيرة وتنتهي.
قالت مصادر سياسية أيضا ان قيادة الجيش أنذرت المسلّحين عند الساعة 12 ظهرا من بدء أحداث الطيّونة أن كل من يحمل السلاح أو يطلق النار سيتعرّض للرصاص. فهل دخل طرف ثالث على الخط خصوصا ان الحزب يقول انه كان اعطى أوامر بعدم حمل السلاح او استخدامه في ذاك النهار؟
تقول مصادر الحزب أن قيادات عسكرية من القوات اللبنانية جاءت الى منطقة الجريمة قبل ليلة واستكشفت المكان. فهل كانت تُعدّ فعلا لكمين عسكري، أم ردّت بغية القول انها الوحيدة القادرة على التصدي العسكري للحزب في المناطق المسيحية،أم أن طرفا ثالثا دخل على الخط لإشعال فتنة ونصب كمين؟ التحقيق قد يصل الى نتائج لو تُرك بلا ضغوط.
يتبين حتى الآن وفق مصادر مختلفة أن الضحايا من الحركة ثم من الحزب سقطوا برصاص قواتي أو من قبل الجيش، وذلك فان السؤال المركزي حاليا، هل ثمة قرار عفوي صدر من أحد ضباط الجيش أو أن الأمر كان أكثر تعقيدا وله ارتباطات خارجية.
ماذا في التحليل ثالثا ؟
من الواضح أن كل حدث أو زلزال أمني أو قضائي في البلاد، صار اليوم ورقة في الاشتباك الأميركي مع حزب الله. ولذلك فان أمين عام الحزب رفع مستوى الخطاب، وهو حين تحدّث عن 100 ألف مقاتل، كان يوجه رسالة واضحة لواشنطن وليس فقط للقوات لكي لا يتكرر ما حصل.
من الواضح كذلك أن هذه الاحداث الأمنية المتفرقة صارت تشاغل حزب الله في بيئات لبنانية مختلفة، فبعد الحوادث المتفرقة في خلدة وشويا والطيونة، ربما المطلوب الآن وضعه في مواجهة مُباشرة مع الجيش.
تأتي هذه التطورات قبل الانتخابات التشريعية التي يريد الحزب ترسيخ أقدامه من خلالها وتسعى أميركا وأيضا بعض العرب وحتما اسرائيل لإضعافه قبلها.
تأتي أيضا مع مفاوضات ترسيم الحدود المفصلية، وربما هنا سرٌّ كبير يُفسّر الكثير مما يجري.
ماذا في معلومات ترسيم الحدود رابعا؟
يقول مسؤول أوروبي على اطلاع جيد على الملف: إن قسما كبيرا من مفاوضات الترسيم حُسم قبل وصول الموفد الأميركي آموس هوكستين الى لبنان. فقد سبقت وصولَه اتصالات أميركية خصوصا مع الرئيسين ميشال عون ونبيه بري. ويقول الاميركيون ان الرجلين فقط هما أصحاب القرار الحقيقي في هذا الشأن. ويقال ان نائبة وزير الخارجية الأميركي ويندي تشيرمان هي التي تولّت الاتصالات مع الرئيس عون وربما أيضا مع الوزير جبران باسيل.
يقول المسؤول الأوروبي أيضا إن كل الأطراف اللبنانية موافقة على الترسيم وفق الخط 23 وان الرئيس عون قال للأميركيين انه يريد شيئا إضافيا ولو رمزيا فوق هذا الخط كي لا يقال انه تنازل، وأما قائد الجيش العماد جوزيف عون (الذي ربما يكون مُرشحا ذا حظوظ جيدة للانتخابات الرئاسية) فقد نقلت أوساط أميركية عنه قوله انه أداة تنفيذية لما تقرره الدولة وهو يتلزم بما تقوله الحكومة ولكنه اقترح خط قانا بالكامل مقابل خط كاريش لإسرائيل وهو ما اعتبره الرئيس بري أمرا جيدا
الواضح ان الاميركيين تولوا مهمة التفاوض غير الُمباشر عبر جولات بين إسرائيل وبيروت، وقالوا ان هذا يجنّب لبنان عقدة الوفد التفاوضي ( بين سياسي وعسكري) ويوفر تكاليف مالية ولوجستية لكل الأطراف في الناقورة، وان دور الأمم المتحدة يأتي في نهاية المطاف أي في وقت التوقيع على الاتفاق. بمعنى آخر فان الاميركيين استلموا الملف حاليا وليس الأمم المتحدة، وربما يضم الوفد اللبناني الوزيرين السابقين سليم جريصاتي والياس أبو صعب اللذين تم اقتراحهما من قبل الرئيس عون.
قال الأميركيون ان شركة عربية هي التي ستتولى التنقيب عند الحدود منعا لإحراج أي طرف، ويبدو ان الإمارات هي الأوفر حظا حتى ولو ان اسم قطر أدرج أيضا، وذلك فيما سيعود الفرنسيون الى الحقل رقم 4.
من الاقتراحات التي سيقت هو الاتفاق على تقاسم مزارع شبعا بين لبنان وإسرائيل وسورية وإعادة القسم اللبناني كاملا الى لبنان اذا ما تمت الموافقة على الترسيم البحري.
الواضح ان حزب الله مرّر رسالة إيجابية للمفاوضين وللخارج، وذلك بقوله انه سيقبل ما تقبله الحكومة، لكنه أبقى السلاح جاهزا في حال لم تلتزم إسرائيل، ويقال انه فعل ذلك بغية دعم المفاوض اللبناني وليس لإعاقة المفاوضات.
لا شك ان أطراف كثيرة تفيد من الترسيم لو حصل، فالرئيس عون يعيد وضع جبران باسيل على سكة الرئاسة بحيث تُرفع العقوبات الأميركية عنه، والرئيس بري يقطف الثمار السياسية على أنه سيد هذا القرار ومحوره، ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي يحتاج انفراجات لبنانية مع أميركا لإنجاز شيء ما في حكومته قبل الانتخابات، وهو بالأصل ليس من الذين يعترضون على واشنطن، والحزب يرتاح داخليا لأن الأميركيين سيرفعون السدود من امام الانتعاش الاقتصادي في لبنان ويزيلون العقوبات. لا بل أن ثمة من يتحدث عن احتمالات سياسية كبيرة في المستقبل اللبناني وبينها مثلا أن يصار الى تعديل النظام السياسي اللبناني بحيث يصبح انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من قبل الشعب وليس مجلس النواب، وان يصار الى استحداث منصب نائب رئيس يُعطى للطائفة الشيعية.
نحن اذا امام اشتباك أميركي مع حزب الله ولكن أيضا أمام اغراءات تفاوضية، فالحزب لن يعترض على ما تقرره السلطة اللبنانية، لكنه لا شك يأخذ بعين الاعتبار أيضا مصالح سورية وإيران، ولذلك فان الملف اللبناني لن يكون ابدا معزولا عن موقعي طهران ودمشق في المفاوضات الإقليمية والدولية الناشطة هذه الأيام خصوصا ان شكوكه الكثيرة والدائمة حول الأدوار الأميركية تقوده الى التفكير بأن ثمة محاولة أميركية إسرائيلية للفصل بين مزارع شبعا والجولان. ولهذا فان الأشهر التي تسبق الانتخابات اللبنانية ستبقى حُبلى بكثير من المفاجآت خصوصا مع عزم الحزب على تنحية القاضي بيطار، وبعد استدعاء رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع الى التحقيق، فعوامل التفجير ما زالت متوازية تماما مع مساعي التفاوض.