الاستدارة الإستراتيجية الأمريكية وما بعدها .. ج1
الدكتور احمد عز الدين | باحث مصري في الشؤون الإستراتيجية
هذه مرحلة الرمال المتحركة ، والأراضي الرخوة ، والعواصف التي تهب دون مقدمات ، والزلازل التي تشق باطن الأرض والشعوب نيام ، إنها قمة الانقلاب الإستراتيجي في الإقليم ، والنقطة الأعلى فوق منحنى الاضطراب العالمي الكبير .
وهي مرحلة لا تصلح معها الإرادات الناقصة ، ولا السيوف المغمدة ، ولا إستراتيجيات المُلاينة ، ولا الفجوات المتعاظمة في الأبنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، فهي مرحلة زادها الحروب الخفية وأعمال المخابرات ، وقانونها الأعلى هو الانصياع والفوضى .
لذلك فإنني أحسب أن في الاستدارة الإستراتيجية الأمريكية للخروج من أفغانستان ما هو موصول بها ، وما يستحق التوقف .
(2)
وفق كل الدراسات الأمريكية حول دور الرئيس الأمريكي في صنع القرارات ذات الطابع الإستراتيجي ما يؤكد أن دوره لا يتعلق إلا بعنصرين أثنين في سياق القرار ، هما توقيت اتخاذ القرار ، والصيغة التنفيذية له ، وبالتالي فلا هذه الاستدارة الإستراتيجية الأمريكية من صنع ( ترمب ) ولا هي من صنع ( بايدن ) وإنما من صنع مؤسسات الدولة الأمريكية وإن كان البنتاجون هو صاحب الدور الأكبر فيها دون جدال .
مع ذلك فإن الصيغة التنفيذية للقرار عكست صورة باهتة لقدرات الجيش الأمريكي ، فقد ساد سوء التقدير والارتباك والخوف ، وبدا الانسحاب هرولة أكثر منه عملا منظما ، وقد كانت أكثر اللحظات تعبيرا عن ذلك ، لحظة التفجير الانتحاري على أحد مداخل مطار كابل ، فلم تكن الأعداد الأكبر للقتلى والجرحى المدنيين ناجمة عن التفجير ، وإنما عن رصاص الجنود الأمريكيين الذين فتحوا نيران أسلحتهم الآلية دون تمييز تحت تأثير الصدمة والرعب ، رغم أن الإستراتيجية العسكرية الأمريكية استندت في كل حروبها خلال العقدين الأخيرين على نظرية عنوانها ( الصدمة والرعب ) .
(3)
عندما تنعقد القيادة للولايات المتحدة في كل الأحوال وفي مختلف الظروف ، فهي بطبيعة تكوينها لا بديل عن أن تكون قيادة ضاغطة ومنفردة ، لا تقبل من الحلفاء تدخلا مؤثرا في قرارها .
والحقيقة أن ذلك قد يبدو طبيعيا في حالة الحرب ، كما في الحرب العالمية الثانية عندما كانت تقدم 90% من حاجات الدعم للحلفاء ، الذين غضوا الطرف عن إصرارها الخشن على الإمساك بزمام الموقف كله ، بما في ذلك إنفرادها بالقيادة العسكرية ورسم خطط العمليات ، وقد تكرر ذلك نمطيا في الحروب التالية ، لكن ذلك لا يبدو متسقا مع حالة الانسحاب ومع توجه إستراتيجي يبدو انكماشيا ومستجدا ، لكن الواضح أن الجميع بما فيهم حلف الأطلنطي أحنوا رؤوسهم ، بينما لم ينجح الحليف الأول وهو بريطانيا في زحزحة موعد الانسحاب أياما ، أو في الإبقاء على قوة رمزية حفاظا على عنوان تآكل ، ولم يستطع البريطانيون أن يكظموا غيظهم وإحساسهم بالخذلان وفقدان الإرادة ، فلم يملك ( بن والاس ) وزير الحرب البريطاني نفسه إلا أن يصف الولايات المتحدة بأنها لم تعد قوة عظمى .
غير أن الشاهد في ذلك مع متغيرات عاصفة ، أننا أمام ذات أمريكية منقسمة على نفسها ، لكنها ممتلئة رغم ذلك بذاتها ، رغم ضعفها البادِ مصرّة على فرض رؤيتها على حلفائها وأصدقائها ، حتى بعد أن فقدت قدرتها على توجيه التحولات التاريخية الكبرى ، ورغم ما يمكن أن يترتب على ذلك من مخاطر لدول قد تصل بها إلى حالة الانكسار أو الفوضى ، أو تصل بسلطاتها إلى حالة الانتحار .
ففي أوج انحدار وجودي على قمة النظام الدولي ، مع تدن واضح في القوة والمكانة ، يفرض بدوره انكماشا جائرا ، تبدو أمريكا أكثر نرجسية وأنانية وعصبية وإنكفاءا على الذات ، وإذا كان ( ترمب ) قد سعى خالصا إلى زرع ” جرثومة التفكك ” في أوروبا لتبدو الولايات المتحدة في أفق الغرب كوكبا متفردا ، فإن مرحلة قيادة ( بايدن ) تسعى إلى تحويل الحلفاء إلى مفردات طائعة فيما تراه وفيما تريده قسرا وإرغاما ، وباختصار تريد حلفاء وأصدقاء مصنوعين من فطيرة التفاح الأمريكية .
(4)
لقد عبّر بايدن في خطاباته وكذلك وزير الدفاع الأمريكي أمام الكونجرس عن المفاجأة الصادمة وخيبة الأمل الكبيرة في انكشاف الجيش الأفغاني وفي السرعة المذهلة لسيطرة طالبان على أفغانستان ، فهل كانت هناك صدمة مفاجئة وخيبة أمل كبيرة حقا في المستويات القيادية العليا السياسية والعسكرية الأمريكية ؟
لا أعتقد ذلك ..
دعك من مسألة حسابات بناء الجيش وتسليحه ( 89 مليار دولار ) ، أو حسابات تطوير سلاح الجو بحيث يكون قادرا ومستداما ( 8.5 مليار دولار ) أو حسابات قيمة الأسلحة التي تركتها أمريكا ، سواء كانت صالحة أو غير صالحة ( 85 مليار دولار ) .
لقد تم بناء هذا الجيش بنظام المقاولات من الباطن ، وتم بناؤه على نحو نمطي على صورة الجيش الأمريكي بلا عقيدة وطنية ، ولا عقيدة عسكرية تتوافق مع بيئته الخاصة ( معدل الهروب من الخدمة 25% من قوة الجيش سنويا أي أن هذا الجيش تتغير بنيته كاملة كل أربع سنوات ) وقد كان ذلك وحده كافيا لتفككه السريع ، لكن هناك عوامل أخرى مصنوعة ، جعلت عملية التفكك تبدو كذوبان قطعة من الثلج تحت أشعة الشمس .
أول هذه العوامل ، أنه تم منذ عام إجراء تغييرات واسعة في قيادات الجيش ، حيث عُيّنت قيادات من ( الباشتون ) المتعاطفين مع طالبان على رأس القوات في أغلب المحافظات الشمالية والغربية تحديدا ، وقد جرى الأمر نفسه بالنسبة للمحافظين ، في الشمال والغرب ، لأن السيطرة على الشمال والغرب أولا ، تعني السيطرة على أفغانستان ، حيث تتمتع المحافظات الجنوبية والشرقية بأغلبية من الباشتون .
وثاني هذه العوامل أنه منذ عام – أيضا – لم يبق تحت سلطة وزارة الدفاع الأفغانية سوى 18 ألف عنصر فقط ، بينما تم توزيع بقية ال 300 ألف ضابط وجندي على الأجهزة الأمنية والشرطة ، والحقيقة أن رقم ال300 ألف نفسه هو الرقم الذي كان موجودا في جداول المقاولين العسكريين من الجانبين ، لصرف الرواتب ، لكن المصادر الأمريكية نفسها تؤكد أن ما كان موجودا على الأرض لا يتجاوز 1/6 هذا الرقم .
وثالث هذه العوامل أن قاعدة الجيش والأجهزة الأمنية من الجنود والمستويات الدنيا لم يحصلوا على رواتبهم على امتداد الشهور الأربعة السابقة على الانسحاب الأمريكي ، بل لم يحصلوا على مخصصاتهم من الطعام والذخائر .
ورابع هذه العوامل ، أنه مع بدء خطة السيطرة من الشمال والغرب ، تم خداع قادة الطاجيك والهزارة ، فقد تم فتح الطرق لدخول طالبان ، والواقع أنهم منعوا السلاح عن إسماعيل خان وسلموه لطالبان ، بينما فر عبد الرشيد دستم وعطاء محمد نور من مزار شريف عبر الحدود الأزبكية في اللحظات الأخيرة وكان تعليق نور موحيا : ” كنا ضحية لخيانة متأصلة نتيجة لمؤامرة كبيرة منظمة وجبانة ” .
وخامس هذه العوامل هو استخدام سلاح المال ، فقد وضعت بين يدي طالبان مبالغ طائلة من الدولارات ، منحة من دولة عربية لشراء الولاءات ومقايضة السلاح ، وفتح الطرق المغلقة ، وإغلاق الطرق المفتوحة .
لقد كانت هناك خطة متكاملة لبسط أفغانستان كاملة تحت أقدام طالبان ، وتمكينها منها ، وهي خطة بالغة الإحكام ، تقدم نموذجا لدور دولة أجنبية في بسط نفوذ قوة منظمة بعينها على أراضي الدولة التي تعيش فيها ، ومع ذلك لا مفاجأة في الحديث عن مفاجأة ، فخطة التعمية على خطة التمكين تسللت حتى إلى تقدير مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية ، ففي تقريره العام عن التهديدات لعام 2021 ورد بالنص : ” ستكافح الحكومة الأفغانية لكبح جماح طالبان ” ، كما تسللت إلى الجنرال ( مارك ميلي ) رئيس هيئة الأركان المشتركة ، فقبل ثلاثة أشهر فقط على الانسحاب ( مايو 2021 ) وفي مؤتمر صحفي معلن ، كان يفيض حماسة وهو يتحدث عن ( نقاط القوة لدى الحكومة الأفغانية والجيش الأفغاني )
(5 )
ماذا خلّف الأمريكيون من ورائهم ؟
تبدو الطلقة الأخيرة معيارا لما خلفوه ، ففي لحظات الرحيل الفاجعة أطلقوا طلقتهم الأخيرة في صورة طائرة مسيرة ليخلفوا بصمة دموية كبيرة باقية ، فوق أنقاض مبنى اختلطت بأشلاء 6 أطفال وأمرأتين ورجل .
إن المنسحبين دوما بعد أن يسمموا آبار المياه ، ويلغموا أفواه القرى ، وينتجون تلالا من القتلى والمعاقين ، حتى في القبائل الرعوية المتخلفة ، يغطون عورة ما صنعوه في لحظات الرحيل بأوراق الأشجار ، وربما يتركون إشارة إلى بئر ماء حفروه ، لكن الأمريكان أصروا على أن يتركوا وراءهم في اللحظات الأخيرة بصمة كبيرة بالدم .
لقد قالت صحيفة لوموند الفرنسية أنه : ” بعد عشرين عاما من التدخل حولت أمريكا أفغانستان إلى دولة مخدرات ” ، ورغم أن ذلك صحيح لكن فيه أثر لنمط التحديث الأمريكي ، فقد تدخلوا على جانبين ، تدخلوا لتطوير تكنولوجيا الزراعة لإنتاج محصول أوفر من الأفيون ، وتدخلوا في تكنولوجيا الصناعة لتحويل الأفيون إلى هيروين نقي ، وبالتالي أضافوا إلى اقتصاديات الأفيون والإرهاب في أفغانستان ( قيمة مضافة ) كبيرة ، فقد كان الأفيون يصدر خاما بأسعار زهيدة ، لكنهم أنعموا على الأفغان بمصانع لتحويل الأفيون إلى هيروين (وهي مصانع صغيرة تستخدم حمض الأستيك في إنتاج بلورات الهيروين) ، وقد مثل ذلك جانبا مما أدخله الاحتلال الأمريكي من مظاهر التحديث إلى هناك ، فلم تكن عملية التحديث من أولها إلى آخرها خارج هذا المفهوم، قشرة عصرية فوق جدران جانبية عتيقة ، سرعان ما تطردها عوامل خصوصية البيئة قبل عوامل التعرية ، من النخبة المشتراة بالمال إلى الديمقراطية الشكلية المشتراة بالإذعان ، والتي دهست أمريكا بحذائها الثقيل صورها التي صنعتها بنفسها ، سواء ما اعتبرته رئيسا منتخبا أو حكومة منتخبة أو برلمانا منتخبا ، وذلك لصالح تنظيم مسلح كان تصنيفه في أدبياتها أنه إرهابي .
ثمة دروس كبيرة لا تخطئها العين مثل أن أهم علامات ترنح الإمبراطوريات هو سقوط منظومات القيم الإنسانية والأخلاقية ، بينما يكون ذلك في الوقت نفسه متزامنا مع حالة من التمركز الشديد على الذات ، أما عن النظريات العسكرية والسياسية التي تهشمت فوق جبال أفغانستان وفي تربتها فهي عديدة ، وتكفي الإشارة إل نظريتين الأولى هي (الطلقة والصدى) ، فقد تبين أن الصدى أكثر تأثيرا وبقاءا من الطلقة ، والثانية هي نظرية ( جز العشب ) فقد تبين أن العشب لا يموت بالجز ، وإنما يقوى فكلما جززت طبقة من العشب دون تغيير البيئة يخرج الجديد أكثر قوة وقدرة على التمدد .
(6)
ماذا في جعبة هذه الاستدارة أو الهرولة الأمريكية للخروج من أفغانستان ؟
قد لا أبالغ إذا قلت أن هناك خطة تعمية أخرى ، على غرار التعمية السابقة التجهيز لتمكين طالبان ، وأن مفرداتها وزعت بدأب على كثير من المنابر السياسية والفكرية والإعلامية ، لحصر الرؤية والاهتمام ، إما بجزئيات الحالة الأفغانية الداخلية على غرار تنظيم خاراسان ، أو حصر الرؤية في الفضاء وتأثير الحالة الأفغانية على محيطها الجغرافي الواسع ، على أساس أن الهدف الإستراتيجي للانسحاب الأمريكي ، هو تفجير وسط آسيا وبحر قزوين ، بما في ذلك الصين وروسيا وإيران .. الخ .. وتلك مفردات قد لا تكون بعيدة عن غلاف الإستراتيجية الأمريكية ، لكنها بعيدة عن قلبها .
إن الانقلاب الإستراتيجي هنا في الشرق الأوسط ، وبؤرة الاضطراب الكبير هنا .
ثمة مخاطر كبرى تقرع الأبواب ، لكن الجميع مازال يطل من خلف النوافذ على ما وراء السحاب !!
يتبع